مفارقات العدالة في مصر.. ما بين ابن المستشار والوزيرة وخصوم السيسي

هل العدالة في مصر تمنح بحكم القدر أم تُشترى بلقب الوالد؟
في بلد تحولت فيه العدالة إلى شعارات، وقف رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي عام 2021 محتفلا بيوم القضاء، رافعا شعار مشروع "العدالة الناجزة"، مؤكدا أن بطء التقاضي لا يليق بدولة القانون، وأن إنصاف الضحايا لا يحتمل التأجيل.
لكن السنوات مرت، وتحول هذا الشعار إلى سيف ذي حدين، يضرب من جهة معارضي الجنرال ويغمد أيضا في منظومته الحاكمة من جيش وشرطة وقضاء ورجال دولة.
فهناك على أبواب السجون تقف الأم المكلومة، تنتظر خبرا عن ابنها الذي قضى أعواما خلف القضبان دون محاكمة عادلة.
بينما يطل "ابن مستشار" بابتسامة على الرصيف، رغم تورطه في جرائم متعددة، لم يلاحقه فيها قضاء ولا قانون، ويعلن ابن وزيرة من سجنه "خارج مصر" عن إصدار كتاب يلهم فيه الشباب، رغم أنه متهم بواحدة من أبشع جرائم القتل.
فأي مستقبل تنتظره دولة تطوع العدالة لأبناء السلطة وتطارد بها أبناء المعارضين السياسيين؟ وما أثر هذا الانقسام على الأجيال الجديدة التي ترى الظلم مكرما والحق مقموعا؟
وإذا ما ترسخ هذا الشعور بالعجز وانهيار الثقة في القانون، فكيف يمكن الحديث عن أمن قومي أو استقرار اجتماعي؟
ابن المستشار
قبل أن يلتئم الجدل الذي أثاره قبل سنوات، عاد أحمد ابن المستشار أبو المجد عبد الرحمن، نائب رئيس محكمة الإسماعيلية، ليشعل الغضب الشعبي مجددا.
لكن هذه المرة ليس بعبارة “إنت عارف أنا ابن مين؟” بل بضربة بيسبول كادت أن تودي بحياة شاب آخر على خصومة معه.
ففي 23 مايو/أيار 2025، سجلت جريمة عنيفة شرق القاهرة، حين اتهم أهالي شاب يدعى يوسف خالد، "ابن المستشار" وعددا من أصدقائه بالاعتداء على نجلهم أمام مدرسة في المقطم، دون خلاف سابق، مستخدمين عصا بيسبول.
انتهت الواقعة بكسر في الجمجمة ونزيف داخلي، وجملة قالها أحد المعتدين قبل الهروب: "ده مات... يلا نجري!".
حادثة الشاب المعروف بلقب "ابن المستشار"، "طفل المرور" أو "حريقة"، لم تكن الأولى التي يواجه فيها ابن أحد كبار القضاة اتهاما مباشرا بارتكاب جريمة، بل تكرارا لسلوك جرى توثيقه وشاهدته منصات التواصل الاجتماعي في مصر بكاميرات الهواتف أواخر 2020.
وذلك عندما ظهر الطفل نفسه يقود سيارة فارهة دون رخصة، يصرخ في وجه أمين شرطة في حي المعادي، ويعتدي عليه قائلا: "أنا ممكن أقعدك في البيت!".
ورغم ثبوت تعاطيه المخدرات حينها، لم يمكث في مؤسسة الرعاية الاجتماعية سوى أيام قليلة، قبل أن يسلم لأسرته في هدوء، بعد أن "اعتذر والده (المستشار) لوزارة الداخلية".
أما اليوم، فيعود "ابن المستشار" إلى مسرح الجريمة، حرفيا، لا في فيديو متداول فقط، بل في بلاغ رسمي وإصابة خطيرة موثقة بتقارير طبية.
ومع ذلك، لم تكن الحصيلة سوى إخلاء سبيل آخر بكفالة قدرها 20 ألف جنيه (400 دولار)، رغم أن المجني عليه لا يزال راقدا في المستشفى يصارع آثار الضربة.
فهل هي مجرد واقعة فردية كما يراها البعض؟ أم نموذج متكرر لسقوط العدالة أمام سطوة النفوذ؟
غياب تعليق رسمي من أسرة المتهم وصمت مؤسسات الدولة، زاد من غليان الشارع وأعاد إلى الواجهة سؤالا مريرا: هل العدالة في مصر تمنح بحكم القدر، أم تُشترى بلقب الوالد؟

ابن الوزيرة
في رواية أخرى من روايات العدالة الطبقية في مصر، وقفت سيدة أنيقة أمام الكاميرات، في 24 مايو 2025، بابتسامة حزينة وصوت مكسور، تتحدث عن "ابنها الذي لم يكن يعلم أنه قتل"، على حد تعبيرها.
ثم تُعلن في مشهد أقرب إلى الخيال أن هذا الابن نفسه، المتهم بجريمة مزدوجة في الولايات المتحدة، يكتب اليوم كتابا عن الأمل ليستلهم منه الشباب في مصر دروس الحياة.
