رغم 10 سنوات من مساعي التزييف.. كيف اندحرت رواية السيسي حول "مذبحة رابعة"؟

داود علي | منذ ٩ أشهر

12

طباعة

مشاركة

كثير من سرديات الأنظمة الديكتاتورية تقوم على فكرة أن "التاريخ ضمن غنائم المنتصر، وهو وحده صاحب الرواية الأحادية غير القابلة للتشكيك". 

واعتمد نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، على هذه القاعدة في سرده لمرحلة ما بعد الانقلاب العسكري في 3 يوليو/ تموز 2013، عندما أطاح باالرئيس المنتخب ديمقراطيا، محمد مرسي، ثم ارتكب أسوأ مذبحة في تاريخ مصر الحديث، يوم 14 أغسطس/ آب 2013، بفض اعتصام رابعة العدوية.

سالت الدماء بغزارة حينئذ وبالتزامن عمل السيسي وأجهزته على طمس الحقيقة الكاملة، عن طريق المسلسلات وبث رسائل إعلامية، بلهجة "ناعمة ومضللة" في آن واحد، من أجل حسم معركة استمالة "الظهير الشعبي" وتبرير الوقائع الدموية.

وهو ما حدث في سلسلة الدراما التلفزيونية "الاختيار" الذي عرض على مدار 3 مواسم أعوام 2020 و2021 و2022، وكانت تكلفة الموسم الواحد نحو 100 مليون جنيه (32 مليون دولار).

لكن في الذكرى العاشرة لفض رابعة والتي حلت يوم 14 أغسطس 2023، كانت أصوات الجماهير وشهادات من حضروا جنائز المغدورين من ضحايا السلطة، هي التي تفرض الواقع الحقيقي.

وأثبتت التقارير والروايات المحلية والدولية أن أصوات الشعب هي الأبقى والأعمق أثرا، لأن قصص هؤلاء لن تذهب هدرا، أمام الآلة الدرامية الأمنية، التي لا تقل في شراستها عن الأسلحة والمدرعات. 

إقرار رسمي 

في الذكرى العاشرة للفض، كشفت "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" عن  الوثيقة الرسمية الأهم عن وقائع فض رابعة والنهضة، والتي تضمنت بشكل أو بآخر شبه اعتراف رسمي من جهة تابعة للدولة بتورط الأجهزة الأمنية في فض دموي دون حسابات للعواقب. 

فالتقرير صادر عن "اللجنة القومية المستقلة لجمع المعلومات والأدلة وتقصي الحقائق" في الأحداث التي واكبت أحداث 30 يونيو/ حزيران 2013 وما أعقبها من وقائع. 

واللجنة تم تشكيلها في 8 يناير/ كانون الثاني 2014، بناء على قرار أصدره المستشار عدلي منصور (الرئيس المعين من قبل الانقلاب العسكري).

وقدمت بعدها اللجنة تقريرها الرسمي لكنه لم ينشر أبدا حتى حصلت "المبادرة المصرية" على نسخة منه، وكشفت للمرة الأولى اعتراف الحكومة بـ"المذبحة". 

وترأس اللجنة، أستاذ القانون، القاضي الدولي السابق بالمحكمة الجنائية الدولية، فؤاد عبد المنعم رياض، وقد توفي في يناير 2020 وكان آخر ما كتبه قبل وفاته بشهر شكوى من عدم نشر التقرير. 

نائب رئيس اللجنة، هو المستشار إسكندر غطاس، مساعد وزير العدل السابق، والأمين العام للجنة القاضي عمر مروان، الذي يشغل حاليا منصب وزير العدل.

وصدر التقرير الأصلي في 766 صفحة، لكن الدولة لم تنشر منه إلا 57 فقط، وأخفت الكثير من محتوياته. 

لكن "المبادرة المصرية" كشفت الجزء المخفي وهو الذي كان أعظم، وورد فيه أن "هيئات إنفاذ القانون أخفقت في تقدير أعداد ضحايا فض الاعتصامات". 

