قرطبة تواجه محاولات محو هويتها الإسلامية.. من يقف خلف المخطط؟

إسماعيل يوسف | منذ عام واحد

12

طباعة

مشاركة

في 27 فبراير/ شباط 2023 سربت صحيفة "إلبايس" الإسبانية، تفاصيل عن "مخطط" للكنيسة الكاثوليكية في إسبانيا، تهدف إلى تغيير الطابع الإسلامي لمسجد قرطبة الشهير".

"إلبايس" نشرت تقريرا مسربا كتبه أسقف قرطبة، ديميتريو فرنانديز غونزاليس، يدعو إلى "إعادة تصميم المساحة الكاملة" لمنطقة المسجد لضمان عدم اعتبار وظهور قرطبة كـ "مدينة إسلامية".

قالت إن المخطط يزعم أن الهدف هو "تصحيح" ما تعده الكنيسة "رؤية إسلامية مبالغ فيها" لماضي المدينة.

إذ نص تقرير أسقف قرطبة على: "الحاجة إلى إعادة تصميم مساحة المسجد لأن قرطبة تغلب عليها صبغة ثقافية إسلامية قوية للغاية".

أوضحت أن "أسقفية قرطبة تريد إعطاء الأولوية للتراث المسيحي في المسجد التاريخي وإظهاره ككاتدرائية".

وبين أن الكنيسة وضعت "مشروعا توسعيا لمتحف الأبرشية يستهدف وقف الاختزال الثقافي القوي للمكان والمدينة في الإسلام الذي يطغى على ماضي المكان الغربي والروماني والمسيحي".

وجرى تشييد " مسجد قرطبة" عام 785م في عهد الأمير عبد الرحمن الداخل ليكون الجامع الرئيس في المدينة التي كان يحكمها المسلمون آنذاك، ثم تم توسيعه عام 1009م ليصبح ثالث أكبر جامع في العالم. لكن بعد سقوط الحكم الإسلامي للأندلس، حُول مسجد قرطبة عام 1236 إلى كاتدرائية.

وأجبر الصليبيون الإسبان من تبقى من المسلمين تحت الحكم المسيحي على اعتناق المسيحية بمقتضى مرسوم ملكي في 14 فبراير 1502 (6 شعبان 907 هـ)، وأطلق عليهم "الموريسكيون"، أي مسلمي المغرب العربي الذين بقوا في الأندلس.

الخطط التي تناولتها صحيفة "إلبايس"، نشرت المزيد عنها صحيفة "التايمز" البريطانية في 28 فبراير 2023. وذكرت أن أسقف قرطبة لا يريد أن يعترف أن كنيسته كانت في يوم من الأيام مسجدا.

 ويحاول هذا الأسقف إهالة التراب على المعمار الإسلامي بدعوى أنه مسيحي بيزنطي نسبه المسلمون لأنفسهم، ويريد محو الإسلام عنه، وفق الصحيفة.

أوضحت أن الكنيسة تريد تغيير معالم مسجد قرطبة الذي يعد واحدًا من أروع المباني في أوروبا، ويعكس الطراز المعماري الإسلامي، وأسسه بنو أمية على مراحل بين أواخر القرن الثامن وأوائل القرن العاشر الميلاديين.

"مع أنه تحول في العام 1236 ميلادي إلى كاتدرائية، لم يغير ذلك شيئًا من هوية مسجد قرطبة الإسلامية، وبقي نفس الطراز الاسلامي المميز للمسجد والأبنية المحيطة به"، بحسب "التايمز".

أضافت: "وهذا هو ما تستهدف الكنيسة تغييره لأنه لا يعبر عن مرحلة استيلائهم على المسجد. وبينت "التايمز" أن هذا الملمح الإسلامي للمبنى، وللمساحة المحيطة به، "بات مشكلة للبعض".

لذا أطلقت الكنيسة حملة موسعة لتقليص الطابع والتراث الإسلامي للمبنى، والنظر إليه في المقام الأول على أنه معلم مسيحي، وفق الصحيفة.

محاولات فاشلة

وهذه ليست المرة الأولى التي يحاول فيها أسقف قرطبة تنفيذ مخططه، إذ تصدت له جهات ثقافية إسبانية تسعي للحفاظ على التراث المعماري الإسلامي بسبب أهميته التاريخية، فهذه رابع مرة يفعل ذلك.

