بعدما استهزأ بدراسات الجدوى.. لماذا يراجع السيسي مشروعات بدأ تنفيذها؟

محمد السهيلي | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

منذ أن قال رئيس النظام المصري عبدالفتاح السيسي، في ديسمبر/ كانون الأول 2018، مقولته الشهيرة عن عدم لجوئه لدراسات الجدوى وإنه ما كان ليحقق 25 بالمئة من مشروعاته لو التزم بها؛ وتتوالى المواقف التي تؤكد خطأ مقاربته في "عدم جدوى دراسات الجدوى".

آخر تلك المواقف، تمثلت في مراجعة الحكومة المصرية لثلاثة من أهم مشروعاتها القومية، هي "حياة كريمة"، و"القطار الكهربائي"، و"تبطين الترع"، بعدما جرى صرفه من مبالغ كبيرة، والحصول على قروض خارجية ومحلية، يعيش تحت وطأتها المصريون.

"حياة كريمة"

المراجعة الأولى، تمثلت في تأكيد مساعد وزيرة التخطيط جميل حلمي، مطلع يونيو/ حزيران 2022، أن الحكومة تدرس تأجيل المرحلة الثانية من مبادرة "حياة كريمة" من 4 إلى 5 شهور.

المسؤول المصري، أكد أن هناك توجها لدراسة الأثر الاقتصادي للمشروع في ظل الأزمة العالمية الحالية، وحصر الاحتياجات لتحديد الأولويات لتلك المرحلة من المبادرة التي وصفتها الحكومة بأكبر مبادرة تنموية على مستوى العالم.

وهي الخطوة التي رآها مراقبون مراجعة حكومية لمشروع "حياة كريمة" الذي يعد أهم مشروعات السيسي في الريف المصري، في ظل ما يعانيه الاقتصاد المصري من أزمات مالية طاحنة قد تؤدي لتوقف الكثير من المشروعات.

وعما جرى صرفه عبر "حياة كريمة"، كشف حلمي، حينها عن ارتفاع التكلفة من 600 مليار جنيه  (نحو 3.3 مليارات دولار حينها) إلى قرب تريليون جنيه.

واشتكى أهالي إحدى قرى محافظة الشرقية في حديثهم لـ"الاستقلال"، من سوء التنفيذ بالمشروع، ومن تعطل الحياة في البلدة التي تقوم فيها مبادرة "حياة كريمة" بتنفيذ مشروع صرف صحي منذ عام ونصف العام دون إنجاز المشروع.

فضلا عن غلق المعدات مدخل القرية، وتوقف مشروع الرصف والغاز حتى إنجاز شبكة الصرف.

و"حياة كريمة" مبادرة أطلقها السيسي في 2 يناير/ كانون الأول 2019، لتحسين مستوى الحياة للفئات المجتمعية الأكثر احتياجا على مستوى الدولة. 

وتحولت في 15 يوليو/ تموز 2021، إلى مشروع قومي لتنمية 4584 قرية في 175 مركزا يشكل عدد سكانها 57.8 بالمئة من إجمالي السكان مع إعطاء الأولوية لـ1500 قرية "الأكثر فقرا".

واستهدفت المبادرة إنشاء مشروعات صرف صحي وتوصيل مياه وكهرباء وإنشاء وحدات صحية ومدارس وإدخال الخدمات التي تعاني القرى نقصا منها، وترتكز في الريف عموما، وريف الصعيد بوجه خاص.

القطار الكهربائي

وتمثلت المراجعة الثانية فيما أكدته مصادر حكومية لموقع "العربي الجديد" في 5 سبتمبر/ أيلول 2022، بأن وزارة النقل المصرية تدرس وقف تشغيل "القطار الكهربائي الخفيف" الذي يربط القاهرة بالعاصمة الإدارية ومدينة العاشر من رمضان، لمدة 6 أشهر.

بعد شهرين من تشغيل القطار في 3 يوليو/ تموز 2022، ورغم الدعاية الكبيرة التي صحبت الافتتاح، إلا أنه وفق المصادر فإن دراسة وقف التشغيل جاءت بسبب عدم جدواه اقتصاديا حاليا.

مع توجه الحكومة المصرية نحو التقشف وتقليل استهلاك الكهرباء، في ظل أوضاع البلاد الاقتصادية الصعبة منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022.

