يكتم أفواههم ويلاحقهم ويسجنهم.. قيس سعيد يشن حربا على صحفيي تونس

ضمن مسلسل الارتداد إلى الوراء، يخطو رئيس النظام التونسي قيس سعيد خطوات سريعة نحو ضرب السلطة الرابعة بالبلاد، في خضم إجراءات انقلابية بدأها في يوليو/تموز 2021.
كان آخر هذه التطورات، مثول الإعلاميين إلياس الغربي وهيثم المكي أمام أحد الفرق الأمنية بسبب شكوى تقدم بها أمنيون على خلفية إحدى حلقات برنامجهم الإذاعي.
وتجمع العشرات من الصحفيين والحقوقيين والناشطين السياسيين صبيحة 22 مايو/أيار 2023، قبالة مقر إدارة الأبحاث الأمنية بالقرجاني وسط العاصمة تونس للتنديد بهذه الملاحقة.
علاقة متوترة
وتأتي ملاحقة الصحفيين العاملين في إذاعة موزاييك، والتي تعد الأولى من حيث نسب الاستماع، بعد قرابة 3 أشهر من إيقاف مديرها نور الدين بوطار ضمن حملة الاعتقالات التي طالت عددا من السياسيين والحقوقيين في ما بات يعرف بقضية التآمر على أمن الدولة.
واتسعت دائرة الصحفيين الملاحقين قضائيا لأسباب مختلفة في الفترة الأخيرة، في وقت باتت حرية الإعلام والنشر والتعبير مهددة بالفعل منذ انقلاب 25 يوليو 2021.
وبعد هذا التاريخ الذي شهد حل سعيد للحكومة ثم البرلمان والإمساك بكل السلطات، شهدت البلاد تجاوزات متكررة في حق الصحفيين ومحاكمات عسكرية وسنّ قوانين عدت مقيّدة للحريات.
منذ فوزه بالانتخابات الرئاسية وأدائه اليمين الدستورية رئيسا للبلاد في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2019، أجرى قيس سعيّد حوارا صحفيا يتيما مع التلفزة الوطنية الرسمية بمناسبة مرور 100 يوم على انتخابه.
واكتفى الرئيس التونسي باستعمال الصفحة الرسمية لمؤسسة الرئاسة منبرا وحيدا لمخاطبة التونسيين، كما تلزم رئاسة الحكومة وزراءها الصمت وعدم الاستجابة لطلبات الصحفيين بإجراء مقابلات أو الحصول على تصريحات أو معلومات.
وخلال قمة الفرانكفونية التي احتضنتها جزيرة جربة جنوب البلاد يومي 19 و20 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، هاجم قيس سعيد إذاعة "موزاييك أف أم" والمؤسسات الإعلامية، على إثر سؤال وجهه له صحفي الإذاعة، شاكر بسباس.
فقد طرح الصحفي سؤالا يتعلق بالقمة على رئيس الدولة، لكن الأخير أجابه "أولا أنت تتحدث عن موزاييك، كل يوم يتحدثون لديكم ما يشاؤون وعن الديكتاتورية، فعن أي ديكتاتورية تتحدثون؟"
وحين سأله الصحفي عمن يتحدث عن الديكتاتورية أجاب سعيّد "بعض المدعوّين والعاملين بإذاعة موزاييك وغيرهم من المؤسسات الإعلامية الأخرى فضلا عن الصحافة يتحدثون عن الديكتاتورية، لأنهم للأسف يتحدثون باسم أطراف سياسية معلومة" وفق قوله.
هذا التصريح بقي عالقا في ذهن التونسيين حتى داهمت قوات الأمن مساء 13 فبراير/شباط 2023 منزل مدير إذاعة موزاييك نور الدين بوطار حيث عملت على تفتيشه واعتقاله، قبل أن يقرر القطب القضائي الاقتصادي والمالي حبسه.
نتائج الانقلاب
بالتزامن مع هذا التدهور، أظهر التقرير السنوي لحرية الصحافة لمنظمة "مراسلون بلا حدود"، 3 مايو/أيار 2023، أنّ تونس تراجعت إلى المركز 121 من ضمن 180 دولة في الترتيب السنوي لحرية الصحافة.