المرة الأولى، كانت عام 2013، وقد كتب عنها الكاتب الألماني "ديتر بارتيتسكو" في صحيفة "فرانكفورتر ألغماينه"، وترجمة موقع "قنطرة" الألماني التابع لتلفزيون "دويتشه فيله" عام 2014. كتب "بارتيتسكو" حينئذ ينتقد إنكار كاتدرائية قرطبة "إسلامية المدينة".

قال: "يود أسقف قرطبة لو يتناسى الناس أن كاتدرائيته كانت في الماضي مسجداً، لكن من يتنكر في أيامنا هذه للتراث الإسلامي في إسبانيا فهو ينكر نحو 5 قرون من التاريخ المؤثر ثقافياً في البلاد".

أشار إلى تقديم مؤرخين وقانونيين وصحفيين إسبان التماسا على الإنترنت نهاية عام 2013، وقع عليه 91 ألف متعاطف، يطالب بوضع كاتدرائية قرطبة تحت إشراف الدولة. 

والسبب محاولة أسقف قرطبة تحكمه في الكاتدرائية، والاستيلاء عليها، وسعيه لنزع الرموز الإسلامية عنها، ومحو وصف "مسجد" من الكتيب الرسمي للمِسكيتا كاتيدرال "الكاتدرائية المسجد" Mezquita Catedral.

قالوا إن كل هذا يتنافى مع إعلان اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة) لـ "المسكيتا" في عام 1986 "رمزاً للوئام بين الحضارات والأديان المختلفة" وضمها إلى قائمة التراث الثقافي العالمي.

والمرة الثانية التي حاول فيها أسقف قرطبة محو أي صفة إسلامية لقرطبة كانت عام 2017.

إذ زعم في 15 يناير/كانون ثان 2017 خلال مقابلة مع الصحفي "جون سيستياغا" في "المجلة 17" حول تحليله للوضع الثقافي في قرطبة أن أصلها كنيسة "بيزنطية"، بحسب موقع "كوردوبوليس".

زعم أن أمراء قرطبة بنوها بأموالهم فقط، لكن بخبرات مسيحيين وأعمدة "بازيليك مسيحية"، أي مبان طرازها روماني إغريقي، في عهد الوزير عبد الرحمن الأول، في القرن الثامن.

قال إن الأمويين أعجبتهم التقاليد الأوروبية الكلاسيكية، وخاصة الهلنستية (عهد الإسكندر الأكبر وذروة النفوذ اليوناني)، ووريثها المسيحي في بيزنطة، وهذا يجعل مسجد قرطبة "الشاهد الغربي الأخير" على التأثير اليوناني"، متجاهلا الحقيقة الإسلامية للمكان.

والمرة الثالثة كانت حين أثار الأسقف جدلًا واسعًا بتصريحات قال فيها إن "مسجد قرطبة تجسيد للفن المسيحي"، وأن "الخلفاء الأمويين لم يكن لديهم مهندسون معماريون ولم يبدعوا فنًا جديدًا".

زعم أن "المور (اصطلاح كنسي يقصد به المسلمون المغاربة، وبالإسبانية تسمي موروس Moros) لم يبدعوا فنا ولكن أنفقوا مالا فقط للبناء"، بحسب موقع " asturias leica" في 6 مارس/آذار 2023.

قال إنهم "لجأوا إلى مواطنيهم المسيحيين في دمشق ونقلوهم إلى قرطبة لإنشاء المسجد، ولذلك فهو ليس تجسيدًا لفن إسلامي، إنها عمارة بيزنطية".

وكان ملفتا أن صحفا غربية سعت للمقارنة بين سعي كنيسة إسبانيا تحويل مسجد قرطبة إلى كنيسة وقيام تركيا بما أسمته "أسلمة" آيا صوفيا.

صحيفة "الغارديان" قارنت في 4 مارس 2023 بين "تنصير مسجد كاتدرائية قرطبة مع أسلمة آيا صوفيا في إسطنبول".

وقارن كاتب المقالات البريطاني من أصل هندي "كنعان مالك" اقتراح الكنيسة الإسبانية لمكافحة ما تسميه "الاختزال الإسلامي" لنصب قرطبة مع قرار الحكومة التركية إعادة الكاتدرائية الأرثوذكسية والكاثوليكية القديمة إلى مسجد.