كذلك، مع ارتفاع سعر التذكرة بشكل مبالغ فيه، وندرة الركاب الذين بلغ عددهم بإحدى الرحلات ثلاثة أفراد فقط، ما يمثل وفق مراقبين، إهدارا لأموال الدولة، ويؤكد اتهامات المعارضين للحكومة بإقامة مشروعات غير ذات جدوى وإنفاق المليارات دون طائل.

ورغم نفي الحكومة ذلك التوجه إلا أنها مع كثرة اللغط بشأن توقف القطار، وندرة الراكبين، أعلنت وزارة النقل في 15 سبتمبر، تخفيض تذاكر القطار بنسبة 30 إلى 40 بالمئة وإصدار اشتراكات مخفضة بنسبة 50 بالمئة.

وتكلف تنفيذ المرحلة الأولى من مشروع القطار الكهربائي مليارا و300 مليون دولار، وفق ما ذكره رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، في سبتمبر 2021، والتقطت الاستقلال مقطع فيديو لإحدى محطات القطار قبل العاصمة الإدارية.

و"القطار الكهربائي الخفيف"، يمر بمحافظات القاهرة والقليوبية والشرقية ليربط بين المدن الجديدة شرق القاهرة، السلام والعبور والمستقبل والشروق وهليوبوليس الجديدة وبدر والعاشر من رمضان والروبيكي وحدائق العاصمة والعاصمة الإدارية.

ويتقاطع القطار الكهربائي مع الخط الثالث لمترو الأنفاق في محطة عدلي منصور بمدينة السلام، ومع المونوريل في محطة مدينة الفنون والثقافة بالعاصمة الإدارية، ومع القطار الكهربائي السريع في المحطة المركزية بالعاصمة الإدارية.

وتشمل المرحلة الأولى منه 11 محطة بطول (65.63 كم) وجرى افتتاحها في 3 يوليو 2022، فيما جرى منح تشغيل القطار الكهربائي وإدارته إلى الهيئة المستقلة للنقل الفرنسية "آر.إيه.تي.بي" لمدة 20 عاما.

تبطين الترع

أما المراجعة الثالثة لمشروعات السيسي الفاشلة فتمثلت في إعادة تقييم المشروع القومي لـ"تبطين الترع" والمجاري المائية، الذي وصفه الإعلام المصري بأنه "أكبر مشروع من نوعه على مستوى العالم في العصر الحديث".

حينها، عده النظام إلى جانب تحلية مياه البحر وتنقية مياه الصرف الصحي إحدى أهم خطواته لمواجهة أزمة نقص مياه النيل وحجز إثيوبيا مياه النيل الأزرق خلف "سد النهضة"، بعد فشل مفاوضات الجانبين للوصول إلى اتفاق بشأن المياه.

وتبني إثيوبيا سدا عملاقا على "النيل الأزرق" (أحد أهم روافد مياه نهر النيل الموسمية) أطلقت عليه اسم "سد النهضة" منذ عام 2010، ما عده المصريون والسودانيون تهديدا لحصصهم التاريخية من المياه البالغة (55 و18.5 مليار متر مكعب على التوالي) والموثقة عبر اتفاقيات دولية.

ولرفض القاهرة والخرطوم المشروع ظلت إثيوبيا لنحو 5 سنوات عاجزة عن الحصول على تمويل دولي لبناء السد والبالغ نحو (4.8 مليارات دولار).

وجرت العشرات من جولات المفاوضات بلا جدوى بين الأطراف الثلاثة بهدف توقيع "اتفاق ملزم" حول مرور المياه وكميات ووقت تخزين وملء حوض السد، وتصريف المياه أثناء الفيضان وأثناء الجفاف وغيرها من الملفات التي تضمن حقوق دولتي المصب.

وأعلن السيسي في مارس/ آذار 2020، عن تدشين مشروع قومي لوقف تسرب مياه النيل من الترع والمجاري المائية في دلتا مصر وواديها، وتبطين 7 آلاف كم بالمرحلة الأولى بتكلفة 18 مليار جنيه (نحو 1.1 مليار دولار حينها) في مدة عامين عمل تنتهي منتصف 2022.

وزير الري حينها محمد عبدالعاطي، أكد أن المشروع ينهى مشاكل الفلاحين ويقلل الفاقد والصيانة ويزيد الإنتاجية، ويوفر 5 مليارات متر مكعب مياه بالمرحلة الأولى، ويستهدف تأهيل 20 ألف كيلومتر من الترع بتكلفة 80 مليار جنيه (5.1 مليارات دولار حينها) بحلول منتصف عام 2024. 