وجاء ذلك بعد أن كانت تونس في المركز 94 سنة 2022 وفي المركز 73 سنة 2021 وخسرت بذلك الصدارة العربية إلى المركز الخامس عربيا بعد جزر القمر وموريتانيا وقطر ولبنان.
وقالت منظمة مراسلون بلا حدود في تقريرها إن "الوضع الاستثنائي الذي فرضهُ الرئيس قيس سعيّد في يوليو 2021 أثار العديد من المخاوف بشأن تراجع حرية الصحافة في البلاد".
ورأت أن القضاء التونسي يواصل إصدار أحكام على أساس النصوص الموروثة من (الرئيس الأسبق زين العابدين) بن علي، بدلا من الاستناد إلى تشريعات عام 2011 الأكثر ملاءمة لحرية الصحافة والحق في الإعلام".
ففي أبريل/نيسان 2022، قضت المحكمة العسكرية بتونس بسجن الإعلامي بقناة الزيتونة عامر عياد 4 أشهر بتهمة "المس برئيس الجمهورية".
ويتعلق الأمر بما اشتهر أنها "قضية قصيدة أحمد مطر" حيث سبق أن ألقى الصحفي عياد قصيدة للشاعر العراقي الشهير في حصة تلفزيونية بحضور السياسي عبد اللطيف العلوي الذي كان ضيفه بالبرنامج.
ووقتها جرى النظر إلى القصيدة على أنها "تمس الرئيس التونسي"، كما حوكم الصحفي صالح عطية في أغسطس/آب 2022، عسكريا على خلفية تصريحات أدلى بها لقناة الجزيرة.
وأودع صالح عطية السجن في 13 يونيو/حزيران 2022 بأمر من النيابة العسكرية بعد مشاركته في برنامج سياسي، أعلن فيه أن أحد قياديي الاتحاد العام التونسي للشغل، كبرى المنظمات النقابية التونسية، أعلمه بأن قيس سعيد أمر الجيش بمحاصرة مقار الاتحاد، وهو ما لم تستجب له القيادة العسكرية.
وأصدر الاتحاد العام التونسي للشغل، في 14 يونيو 2022، بياناً نفى فيه تصريحات صالح عطية.
والتهم التي وجهت إلى عطية هي "المسّ من كرامة الجيش الوطنيّ وسمعته والقيام بما من شأنه أن يُضعف في الجيش روح النّظام العسكريّ والطّاعة للرّؤساء"، و"نسبة أمور غير قانونيّة لموظّف عموميّ من دون الإدلاء بما يُثبت صحّة ذلك"، و"الإساءة للغير عبر الشبكة العمومية للاتصالات".
كما قضى قطب مكافحة الإرهاب بالسجن 4 سنوات في حق الصحفي في إذاعة موزاييك خليفة القاسمي بعد رفضه الكشف عن مصادره وفق ما يضمنه له القانون.
وعلى خلفية شكوى تقدم بها وزير الشؤون الدينية إبراهيم الشائبي، يلاحق الصحفي بإذاعة كاب اف ام محمد بوغلاب والصحفية بجريدة الصباح منية العرفاوي بعد كشفهما شبهات فساد في الوزارة.
ووفّر قيس سعيد سندا قانونيا لملاحقة المدونين والصحفيين والناشطين، إذ يعد المرسوم رقم 54 الصادر في سبتمبر/أيلول 2022 تهديدا جديدا لحرية الصحافة في البلاد، وسيفا مسلطا على المواطنين.
فمنذ دخول المرسوم 54 حيّز النفاذ، لم تتوانَ السلطة القائمة على اعتماده لترهيب الأصوات المناوئة لتوجّهات الحكومة أو رئيس الجمهورية، سواء تعلّق الأمر بنقل احتجاجات أو نشر مقال صحفي أو حتى تقديم قراءة قانونية أو سياسيّة.
وهنا تسارع السلطة الحاليّة بذراع وزارة العدل في استعمال الفصل 24 من المرسوم 54 لـ”معاقبة” وتهديد كل من ينتقد ما يحدث في تونس.