عمود الصحيفة البريطانية، انتقد بدوره محاولة كنيسة قرطبة إحداث تغيير في هيئة مدينة قرطبة Mezquita Catedral de Córdoba، حيث نقلت قيادة الكنيسة "مركز الاستقبال والتفسير بمسجد كاتدرائية قرطبة"، إلى "القصر الأسقفي".

لكن الكاتب قارن بين ما فعله أسقف قرطبة، ديميتريو فرنانديز، بهدف تغيير هوية المسجد، بالقرار الذي اتخذته الحكومة التركية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان في عام 2020، والخاص بإعادة الصلاة في مسجد أيا صوفيا وتغطية الفسيفساء البيزنطية (الصلبان) للكاتدرائية القديمة أثناء الصلاة، برغم فارق المقارنة.

تبرر الأسقفية، في الملف الذي قدمته لبلدية قرطبة، نقل المركز الإسلامي بدعوى "الحاجة إلى إعادة تصميم المساحة بأكملها" للقصر الأسقفي، بعدما تبين لها أن قرطبة "تحمل علامة ثقافية قوية جدًا كمدينة مسلمة". 

ويصر تقرير الكنيسة على أن هدفها هو "مراعاة السياحة كقرطبة وإبرازه ككنيسة لا مسجد".

تاريخ قرطبة 

شيد مسجد قرطبة على طراز المسجد الأموي بدمشق، ويتألف من حرم عرضه 73.5 مترا، وعمقه 36.8 مترا، مقسم إلى 11 رواقا، بواسطة 10 صفوف من الأقواس، يضم كل منها 12 قوسا ترتكز على أعمدة رخامية.

إضافة إلى وجود 4 حدائق في فناء المبنى وتُسمى الرياض، وزخارف هندسية وأرابيسك متقنة من الخشب والجص، فيما تُزين جدران وأعمدة المسجد الكثير من العبارات ومعظمها آيات قرآنية.

ويتميز مسجد قرطبة بمزيج معماري بديع، وفقًا لصحيفة "التايمز"، إذ دمجت فيه الجماليات الفنية الشرقية والغربية والتقنيات الفنية الرومانية والقوطية في البناء.

وتضمن عناصر لم تكن معروفة سابقًا في العمارة الدينية الإسلامية مثل استخدام الأقواس المزدوجة لدعم السقف ومزج الحجر بالطوب.

لذا تختلط في قرطبة العمارة الإسلامية والمسيحية فترى القباب المقوسة والتشكيلات الطبيعية والهندسية الإسلامية والرسومات وصور القديسين.

ولم يكن المسجد، خلال التاريخ الإسلامي في الأندلس، دارًا للعبادة فحسب، بل كان أيضًا جامعة للتدريس، وكان "أحد أعظم مراكز التعليم في العالم"، ويسمي حاليا باسم "المسجد الكاتدرائية" أو Mezquita Catedral.

وشهد مبنى "قرطبة" عددا من التحولات الغريبة فكان في بدايته معبدا وثنيا وعندما سيطر القوط (قبائل جرمانية شرقية) على إسبانيا، بنوا كنيسة في المكان.

وعقب الفتح الإسلامي، تشارك المسلمون والمسيحيون في الكنيسة، حيث أصبح شطر منها مسجدا والآخر كنيسة.

وبعد فترة اشترى "عبد الرحمن الداخل" أرض الكنيسة، وبنى ورمم باقي كنائس المسيحيين في الدولة، لكن بعد سقوط قرطبة على يد فرديناند الثالث، قائد مملكة قشتالة في يونيو/حزيران 1236، حول الأسبان مسجد قرطبة إلى كاتدرائية.

وقد حمل المسجد في البداية اسم "جامع الحضرة" أي جامع الخليفة وكان صغير الحجم ولم تزد مساحته آنذاك 4875 متراً مربعاً، إلا أن المسجد تهدم منه أجزاء وكانت عمارته قليلة، فتم هدمه وبناء مسجد قرطبة الكبير على مدار قرنين.

ويعد صحن المسجد الكبير قطعة فنية إسلامية، فهو محاط بسور يتخلله سبعة أبواب، وفي جهته الشمالية توجد المئذنة، وقد بنيت في جزء منه كاتدرائية كان يؤمها المسيحيون للعبادة. 

