"التعبئة الجزئية".. خطة بوتين الجديدة لمواجهة الإخفاقات الميدانية في أوكرانيا

لندن - الاستقلال | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

في خطوة للتغطية على الانتكاسة العسكرية السريعة لروسيا في أوكرانيا، والتي أثارت احتمال الهزيمة في هذه الحرب، لجأت موسكو إلى إعلان "التعبئة الجزئية" لقوات الاحتياط بالبلاد.

وأعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في 21 سبتمبر/أيلول 2022، "التعبئة الجزئية" من قوات الاحتياط، وممن يمتلكون الخبرة في القتال، في إطار غزو أوكرانيا المستمر منذ 24 فبراير/شباط 2022.

وأوضح بوتين أن "أنشطة التعبئة ستبدأ والجميع سيخضع لاختبارات وتدريبات تستند إلى الخبرة المكتسبة خلال العملية العسكرية الخاصة".

شروط التعبئة

ونشرت وزارة الدفاع الروسية، إيضاحات حول التعبئة الجزئية، مبينة أنه سيجري استدعاء الرماة، ومن خدموا في سلاح الدبابات والمدفعية والسائقين والميكانيكيين.

ولم يجر تحديد ترتيب استدعاء المواطنين من الاحتياط، لكن تعطى الأولوية لأصحاب التخصصات العسكرية.

كما لم يجري فرض حصص على عدد المواطنين الذين يتم استدعاؤهم من الاحتياط من الكيانات الإدارية الروسية أو المنظمات الحكومية أو الخاصة.

وسيحصل المواطنون المستدعون على "بدل خدمة"، حسب رتبهم العسكرية ووظائفهم، وسيتم إيداع أموال الشخص المستدعى في حسابه الشخصي، أو يمكن تحويلها إلى أفراد أسرته بناء على طلبه، وفق ما نقلت وكالة "تاس" الروسية في 22 سبتمبر 2022.

وسرعان ما أعلن رئيس جمهورية الشيشان الروسية، رمضان قديروف، أن الجمهورية نفذت "خطة التعبئة الجزئية" بنسبة 254 بالمئة، والتي أعلن عنها بوتين.

اللافت أن رئيس مجلس الدوما الروسي، فياتشيسلاف فولودين، أكد أن نواب المجلس لا يتمتعون بحصانة من "التعبئة الجزئية" المعلنة، وسيشارك من يستوفي الشروط في العملية العسكرية الخاصة.

وتعتزم روسيا استدعاء 300 ألف جندي احتياطي، لكن الذين لم يخدموا في الجيش، ومن ليس لديهم خبرة عسكرية، ومن يدرسون في الجامعات، لن تطالهم تلك التعبئة الجزئية.

ومنذ بداية الإعلان، شددت موسكو على أن الوضع القانوني للمتطوعين والمقاتلين في صفوف قوات جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الانفصاليتين عن أوكرانيا، هو نفس الوضع القانوني لأفراد الجيش الروسي.

وعقب يوم من إعلان التعبئة الجزئية كأول تعبئة عامة في روسيا منذ الحرب العالمية الثانية، أفادت هيئة الأركان العامة الروسية، بأن نحو 10 آلاف شخص تطوعوا للتجنيد في الحملة.

التقهقر الروسي

ويتخذ الرئيس الروسي، خطوات لتصعيد غزو أوكرانيا ومواجهته مع كييف والغرب بما في ذلك "التعبئة الجزئية"، لا سيما أنها جاءت في توقيت حساس.

وتمكنت القوات الأوكرانية من تحقيق تقدم عسكري سريع على حساب الجيش الروسي، بعدما شنت كييف هجومها مضادا وخاطفا في الشمال الشرقي، هزم فيه القوات الروسية في منطقة خاركيف.

واستعاد بذلك جيش أوكرانيا، مساحات شاسعة من الأراضي، ووجه ضربة محرجة أخرى للجيش الروسي، بعد غرق بارجة أسطوله في البحر الأسود والتدمير الجزئي لقاعدة جوية بحرية رئيسية في القرم.

أمام ذلك، بدأت تتعالى الأصوات في الداخل الروسي من سوء الأداء الضعيف للجيش.