وذكرت أن السلطة ارتبكت في الخيار بين فض التجمع بأي ثمن في وقت قصير أو فضه بثمن أقل ومدة أطول، لكنها انحازت في النهاية إلى الخيار الأول "الفض بأي ثمن".

أما السطر الأبرز في التقرير أن "العدد الأكبر من ضحايا رابعة، هم من المدنيين الأبرياء الذين كانوا على الأرجح من المتظاهرين السلميين".

وهو ما نسف رواية النظام والتي روج لها في الأعمال الدرامية مثل "الاختيار" أو عبر برامج "التوك شو" في القنوات المحسوبة على السلطة، من أن المعتصمين "كانوا إرهابيين ومسلحين".

تقارير دولية 

النقطة الثانية التي ساهمت بقوة في دحض الرواية الرسمية لنظام السيسي بشأن عملية الفض الدموي، هي التقارير الدولية من مختلف صحف العالم، لا سيما الكبرى منها، التي نقلت شهادات مفزعة عن المذبحة.

ففي الذكرى العاشرة للفض، كتبت صحيفة "الغارديان" البريطانية واسعة الانتشار، في افتتاحيتها، أنه "قبل 10 أعوام، روجت السلطة المصرية لأكاذيب استهدفت تشويه المعتصمين في ميداني رابعة العدوية والنهضة".

ولفتت إلى أن "السلطة هيّأت الرأي العام للمجزرة التي ارتكبتها قوات من الشرطة والجيش بحق المعتصمين، وصفتها منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية الدولية بأنها (أكبر عملية قتل لمتظاهرين في العصر الحديث)".

وأكدت أن "السيسي أمر الشرطة والجيش بقمع المتظاهرين السلميين وسط القاهرة، ليتم قتل 817 شخصا على الأقل في المذبحة، وهو ما لم يكن فقط نهاية الأمل لدى أنصار الحكومة المطاح بها، بل ضربة للربيع العربي، الذي ما لبث أن أصيب في مقتل".

وشددت الصحيفة على "أنه تزداد أهمية تذكر الضحايا الذين قضوا نحبهم عندما لا تلوح في الأفق إمكانية محاسبة المسؤولين عن المجزرة".

بينما وصفت شبكة "سكاي نيوز" البريطانية، مجزرة رابعة بأنها "أكثر الأيام دموية في تاريخ مصر الحديث".

وأشارت إلى مقتل مراسلها، مايك دين، برصاص قناص خلال تغطيته الاحتجاجات.

وقالت الشبكة البريطانية إن "مصر قبل 10 سنوات، كانت في حالة اضطراب، حيث تدفق عشرات الآلاف من المصريين إلى الشوارع للمطالبة بالتغيير، وانتهى الأمر بمذبحة مروعة سيئة السمعة".

وكذلك نشر موقع "بي بي سي" البريطاني شهادته في الذكرى العاشرة من المذبحة، حيث أورد أن "مصر شهدت قبل 10 سنوات، يوما لم تعرف مثله في تاريخها القريب، وسقط مئات القتلى من المدنيين في ساعات قليلة، وباتت القاهرة أقرب إلى ساحة الحرب، لا يسمع فيها سوى صوت طلقات الرصاص وصافرات سيارات الأمن".

ونقلت عن أحد الناجين من المذبحة وصفه للحدث قائلا: "قتلت الإنسانية في مصر في ذلك اليوم".

شهود المذبحة

وإذا كان النظام المصري قد اعتمد ورقة الأعمال الدرامية والسينمائية لطمس المذبحة، فإنه في عالم النيوميديا ووسائل التواصل الاجتماعي والأفلام الوثائقية، لا يمكن إخفاء الحقيقة بسهولة. 

فمنذ ذلك التاريخ، صدرت العديد من الأفلام الوثائقية والبرامج التي نقلت شهادات أهالي ضحايا المجزرة، أو الذين أصيبوا ونجوا بصعوبة من الجريمة. 