إنها السفيرة نبيلة مكرم، وزيرة الهجرة السابقة، وأحد أبرز وجوه منظومة حكم السيسي، التي اختارت أن تظهر مجددا إلى الواجهة بعد غياب، لا لتعتذر، بل لتروّج لمشروع ابنها، المتهم بطعن زميليه حتى الموت في ولاية كاليفورنيا، ويواجه المحاكمة في أميركا.
ففي لقاء مع الإعلامية ريهام السهلي عبر منصة "دي إم سي بلس"، تحدثت الوزيرة عن إصابة ابنها بمرض الفصام، وعن جلسات العلاج ومحاولاتها تعليمه اللغة العربية عبر روايات نجيب محفوظ، وكأنها تمهد لعودته إلى مصر محاطا برعاية اجتماعية وثقافية، لا بسجلات جنائية.
المفارقة لم تتوقف عند هذا الظهور الذي روجت لابنها من خلاله على أنه “كاتب يحمل الحكمة بعد الألم”، بل تجلت قبل ذلك، حين وقعت الجريمة في أبريل/ نيسان 2022.
وقتها أعلنت الشرطة الأميركية العثور على جثتي الضحيتين مطعونتين في مسكنهما بمقاطعة أورانج في كاليفورنيا، وجرى توقيف نجل الوزيرة متلبسا، بعد أن اعترف بتفاصيل الحادث تحت وطأة نوبات ذهانية.
رغم ذلك، لم يطلق الإعلام المصري الموالي للنظام كلمة "قاتل" أو حتى "متهم"، بل انطلقت حملة منظمة للإشادة بوزيرة الهجرة السابقة، واستحضرت إنجازاتها.
ثم استضافتها قنوات مقربة من الأجهزة الأمنية، من داخل مطبخها في مشهد إخراجي محبوك، لتظهر كأم مصرية عادية تعاني ككل الأمهات.
حينها انطلقت أصوات في الشارع المصري تساءلت بمرارة، لو أن رامي، ابن الوزيرة، ارتكب هذه الجريمة في مصر، هل كان سيدان؟ أم كانت مؤسسات الدولة ستغلق الملف، وتفتح له أبواب الإصلاح والتلميع؟
العدالة الأميركية لم تفرج عن رامي، لكن إعلام النظام المصري عمل على تلميعه، وإعادة تدويره كـ"رسول إنساني" يتحدث عن الأمل بعد القتل.
ابن البلتاجي
وبعيدا عن الكاميرات والبرامج الحوارية والمؤتمرات الدافئة، وفي مواجهة جدران السجن الباردة، كتبت سناء عبد الجواد، زوجة القيادي في جماعة الإخوان المسلمين محمد البلتاجي، رسالة لا تشبه شيئا مما تروجه الدولة عن "إصلاح الأحوال" أو "العدالة الناجزة".
ففي 18 مايو 2025، نشرت تغريدة تمزج بين الألم والثبات، بعد 13 عاما قضتها بين غياب زوج أسير، وابن (أنس) ينكل به بلا جريرة سوى أنه يحمل لقب أبيه، “زوجي الغالي وابني الحبيب وكل المعتقلين، حسبنا الله ونعم الوكيل فيمن حرمونا منكم... 13 سنة، كيف مرت؟”
وأردفت: “كأن السجون أصبحت مكانكم، وكأن غيابكم عنا وعن الحياة أصبح شيئا عاديا.. ما أنتم فيه كانصهار الذهب، لتزدادوا إخلاصا لله، وترقى نفوسكم إلى المعالي".
وأردفت: "نستعين بالله، فما تعلق به مظلوم إلا نجاه، وهذه السنين التي قضيتموها ظلماً تتزودون فيها بالتقوى ساعة بعد ساعة، ومن ظلمكم يحمل أوزاره ساعة بعد ساعة”.
وفي مقابل "ابن الوزيرة" الذي يكتب عن الأمل بعد القتل، و"ابن المستشار" الذي يعتدي على شاب بعصا بيسبول ويخرج بكفالة، يرقد أنس البلتاجي في زنزانة انفرادية منذ أكثر من عقد، دون حكم، ودون تهمة واضحة، دون فرصة للنقاش الإعلامي أو حتى أبسط حقوق السجناء.
ليست قضية البلتاجي فريدة، بل هي نموذج يتكرر آلاف المرات مع أبناء المعتقلين السياسيين والناشطين والمستقلين.

أبناء مرسي
ولا مثال أبلغ من عائلة الرئيس الراحل محمد مرسي، والذي دفع حياته ثمنا لانقلاب السيسي في 3 يوليو/تموز 2013، ليبدأ فصلا طويلا من العقاب الجماعي لعائلته.
في 17 يونيو/حزيران 2019، رحل مرسي داخل قاعة محكمة، بعد ست سنوات من الحبس الانفرادي، والإهمال الطبي، والتعذيب المعنوي المتعمد.