كما أثارت سرعة الهجوم المضاد في أوكرانيا غضب القوميين الروس، الذين كثفوا انتقاداتهم لمجهود الكرملين الحربية، الأمر الذي دفع بهؤلاء لدعوة بوتين إلى إعلان التعبئة العامة، وقصف البنية التحتية المدنية في أوكرانيا، وحتى نشر أسلحة نووية.

ومع دخول الحرب الروسية على أوكرانيا شهرها الثامن، فإن روسيا على وشك التخلي عن مكاسبها العسكرية الصغيرة، والتي جاءت على حساب العزلة الغربية الشديدة والمتنامية، والانحدار الحاد في اقتصادها جراء العقوبات الغربية المدروسة والثقيلة.

لذلك وجد بوتين أن خيار "التعبئة الجزئية" يوفر الأساس القانوني داخل روسيا لمواجهة أي غضب شعبي، كما أنه مؤشر على أن موسكو تخطط لخوض معركة طويلة الأمد بأوكرانيا.

لكن رغم ذلك، فإنه من المرجح أن يستغرق الأمر أسابيع لإعادة تدريب جنود الاحتياط وتنظيمهم في وحدات للانتشار على طول جبهة ألف كيلومتر في أوكرانيا.

والجدير بالذكر أن وزارة الدفاع الروسية بذلت جهدا لتوضيح أن الطلاب لن يخضعوا للاستدعاء وأن المجندين لن يتم إرسالهم إلى أوكرانيا، وهما نقطتان شديدتا الحساسية للشباب وعائلاتهم.

ولهذا قال بوتين إن التعبئة التي ستؤثر على "المواطنين الموجودين حاليا في الاحتياط فقط وبشكل أساسي أولئك الذين خدموا في القوات المسلحة لديهم تخصص عسكري معين وخبرة ذات صلة" ستبدأ فورا.

خطوات استباقية

واستبقت خطوة بوتين، بإقرار البرلمان الروسي الذي يسيطر عليه الكرملين بسرعة تعديلات شددت العقوبات على الجنود الذين يستسلمون أو يفرون أو يرفضون القتال خلال فترة التعبئة أو الأحكام العرفية، حيث أضيفت كلمتي "التعبئة" و "الأحكام العرفية" إلى القانون لأول مرة.

ويضم الجيش الروسي النظامي مليون جندي، وذلك رغم إعلان بوتين عبر مرسوم في 25 أغسطس/آب 2022، زيادة جيش بلاده بـ137 ألف مجند.

ويوجد في روسيا مليون جندي احتياط تتيح قوانين البلاد استدعاء جزء من هؤلاء في إطار العملية العسكرية ضد أوكرانيا.

ومن بين 120 ألفا إلى 150 ألف من الأفراد العسكريين المحتشدين على الحدود قبل بدء الحرب، قتل 5937 فقط، بحسب الدفاع الروسية.

أما وزارة الدفاع الأميركية، فإنها تؤكد إبعاد 70 ألفا إلى 80 ألف عسكري روسي عن العمل (بين قتيل وجريح ومفقود) خلال سبعة أشهر من القتال.

ورغم تأكيدات السلطات بتعبئة جزئية، تقتصر على جنود الاحتياط ذوي الخبرة العسكرية السابقة، فقد أثارت عملية الاستدعاء العشوائية غضب المواطنين الروس.

وعلى الورق، لا يمثل العثور على 300 ألف عسكري سابق مشكلة في روسيا، وخاصة مع اعتبار جميع الرجال الذين أكملوا خدمتهم العسكرية جنود احتياط.

لكن الاختلاف الوحيد هو الحد العمري لاستدعائهم والذي يتراوح من 35 إلى 70، حسب الرتبة والمؤهلات العسكرية.

لكن محللين قالوا إن بوتين، الذي سيبلغ السبعين من عمره في أكتوبر/تشرين الأول 2022، قد يستخدم الاستفتاءات لقلب غزوه رأسا على عقب، مدعيا أن الأراضي "الروسية" تتعرض الآن للهجوم واحتلالها جزئيا من قبل القوات الأوكرانية.

مخاوف بوتين

ويرى المحلل العسكري الدولي، روب لي، أن تحركات الكرملين من "التعبئة"، تؤكد مخاوف بوتين بشأن قبضته على السلطة إذا خسر الحرب.

