"تزييف مقصود".. أسرار استعانة بوتين بمشايخ الأسد في وعظ مسلمي روسيا

لندن - الاستقلال | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

تجد روسيا أمام فشل تحقيق أهدافها العسكرية في أوكرانيا وتغيير السلطة الحاكمة هناك، أنها مضطرة لتحشيد جديد من الخزان البشري، وفي مقدمته الأقلية المسلمة التي تزج بها في مقدمة الجبهات.

فمنذ غزو روسيا لأوكرانيا فجر 24 فبراير/ شباط 2022، جعل الرئيس فلاديمير بوتين من الفيالق العسكرية الإسلامية وقودا لحربه، قافزا على عقود طويلة من اضطهاد المسلمين في الحقبة السوفيتية البائدة.

وأمام انكسار الجيش الروسي وتقهقره في ميدان المعركة الأوكرانية، وعزم بوتين الذهاب في "حرب مفتوحة" في أوكرانيا، عاد الاهتمام بجذب المواطنين المسلمين للانخراط بالقوات المقاتلة، مع رفض كثيرين الالتحاق بالجيش عقب إعلان التعبئة الجزئية قبل أسابيع.

إلا أن تلك الإستراتيجية لن يكتب لها النجاح، إلا من خلال تجديد الخطاب الديني وتطويعه في سبيل حماية الحاكم وخدمته، وهذا ما يفعله بوتين حاليا مستعينا بوعاظ النظام السوري.

إستراتيجية دينية

ولهذا نظمت روسيا مؤتمرا دوليا في موسكو تحت عنوان "التعليم الديني في خدمة المجتمع" بتاريخ 22 سبتمبر/ أيلول 2022، ودعت إليه وزير أوقاف النظام السوري محمد عبد الستار السيد.

وقال السيد على هامش المؤتمر: "كانت لسوريا الكلمة الأساس في المؤتمر والتي وضحنا فيها طبيعة هذا التعليم في بلدنا وتجربته في محاربة التطرف والإرهاب".

ويشغل السيد منصبه منذ عام 2007 وهو لسان هوى رئيس النظام بشار الأسد، و"المتحكم الحصري" بالشأن الديني في سوريا، ويعرف باستغلاله "الصفة الدينية" خارج ضوابطها.

وخلال وجود السيد في موسكو، وقع اتفاقية حول التعاون الديني بين النظام السوري وروسيا، وصفها رئيس الإدارة الدينية في روسيا "راوي عين الدين"، بأنها "لحظة تاريخية ويوم تاريخي".

وتنص الاتفاقية على تدريب الأئمة والخطباء والمفتين الروس في "مركز الشام لمكافحة الإرهاب والتطرف" التابع لوزارة أوقاف النظام السوري.

بالإضافة إلى "تعميم التفسير الجامع والتعاون مع المجمع الفقهي السوري في مجال الفتاوى الشرعية في روسيا".

وينظر السيد إلى الغزو الروسي لأوكرانيا على أنه "تصحيح للتاريخ حيث تدافع روسيا اليوم عن الحق والعدل في العالم وكي تبرز التعددية مجددا وتنتهي الهيمنة الغربية التي تريد دائما إذلال الشعوب"، وفق ما قال بتاريخ 23 سبتمبر.

وافتتح رئيس النظام السوري بشار الأسد في 20 مايو/ أيار 2019، "مركز الشام الإسلامي الدولي لمواجهة الإرهاب والتطرف"، ويشمل عدة أقسام.

أبرزها "المعهد الوطني لتأهيل الأئمة والخطباء في كل المحافظات" و"المعهد الدولي للعلوم الشرعية والعربية للراغبين في الحصول على العلوم الشرعية من علماء بلاد الشام الوسطية".

وكذلك قسم "رصد الأفكار المتطرفة والفتاوى التكفيرية عبر شبكة الإنترنت وكيفية تحليلها ومعالجتها".

وقال النائب الأول لرئيس مجلس المفتين في روسيا الشيخ روشان عباسوف، إن "هذا المؤتمر الدولي المنعقد في موسكو يؤكد أن لدينا أهدافا ومهام مشتركة في التصدي للأفكار المتطرفة والعمل على أن يكون الإسلام دين سلام مفهوما اليوم في المجتمع".