لم يسمح لأسرته بوداعه، ولا بجنازة تليق بمقام رئيس، ولم تمر سوى 80 يوما فقط، حتى لحق به نجله الأصغر عبد الله، في مشهد بدا كأنه دفن مزدوج لرمزية العائلة.
لكن الوفاة لم تكن نهاية المأساة، بل بداية فصل جديد من التنكيل، فقبل وفاة عبد الله بأيام، خرج نادي القضاة، عبر مصدر قضائي نشر تصريحه في موقع "القاهرة 24"، يطالب ورثة مرسي بسداد غرامة مليون جنيه، كتعويض لقاض زعم تعرضه للإهانة من قِبل الرئيس الراحل.
وفي مارس 2014، اعتقل عبد الله لأول مرة في قضية وصفتها منظمات حقوقية بأنها "مفبركة"، بتهمة "تعاطي مخدرات"، رغم أنه أُفرج عنه بعد يوم واحد فقط.
لكن الأجهزة الأمنية أعادت اعتقاله مجددا أثناء سفره بالقطار، مدعية أنه "يحاول الهرب من العدالة"، في فصل جديد من سيناريو التشويه المتعمد.
أما أسامة مرسي، المحامي والابن الأكبر، فاعتقل من منزله في ديسمبر/ كانون الأول 2016، بعد أيام من مطالبته الأمم المتحدة بالتدخل لوقف الانتهاكات بحق والده.
وقد اتُهم لاحقًا بـ"العنف خلال فضّ رابعة"، ويقبع منذ ذلك الحين في غياهب السجون، بلا محاكمة عادلة أو حديث إعلامي.
ولم تسلم الشيماء مرسي، ابنة الرئيس، من العقاب غير المرئي، حيث أقام أحد المحامين الموالين للنظام دعوى قضائية لإسقاط جنسيتها، بزعم حصولها على الجنسية الأميركية دون إذن الدولة.
وهكذا، كانت عائلة مرسي درسا مؤلما في معنى "توارث العقوبة السياسية"، حيث لم تعامل كأسرة رئيس سابق، بل كرمز يجب محوه.

انهيار شبه كامل
في تعليقه على هذه المفارقات، يقول الحقوقي المصري مصطفى عز الدين فؤاد، إن “ما نشهده اليوم في مصر ليس مجرد انحرافات فردية أو استثناءات قضائية، نحن أمام انهيار شبه كامل لمنظومة العدالة”.
وأوضح لـ"الاستقلال" أن هذا الانهيار "يبدأ من النيابة وينتهي عند منصات القضاء التي فقدت حيادها وباتت ذراعا تنفيذية للسلطة الأمنية".
ويتابع: “فكرة أن يكون الفرد ابن وزير أو ابن مستشار ويفلت من العقوبة باتت لا تحدث كثيرا في هذا العالم، حتى في الأنظمة المستبدة”.
"فقد رأينا في الخليج تنفيذ عقوبة إعدام على أحد أفراد العائلة المالكة في السعودية، وفي الكويت يحاكم أفراد من الأسرة الحاكمة، لكن في مصر يستمر ابن القاضي والضابط بل والفنان ولاعب الكرة في الإفلات من العقاب وممارسة البلطجة".
ويضيف: “حين تشوه العدالة بهذه الصورة، تتحول من ضامن للاستقرار إلى مولد للفوضى”.
وتابع: "الأجيال الجديدة التي ترى الظالم طليقا والمظلوم مكبلا، لن تؤمن بالقانون، ولن تنتظر قاضيا منصفا، بل ستبحث عن العدالة في الشارع، أو في السلاح، أو في الانتقام.. وهذه أخطر نقطة: أن تفقد الدولة شرعيتها الأخلاقية أمام أبنائها".
ويستدعي عز الدين فؤاد في حديثه تحليل عالم الاجتماع والفلسفة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، موضحا: "لقد قالها قبل ستة قرون: الدولة تبدأ في السقوط عندما يفسد القضاء، العدالة ليست وظيفة إدارية، بل هي صمام الأمان الأخير لأي أمة".
ويكمل: “مصر اليوم، بكل أسف، تمر بأسوأ مراحلها القضائية منذ نشأتها الحديثة، ربما أسوأ حتى من زمن الاحتلال الإنجليزي”.
ويشرح ذلك بقوله: “في عصر الاحتلال، كان القهر يمارس من قوة استعمارية غريبة، وكان الشعب يميز بين العدو والحاكم”.
أما اليوم، "فنحن أمام قهر محلي، تمارسه نخبة مصرية فاسدة من داخل النظام، تحمل أسماءنا وتتحدث بلغتنا، لكنها تحكم بمنطق أن الوطن ملك خاص لها، وأبناءها خط أحمر، وأبناء الشعب مجرد رقم في طابور السجون".
ويختم بالتحذير من أنه "حين تنهار العدالة، لا ينهار نظام سياسي فقط، بل تنهار الثقة، ويبدأ النزيف الأخلاقي الذي لا يعالج بالخطابات ولا بالمشروعات القومية، إنها لحظة دقيقة، إما أن يستعاد ميزان العدالة، أو تترك البلاد نهبا للفوضى والانفجار القادم لا محالة".