وفي يناير 2022، أعلن السيسي، بفعاليات منتدى شباب العالم أن مشروع تبطين الترع يصل 40 ألف كيلومتر بتكلفة 80 مليار جنيه، لكنه بعد 4 أشهر وفي أبريل/ نيسان 2022، قال إنه سيتكلف 90 مليار جنيه (نحو 5.9 مليارات دولار حينها).

لكن، مع تغيير وزاري شهدته مصر في 13 أغسطس/ آب 2022، جرى تعيين الوزير هاني سويلم للموارد المائية والري، الذي لم ينتظر سوى شهر واحد حتى قرر في 13 سبتمبر 2022، الإعلان عن إعادة تقييم مشروع التبطين ومناقشة بدائل له.

وخلال اجتماعه بقيادات الوزارة، أعلن مراجعة ما جرى إنجازه من المشروع، وإجراء دراسة لكل ترعة على حدة لتحديد أسلوب التبطين الأمثل ودراسة مدى احتياج الترعة للتأهيل جزئيا أو كليا ودراسة استخدام تقنيات أكثر استدامة.

وكان مقررا بالمرحلة الأولى تبطين 7 آلاف كيلو متر من 20 ألفا يجرى إتمامها لاحقا، ولكنه وخلال عامين انتهى الوقت المحدد للمرحلة الأولى بتبطين 5 آلاف كيلو متر.

ومع ذلك لم تخل من العيوب الفنية والانهيار بعد التبطين، وهو ما رصدته صور خاصة بـ"الاستقلال" لانهيار أجزاء وتلف أخرى بإحدى ترع المشروع.
 

وبعيدا عن قرار الوزير بمراجعة أعمال التبطين وجعلها في المناطق التي تحتاج إليه فقط، إلا أن العمل في المشروع توقف بشكل مثير للتساؤلات. 

ذلك التوقف تزامن مع توجه الحكومة المصرية نحو التقشف مع تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية للبلاد، بتفجر أزمة فوائد الديون الخارجية التي تعدت 157.8 مليار دولار، وفقا لبيانات المركزي المصري في أغسطس 2022، وهروب 20 مليار دولار من الأموال الساخنة، وانخفاض قيمة العملة المصرية. 

مجموعة مزارعين، عقب صلاة الجمعة 16 سبتمبر/ أيلول 2022، تحدثوا لـ"الاستقلال"، قائلين إنهم "تساءلوا عن مصير ما تبقى من الترع التي بدأ العمل فيها ولم يجر استكمالها"، وكان الرد من الشركات الوسيطة التي تعمل من الباطن مع الجيش الذي يتولى المشروع أنه "لا يوجد تمويل".

وأكدوا أنه "حتى أبريل 2022، كانت توجد معدات وجرارات وأدوات صب خرسانة وأماكن لتشوين الأسمنت والدبش والرمل والزلط لكنه ودون سابق إنذار توقف العمل نهائيا، وتم سحب المعدات دون توضيح".

وأعرب المزارعون عن غضبهم من توقف المشروع "بعد قطع آلاف الأشجار على الترع، وتبوير مساحات من الأراضي لأربع دورات زراعية وضعت بها المعدات والدبش والأسمنت ومواسير أسمنتية"، موضحين أن "تلك الأدوات على حالها منذ نحو 6 أشهر".

تسويق الوهم

وأعاد الخبير الاقتصادي المصري إلهامي المرجاوي، نشر قول السيسي عن عدم لجوئه لدراسات الجدوى: "لو مشينا وراء دراسات الجدوى ما نفذنا 20 بالمئة مما نفذناه".

وأكد أن ذلك الفكر ثبت عدم صحته، وأشار إلى خبر "التفكير في وقف تشغيل القطار الكهربائي لأنه غير اقتصادي"، وخبر "وقف مشروع تبطين الترع بعد أن ثبت أن التبطين غير ضروري لكل أطوال الترع".

واتهم رأس النظام المصري بالفشل، وأنه يبعثر الأموال والقروض دون فائدة، وبأنه يدير الدولة على طريقة "عبدالعاطي كفتة"، في إشارة لزعم لواء جيش سابق عام 2014، علاجه مرض السرطان وغيره بإطعامه علاجا على شكل "كفتة اللحم" الشهيرة.