ويشير إعلان بوتين عن "التعبئة الجزئية" إلى أنه لا يزال يحاول التحوط والإبقاء على خياراته مفتوحة في تطورات الحرب الأوكرانية.

ويقول نشطاء حقوقيون روس إن المئات، إن لم يكن الآلاف، من الجنود يرفضون أوامر الانتشار أو مواصلة القتال أو البقاء في ساحة المعركة دون التناوب أو العودة إلى الوطن.

وهذا ما يدفع بوتين، لإيجاد خيارات بديلة وتجنيب جيش بلاده تململ عوائلهم.

ولا شك بأن روسيا تريد من تسريع عمليات التجنيد الجديد لتأمين المناطق التي تنوي الانفصال عن أوكرانيا وضمها إليه.

وهي أربع مقاطعات دونيتسك ولوغانسك بشرق أوكرانيا، ومنطقتي خيرسون وزابوريجيا الواقعتين جنوبا.

وفي حال ضم المقاطعات الأربع إلى السيادة الروسية وفق نموذج ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، فسيرتفع عدد الأقاليم الروسية من 85 إلى 89.

وبعد أن ضمت روسيا القرم، تصبح مساحة المناطق التي قطعتها روسيا من أوكرانيا نحو 136 كليومترا مربعا، أي أكثر بقليل من 27 بالمئة من المساحة الإجمالية لأوكرانيا.

لكن الادعاء بأن الأجزاء التي تسيطر عليها روسيا في أوكرانيا روسية سيمكن موسكو من نشر المجندين الجدد في الجبهة "بشكل قانوني".

تجنيد مدروس

ومما كان لافتا في عمليات التعبئة، استهداف روسيا بشكل غير متناسب المجتمعات الريفية والأقليات العرقية البعيدة عن موسكو في عمليات التعبئة.

وتراعي موسكو تجنيد هؤلاء من كون السكان العرقيون الآسيويون في سيبيريا والشرق الأقصى الروسي أقل احتمالا لأن يكون لديهم روابط شخصية وعائلية بأوكرانيا.

ورغم ذلك، فإنه لوحظ وجود الكتائب الروسية غير العرقية في مسرح الحرب الأوكراني منذ بداية الحرب، والتي شملت قوات من الشيشان وأوسيتيا الجنوبية وتوفا وتتارستان.

ووصلت عمليات الابتزاز الروسية لدرجة أنه جرى تسليم أشخاص أوامر استدعاء إلى التعبئة، بعد صدور بحقهم أحكام بالسجن لمشاركتهم سابقا في مسيرات غير مصرح بها.

وشهدت بعض المناطق مقاومة لعمليات التجنيد الإجباري، وسط عمليات اعتقال للرافضين ورصد عمليات فرار جماعي خارج روسيا برا وجوا.

وانتشرت تسجيلات مصورة تشير إلى رفض السكان المحليين في جمهورية داغستان، الخوض في حرب مع أوكرانيا.

ويقول ضابط التجنيد حسبما يظهر في الفيديو، إن عليهم القتال "من أجل المستقبل"، ليرد رجل داغستاني عليه بالقول: "ليس لدينا حتى حاضر، ما هو المستقبل الذي تتحدث عنه".

كما انتشرت لقطات فيديو تظهر عشرات الرجال من سكان جمهورية ياقوتيا الروسية، وهم يتجمعون في ملعب غورنياك لكرة القدم ويجري تحميلهم في حافلات متجهة إلى مراكز التجنيد.

بينما كان أفراد الأسرة يودعون بالدموع، وبدا أن العديد من الرجال في الثلاثينيات والأربعينيات من العمر.

وأمام كل ذلك، فإن روسيا جندت السجناء والمرتزقة الأجانب على أنهم متطوعون، وسط فرار الشباب الروس عقب سماع قرار "التعبئة الجزئية".

ويرى مراقبون، أن فكرة التعبئة هي للتغطية على عمليات التجنيد المختلفة من المرتزقة التي عملت عليها روسيا منذ بدء الحرب، وأخيرا عبر إغراءات الإفراج عن السجناء مقابل القتال في أوكرانيا ممن أدينوا بارتكاب جرائم قتل وجرائم عنف أخرى.