نحو الأسوأ
هذا المشهد القاتم في تونس، وحجم الاستهداف للصحفيين ولحرية التعبير عموما يرى مراقبون بما لا يدع مجالا للشك أنه أدخل البلاد بالفعل إلى مربّع الاستبداد المظلم.
وتضيق السلطة ذرعا بكلّ الأصوات المختلفة، وتفضّل التعتيم على كل القضايا التي تهم المواطنين وتكتفي فيها برأي واحد صادر من قبل الجهات الرسمية.
ولا يبدو أن قيس سعيد والنظام الجديد في تونس يعبأ بحجم الانتقادات الداخلية والخارجية التي رافقت كل التجاوزات التي ارتكبها، وهو ما يجعله يواصل نفس السياسة المعتمدة في ضرب الخصوم السياسيين وتقييد الحريات وهدم كل المكتسبات التي حققتها تونس بعد ثورة العام 2011.
ويرى ناقدون أنه ورغم وضوح المسار الاستبدادي لقيس سعيّد منذ إعلانه عن قراراته بتجميع كل السلطات بيده يوم 25 يوليو 2021، فإنه ولحسابات بعضها قطاعية وأخرى أيديولوجية جعلت من جلّ الصحفيين ونقاباتهم يتخلّفون عن المشاركة في التصدي للانقلاب والتحذير من انحرافه بالسلطة.
فلم تعبّر نقابة الصحفيين عن أي موقف مساند للإعلامي عامر عياد مما عد حينها موقفا سلبيا منها ضد قناة الزيتونة التي يعمل بها الصحفي والمحسوبة على الإسلاميين.
كما أن المؤسسات الإعلامية ككل وممثلي النقابات لم يكن لهم موقف واضح من الدستور الجديد الذي وضعه قيس سعيّد بنفسه ومثّل تراجعا كبيرا عن جملة من المكتسبات التي تحققت في دستور العام 2014.
وفي هذا السياق يرى النائب السابق والقيادي في حركة النهضة الإسلامية محمد القوماني أن كل "المؤشرات تؤكد أننا أمام تركيز ديكتاتورية ناشئة جديدة".
وأضاف في حديثه لـ"الاستقلال": "بعد أن ظننا أن عهد الديكتاتورية انتهى بثورة 2011، وبعد أن جاءت الحريات بسقفها العالي خلال عشرية الانتقال الديمقراطي، بدأنا الآن ننتكس".
إذ لا يمكن أن نفسر محاكمة رموز المرحلة السياسية الماضية وحتى الذين لم يكونوا في السلطة إلا بعنوان تأسيس ديكتاتورية، وفق قوله.
وأردف: "فالمحاكمات طالت رئيس سابق (المنصف المرزوقي) ورئيس مجلس نواب (راشد الغنوشي) وسياسيين وأمنيين وقضاة وحقوقيين والآن تمتد إلى صحفيين وإعلاميين، حيث أكثر من 20 إعلاميا تلاحقهم السلطة بسبب مقالات أو تصريحات أو تدوينات".
ورأى القوماني أن "كل هذا هو ثمن وكلفة لضعف التضامن أو التضامن على المقاس الذي ساد بعد إجراءات 25 يوليو 2021، عقب السكوت على حل البرلمان وتعطيل الدستور واستهداف النواب بطريقة غير قانونية الآن يدفع الجميع الفاتورة لأن طاحونة الاستبداد تطحن جميع من يواجهها".
وأكد القيادي في حركة النهضة أن "السلطة لها شره في القمع والتضييق على الحريات، وهي ستقمع بقدر قبول المقموعين، أما إذا أنتج هذا القمع حالة وعي لتتوحد الأطراف السياسية والمجتمع المدني ويجرى التخلّي عن فكرة التضامن على المقاس، عندئذ يمكن أن نوقف هذا القمع".
لكن ورغم تراجع دور منظمات المجتمع المدني والنقابات، وتحجيم دور الأحزاب السياسية المعارضة التي طال الاعتقال جل رموزها وقياداتها، تبقى السلطة في تونس محاصرة بجملة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية لا تزال تمثّل تهديدا لاستقرارها.