وفي تعليقه على توقف مشروع تبطين الترع رغم ما جرى صرفه من أموال، أكد مستشار وزير التموين الأسبق الدكتور عبدالتواب بركات، أن "هدف الإعلان عن مشروع تبطين الترع لم يكن سوى التغطية على فشل السيسي في علاج أزمة سد النهضة".

"وخداع الشعب بأن هناك بدائل لسد عجز المياه المتوقع"، يضيف عبدالتواب لـ"الاستقلال"، موضحا أنه "ومن هنا كان الترويج لمشروع (4 تاء)، كما سمته وزارة الري، ويشمل تبطين الترع، وتحلية مياه البحر، وتنقية مياه الصرف، وترشيد الاستهلاك".

الأكاديمي المتخصص في بحوث التنمية الزراعية وسياسات الأمن الغذائي، قال إنه "في البداية حذرنا من أن التبطين لن يوفر المياه لأن الترع في الأراضي الزراعية بوادي النيل والدلتا القديمة، ذات جوانب وقيعان طينية ومعدل نفاذيتها للمياه قليل".

وأضاف: "ويتم سحب المياه المتسربة بماكينات الري في الأراضي البعيدة نسبيا عن المجاري المائية، وقلنا إن فائدة التبطين أنها تساعد في رفع كفاءة الري ووصول المياه للأراضي الزراعية في نهايات الترع".

وأكد أنه "في كل الأحوال، فإن المبالغ المرصودة لتبطين الترع مبالغ فيها، وتعد إهدارا للمال العام، حيث يتم ترسية المشاريع للهيئة الهندسية للقوات المسلحة لكسب الولاء على حساب المصلحة العامة".

ورأى بركات أن "المحافظة على حصة مصر المائية، وردع إثيوبيا ووقف الاعتداء على نهر النيل بكل السبل، أقل تكلفة من مشاريع وهمية يدعي النظام أنها بدائل لتناقص حصة مصر من مياه النيل، مثل تحلية مياه البحر، وتنقية مياه الصرف، ومنع زراعة الأرز والقصب".

ولفت إلى تأكيده السابق على أن "تبطين الترع استمرار لمسلسل الخداع، وبيع الوهم للمصريين، وهروب من المسؤولية الدستورية في مواجهة اعتداء إثيوبيا على حصة مصر من مياه النيل".

وأكد بركات أن "قرار إعادة النظر في المشروع أخيرا، هو تأكيد على ما سبق وقلناه، أنه لا بديل لنهر النيل، وهو أيضا دليل لفشل رأس النظام وحكومته الذين روجوا للمشروع، وقرينة للمساءلة القانونية والسياسية لكل من شارك في التسويق للوهم وخداع المصريين". 

وفي تعليقه على مراجعة الحكومة المصرية مشروعاتها الثلاثة وإعادة دراسة بعض جوانبها، قال مدير المعهد الدولي للعلوم السياسية والاستراتيجية الدكتور ممدوح المنير: "في الحقيقة الموضوع لا يرتبط بالعلم أو دراسات الجدوى ولكن بمستوى فساد منظومة السلطة".

وأكد المنير لـ"الاستقلال"، أن "القائم بدراسات جدوى حقيقية سيفرض عدم وجود هذه المشاريع من الأصل، ولكنها حالة العبث التي تعيشها الدولة المصرية".

وأشار إلى أن "السيسي بنى اقتصاد الدولة خلال الـ10 سنوات الماضية على أساس الاقتراض الخارجي وبالأموال الساخنة، وعسكرة الاقتصاد، واستهلاك موازنة الدولة في مشاريع غير إنتاجية، غير ضرورية، على المدى القريب والمتوسط".

الباحث المصري رأى أيضا "أننا ووفقا لتلك المعطيات أمام حالة كاملة من انعدام المسؤولية وليس غياب دراسات الجدوى فحسب".

وختم المنير حديثه بالقول إن "أزمة مصر هيكلية وبنيوية، ولن يكون هناك حل للوضع المأزوم إلا عبر تغيير بنية النظام نفسه، والقضاء على الفساد المستوطن بأجهزة الدولة"، لافتا إلى أنه "حتى دراسات الجدوى الحقيقية وغيرها لن تنجح في إنقاذ الأوضاع".