وقبيل سقوط دول الأندلس اجتاح قساوسة قرطبة سنة 633 هجرية / 1236 ميلادي، ما في قرطبة من مساجد وقصور، وتعرضوا للمسجد وخربوه.

وعقب سقوط قرطبة مباشرة، جرى تحول المسجد إلى "كاتدرائية" سميت "تناول العذراء".

وقد مُنع المُسلمون من دخول الكاتدرائية منذ عام 1236 وحتى 1981، حين أعطى عمدة قرطبة خوليو أنغويتا، الملقب بـ "الخليفة الأحمر"، مفاتيح المسجد إلى الجمعية الإسلامية.

وسمح للمُسلمين برفع الآذان وأداء صلاة العيد للمرة الأولى، تنفيذا لقانون الحريات الدينية الذي أقره البرلمان الإسباني عام 1979.

وانتقدت الكنيسة والصحافة الإسبانية حينئذ خطوة "الخليفة الأحمر"، ما أدى إلى إلغاء القرار، ودخل "أنغويتا" في صراع مع أساقفة المدينة.

وتبين بعد وفاته في مايو/أيار 2020 أنه اعتنق الإسلام سراً، وكان يحاول حماية حقوق الأقليات في قرطبة والتصدي لمحاولات طمس هويات الموروثات الدينية بالمدينة.

وعام 1984 دخلت "الكاتدرائية المسجد" قائمة اليونسكو للتراث العالمي، لكن ملكيتها تحولت، من الحكومة الإسبانية إلى الكنيسة الكاثوليكية عام 2006.

وسجل الأسقف "الكاتدرائية" باسم الكنيسة، لتصبح ملكية عائدة للكنيسة الكاثوليكية، كما أزالت الكاتدرائية اسم المسجد من المواقع الإلكترونية والنشرات والدليل السياحي، بحسب صحيفة "إلبايس" الإسبانية 27 فبراير 2014,

وهو ما أثار جدلاً واسعاً، نظراً للأهمية التاريخية التي يتمتع بها هذا الموقع التاريخي، وتبعه محاولات أسقف قرطبة المتتالية لنزع أي صفة إسلامية عنه.

وفي سبتمبر/أيلول 2016، أكدت لجنة تابعة لبلدية مدينة قرطبة الإسبانية في تقرير حول ملكية الكاتدرائية، أنها "لم تكن يوماً ملكا للكنيسة الكاثوليكية"، وشددت على أنها تعد أحد أبرز المعالم الإسلامية في الأندلس.

وبعد عدة ضغوط ومطالبات وتحركات من المسلمين الإسبان وغيرهم من الداعمين لحقهم التاريخي في المسجد، وافقت السلطات الإسبانية على مضض على إعادة تسمية هذا المبنى باسم "مجمع المسجد والكاتدرائية"، لتعود إليه هويته الإسلامية جنباً إلى جنب مع المسيحية.

وفي عام 2021، نشر الباحث التاريخي المتخصّص في العصور الوسطى، خيسوس باديبا، بحثا مطوّلا تجاوز 500 صفحة، بعنوان "ملكية مسجد كاتدرائية قرطبة"، كشف من خلاله أن الملكية التي تدعيها الكنيسة مبنية على أخطاء في المخطوطات القديمة. 

تحدث عن "أخطاء في نسخ أو حذف أو تفسير معنى النص الأصلي لصالح أطروحة الكنيسة"، مستنداً في الوقت نفسه على وثائق تذكر المسجد على مدى 600 عام.

وصل إلى نتيجة مفادها أن الكنيسة ليست لها سيادة على "المسجد الكاتدرائية" لأن فرديناند الثالث كان منح المسجد لرجال الدين حتى يكونوا "حراسه وخدمه"، ولكنه لم يمنحهم إياه كملكية خاصة. 

ويستند الباحث في نتيجته على دلائل ووثائق تاريخية أهمّها التقرير الصادر عن القساوسة الملكيين في القرن السابع عشر.

وجاء في التقرير أن "فرديناند الثالث منح المسجد المذكور للأساقفة والمجمع الكنسي من أجل عبادة الرب والاحتفال بالمراسم المقدسة فحسب، دون الإضرار بالسلطة الملكية العليا".