استمالة المسلمين

لقد انتشر الإسلام منذ منتصف القرن السابع الميلادي في روسيا، ووصلت الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب إلى شمال القوقاز وآسيا الوسطى.

وبحلول مطلع القرن الثامن الميلادي تمكن العرب من فرض سيطرتهم على جنوب القوقاز وما وراء النهر وخوارزم وفرغانة.

لكن بعد أكثر 300 سنة اعتنق الروس النصرانية الأرثوذكسية، وقد احتفلوا بنهاية القرن العشرين بذكرى مرور ألف سنة على دخول النصرانية إلى بلادهم واعتناقهم لها.

ويشكل حاليا الإسلام في روسيا الدين الثاني بعد المسيحية، والمسلمون جزء أساسي من الشعب الروسي، ولهذا يعزف الكرملين على وتر جعل هؤلاء منقادين إلى ما يسمى بـ "الدين الرسمي للدولة".

إذ تعد روسيا دولة فيدرالية، ويتشكل مجتمعها من نحو 160 جماعة عرقية، وعدد سكانها حوالي 143 مليون نسمة.

كما ترى روسيا أن دول آسيا الوسطى الملاصقة لها، والتي تضم أكثر من 100 مليون نسمة ونسبة كبيرة من الشعوب التركية المنتشرة في مناطق أوراسيا، يشكلون "جزءا من الأمن القومي الروسي".

ويبلغ عدد المسلمين الذين يتوزعون على أربعين إثنية مختلفة بين 15 إلى 20 مليون نسمة، وتعيش الأكثرية الساحقة منهم في منطقة الفولغا، الأورال، القوقاز، موسكو، سان بطرسبرغ، وغرب سيبريا.

كما يشكل التتار الإثنية الأكبر ويبلغ تعدادهم نحو ستة ملايين نسمة، أي ما يقارب 4 بالمئة من عدد سكان روسيا، تليها البشكير الذين يشكلون أكثر من مليون نسمة، والشيشان حوالى مليون نسمة.

والأكثرية العظمى من مسلمي روسيا هم من المسلمين السنة، الذين ينتمون إلى مدرستين فقهيتين، هما الشافعية في شمال القوقاز والحنفية في المناطق الإسلامية الأخرى، كما أن هناك فرقا صوفية تنتشر شمال القوقاز تحديدا.

ويؤكد باحثون تاريخيون، أن بوتين بات يخشى عقب الحرب مع أوكرانيا استغلال الخلافات التاريخية بين الشعوب المسلمة مع روسيا، ولا سيما أن المسلمين في آسيا الوسطى والقوقاز تعرضوا لجميع أنواع الظلم والاستبداد على يد الروس.

"تجربة الأسد"

وبات واضحا أن الرئيس الروسي يسير نحو تحويل "القوة الناعمة الدينية" إلى "قوة حادة"، وهذه المرة خدمة لأهداف بوتين الجيوسياسية التي يخوضها في أوكرانيا.

إذ إن بوتين قبل عام 2014 استند إلى الدين المسيحي الأرثوذكسي لروسيا وأوكرانيا في تدعيم موقفه من احتلال شبه جزيرة القرم، وهذا ما يحاول تكراره راهنا.

خاصة أن موسكو ماضية في تسييس الدين في أزمة أوكرانيا مع محاولات "التعبئة الجزئية" لقوات الاحتياط والتي تواجه ممانعة قوية في بعض مناطق الأقليات العرقية في روسيا.

ولهذا فإن اللعب بالوازع الديني وتجييشه لصالح حرب أوكرانيا، يقلل من الصدامات داخل الأقليات المسلمة، ويضمن بذلك بوتين ولاء هؤلاء في معركته من واجب ديني.

وخير مثال على ذلك، إطلاق بوتين يدي الرئيس الشيشاني رمضان قديروف الذي صعد للسلطة منذ مارس/ آذار 2007، في حرب أوكرانيا، مقابل دعم مطلق على المسارح الدولية.

إذ أرسل قديروف الملقب بـ "فتى بوتين المدلل"، مجموعات قتالية مسلمة تضم الآلاف للقتال على جبهات أوكرانيا، إضافة إلى قوات أخرى شبه حكومية.