وكان من أشهر الأفلام التي نشرت بدقة، شهادة الذين حضروا الفض، هو فيلم "شهود المذبحة" الذي بثته قناة "الجزيرة" الفضائية عام 2016، وورد فيها شهادات مفزعة عن طبيعة القتل والقنص في ذلك اليوم، وكيف أحرق المستشفى الميداني بمن فيه في نهاية الواقعة على يد قوات الجيش.

وهناك أيضا فيلم "رابعة بعد الخامسة والنصف" الذي أذيع عبر قناة "الجزيرة" الوثائقية عام 2017، وروى الشهود فيه أكذوبة ما يعرف بـ"الممر الآمن" الذي زعم النظام أنه أوجده لخروج المعتصمين بأمان، لكن الحقيقة أن الكثير من القتلى سقطوا بداخله برصاص القناصة. 

وتضمن الفيلم شهادات عن حرق جثث المعتصمين، وتعمد إخفائها وهو ما يفسر وجود أعداد كبيرة من المفقودين. 

أما آخر الأفلام، فهو الفيلم الذي عرضته منصة "إيجيبت ووتش" الحقوقية، حيث أنتجت فيلما عالميا يوثق مجزرة رابعة.

وتم العرض الافتتاحي للفيلم الوثائقي، الذي حمل عنوان "ذكريات مذبحة"، في 3 أغسطس/ آب 2023، في قاعة الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون "بافتا".

الفيلم تضمن مقاطع مصورة كثيرة توثق المذبحة، وأيضا شهادات أدلى بها الناجون، وتصريحات وتحليلات لشخصيات بارزة بما في ذلك بن رودس، المسؤول السابق في إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، ومراسل "نيويورك تايمز"، ديفيد كيركباتريك، والمديرة الإقليمية السابقة في "منظمة هيومن رايتس ووتش"، ساره ليا ويتسون.

وأظهر الفيلم مشاهد مصورة لقناصين اتخذوا لأنفسهم مواقع فوق أسطح البنايات المحيطة بميدان رابعة، كما أظهر طائرات عمودية وهي تطلق النار على المعتصمين. 

وقال كيركباتريك عن الفيلم إنه "ليس مجرد توثيق لمذبحة، بل إنه توثيق لموت الديمقراطية المصرية، وتحطم الأحلام التي تشكلت في ميدان التحرير (ثورة 25 يناير 2011)".

من جانبه، تحدث المخرج والمنتج الإعلامي المصري، محمود سعيد، عن أسباب إخفاق النظام المصري في إقرار روايته عن فض رابعة رغم الملايين التي أنفقت على الأعمال الدرامية وغيرها من الأعمال التي شوهت الاعتصام وأيدت حق النظام في فضه بهذه الطريقة الدموية.

وقال سعيد لـ"الاستقلال" إن "هناك فارقا كبيرا بين رواية الخيال والدراما، ورواية الواقع، خاصة ونحن نتحدث عن واقعة شهدناها بأعيننا وغيرنا من عشرات الآلاف من المصريين من ضحاياها بطريقة أو بأخرى".

ورأى أن "فض اعتصام رابعة ليس تاريخا من ألف أو مئة سنة، بل نحن نتحدث عن 10 سنوات فقط، نستطيع قول إن دماء الضحايا لم تجف، ولم تبتلعها الأرض بعد، أهالي وأبناء ضحايا رابعة مازالوا متواجدين ويطالبون بالقصاص ويقصون قصتهم للجميع".

وأتبع: "ما بين رواية النظام والرواية الحقيقية، هو الفارق ما بين النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة، ولا نغفل العامل الأهم وهو المجهود الذي بذل على مدار سنوات لإنتاج أعمال توثيقية ساهمت في إبقاء رواية فض الاعتصام قائمة، وفشلت السرديات المكذوبة الأخرى، التي سعى السيسي ونظامه إلى إقرارها عنوة".