وطبقا لمجريات الأحداث، فإنه كان هناك خطوات روسية تمهد لفكرة التعبئة والتجنيد، ومنها نشر إعلانات على مواقع توظيف تعرض رواتب نقدية مقابل التطوع.

وكذلك، ظهور رجل الأعمال البارز، يفغيني بريغوزين البالغ من العمر 61 عاما والمعروف بـ"طباخ بوتين"، ويشغل رئيس مرتزقة "فاغنر"، وهو يتحدث إلى سجناء روس يشرح لهم فيها مزايا القتال مع مجموعته في أوكرانيا والتي تتضمن إطلاق سراحهم بعد خدمتهم لمدة 6 أشهر.

وفي تسجيل مصور نشرته صحيفة "التايمز" البريطانية في 16 سبتمبر 2022، قال بريغوزين لنزلاء سجن وسط روسيا: "في غضون ستة أشهر ستعودون إلى منازلكم بعد أن تحصلوا على عفو عام، وبالتالي لن ترجعوا إلى السجن مرة أخرى".

وأضاف  بريغوزين، متوعدا أولئك الذين يرفضون القتال بعد وصولهم إلى أوكرانيا بأنهم سيصنفون على أنهم فارون، وبالتالي سيعدمون فورا "بإطلاق النار عليهم".

هزيمة في الحرب

ولم تكن خطوة بوتين للتعبئة، أيضا مقبولة لا من طرف المعارضة الروسية أو الأوساط الدولية.

وعلق المعارض، أليكسي نافالني،  الذي يقبع في السجن منذ فبراير/شباط 2021، برسالة مصورة من السجن سجلها ونشرها محاموه، على خطوة التعبئة بقوله إن "بوتين يرسل المزيد من الروس إلى الموت من أجل حرب فاشلة".

أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يهاتف بوتين بين الفينة والأخرى بخلاف القادة الغربين، فرأى أن إعلان روسيا تعبئة مئات آلاف جنود الاحتياط وتهديدها باستخدام السلاح النووي "ابتزاز واضح".

ومضى ماكرون قائلا: "من الواضح أنها تملك هذه الأسلحة، والخطر يبقى قائما، إنها وسيلة ضغط في مرحلة صعبة من هذه الحرب".

من جانبه، رأى وزير الدفاع البريطاني، بن والاس، أن إعلان بوتين يعد اعترافا بأن "غزوه يفشل"، معتبرا أن الرئيس الروسي ووزير دفاعه "أرسلوا عشرات الآلاف من مواطنيهم إلى حتفهم نتيجة سوء الإعداد والقيادة".

وفي هذا السياق، اعتبر الدبلوماسي الأميركي السابق في موسكو، دونالد جنسن، أن "الأداء العسكري الروسي في أوكرانيا كان ضعيفا ومتخلفا وتراجع أمام الهجمات الأوكرانية، لذلك التعبئة هي حل لهذه المشكلة".

وأكد جنسن خلال تصريحات صحفية في 21 سبتمبر، إن "الجيش الروسي ليس بحالة جيدة ومعنوياته منخفضة، لكن الإخفاقات الميدانية العسكرية باتت تتحول إلى أزمة سياسية محلية".

وأشار إلى أن "أهداف روسيا باتت تتراجع عنها منذ بداية الحرب، وهذا ينظر إليه على أنه هزيمة في الحرب، وخاصة أن بوتين حريص جدا على تعديل قاعدته السياسية المحلية، ولا أظن أنه سينجح في ذلك عبر التعبئة الجزئية".

من جانبه، رأى أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة موسكو، ستانيسلاف بيشوك، أن "التعبئة الجزئية هي إشارة للغرب بأن موسكو تستعد لحرب استنزاف طويلة المدى".

ولفت خلال تصريحات صحفية في 21 سبتمبر 2022 إلى أن "القوات لن ترسل إلى الجبهات، بل ستمر بتدريبات تستغرق أشهر، وسترسل في ربيع 2023 إلى جبهات القتال".

وأوضح بيشوك أن "هذه التعبئة مخصصة للمناطق التي تنوي روسيا ضمها من أوكرانيا، لأن موسكو لديها ممر بري إلى شبه جزيرة القرم عبر بحر آزوف".