وحينها ودع قديروف القوات الشيشانية بعدما تجمعت في غابة على مشارف أوكرانيا، وأدت الصلاة استعدادا للشروع في القتال.

ولنظام الأسد تجربة كبيرة منذ زمن صعود حافظ الأسد الرئيس السابق للسلطة عقب انقلاب عسكري عام 1971، في تطويع المؤسسة الدينية لصالح مشاريعه السياسية وجعل "العلماء" يدورون في فلكه ويروجون لراويته.

وهذا ما تجلى عقب اندلاع الثورة السورية في مارس 2011، حينما انقاد "ثلة من المشايخ" وراء رواية النظام بأنها ليست ثورة على الاستبداد بل "إرهابيون مدفوعون من الخارج لتخريب سوريا".

وما يزال هؤلاء يتصدرون المشهد الديني في سوريا وينفذون خطط النظام في جعل المؤسسة الدينية في سوريا لها رأي واحد هو "رأي الحاكم".

وهذا ما يجعل من روسيا في ظل وقوعها في مستنقع الحرب الأوكرانية، أن تستفيد من "التجربة الأسدية" في هذا المجال بإشراف عبد الستار السيد.

خاصة أن السيد نجح في تطويع المؤسسة الدينية لصالح سياسة نظام الأسد، والذي وصل به الأمر إلى إلغاء منصب المفتي العام لسوريا ومهامه واختصاصه في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 عبر مرسوم تشريعي أصدره الأسد.

دين رسمي

ويبدو أن روسيا تعول كثيرا على وزارة أوقاف الأسد في بذل جهود كبيرة "لتطويع المؤسسة الدينية الروسية".

وهذا ما اتضح باختيار "السيد" لإلقاء "خطبة الجمعة" في جامع موسكو الكبير التي حضرها حشد من "رجال الدين الروس"، وعدد كبير من الشباب وعدد من "علماء الدين" من دول عربية وإسلامية.

ومن جملة ما قال السيد من على المنبر: "جئناكم من سوريا التي تعرضت لحرب إرهابية ظالمة وتآمر غربي آثم كالذي تتعرض له روسيا اليوم، ونحن هنا من موسكو نوجه الشكر والعرفان لروسيا ورئيسها فلاديمير بوتين على وقوفهم مع سوريا وشعبها".

وعقب ذلك التقى "السيد" مع "راوي عين الدين"، وناقش معه "إمكانية حضور العلماء وطلاب العلم الشرعي السوريين للتدريس في المعاهد الدينية الروسية".

وأبدى بدوره مفتي روسيا تطلعه إلى "التعاون والتنسيق مع المجلس العلمي الفقهي السوري ولاسيما في مجال الفتوى"، وهذا ما يشير إلى رغبة موسكو في تطويع الفتوى لصالح الحرب الأوكرانية.

وفي هذا الإطار يؤكد الباحث في مركز مشارق ومغارب الإسلامي عباس شريفة، أن "هذه الاتفاقيات تدخل باب محاولة روسيا أن تسيطر على فضاء الخطاب الديني للمسلمين في دول الاتحاد الروسي وذلك عبر الاستعانة بوزارة أوقاف النظام السوري من أجل تطويع ذلك الخطاب وخاصة بظل التحديات التي تواجهها الحكومة الروسية عقب حرب أوكرانيا".

وأضاف شريفة لـ"الاستقلال"، أن "روسيا تسعى كذلك إلى حشد المسلمين للقتال في أوكرانيا بحجة مقاتلة النازية وأحفاد الدجال".

وتابع أن "خطوة توقيع هذه الاتفاقية في هذا التوقيت تدلل على غاية روسيا بالاستعانة من خبرة وزارة أوقاف النظام السوري في التي كان لها باع في تطويع جزء من الشعب السوري في القتال في صف قوات الأسد ضمن ما يسمى الدين الرسمي".

وختم الباحث السوري قائلا: "هناك محاولة روسية كذلك لاستنساخ دين رسمي في روسيا يخدم السلطة ويكون أحد أدواتها في الصراع والتوظيف في حروبها وخدمة لمصالحها".