إثيوبيا تستعد للملء الثاني لسد النهضة.. ما سر صمت نظام السيسي؟

إسماعيل يوسف | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

في 8 يناير/كانون الثاني 2021، أرسل وزير الري الإثيوبي سيلشي بيكلي، خطابا للاتحاد الإفريقي والسودان ومصر، يؤكد أن أديس أبابا تعتزم الملء الثاني لسد النهضة في يوليو/تموز من نفس العام، بمقدار 13.5 مليار متر مكعب دون اتفاق أو مع أحد، كما فعلت في الملء الأول.

في اليوم التالي 9 يناير/كانون الثاني أعلنت مصر والسودان فشل جولة المفاوضات الأخيرة والوصول لحائط صد، ورفض الخرطوم الاستمرار في هذا "العبث التفاوضي"، فيما أعلنت القاهرة استعدادها للترتيب لجولة مفاوضات جديدة.

قيام إثيوبيا بالملء الثاني دون اتفاق معناه امتلاء السد بـ 18.4 مليار متر مكعب مياه (بعد الملء الأول في يوليو/تموز 2020 بـ 4.9 مليار متر مكعب).

هذا الأمر سيجعل أي خطط مصرية للضغط على إثيوبيا بعد هذا التاريخ عديمة الجدوى، بما فيها ضرب السد عسكريا، لأنه في هذه الحالة ستُغرق المياه المحتجزة داخل السد أجزاء كبيرة من السودان، حسب مصدر مصري قريب من المفاوضات لـ"الاستقلال".

ويشكل هذا الصمت ورفض رئيس النظام المصري عبدالفتاح السيسي القيام بأي تصعيد ضد تسويف إثيوبيا رغم أن حجز كمية أكبر من المياه في الملء الثاني يشكل خطرا على الأمن المائي والقومي المصري، يشكل لغزا حتى لكبار المسؤولين المصريين.

وأضاف المصدر، الذي طالب عدم الكشف عن اسمه، أن السودان الأقل تضررا بدأ يرفض التفاوض ويهدد بـ"خيارات أخرى" لخطورة حجز المياه على سد الروصيرص وزيادة الفيضانات، والسيسي صامت، ربما بسبب العجز عن حلول أخرى، أو يخشى اتهامه بالفشل، بعدما وقع بنفسه اتفاق السد الذي ألغى 12 اتفاقية تحفظ حقوق مصر المائية وحصتها السنوية.

ضوء الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب الأخضر لمصر لضرب السد الإثيوبي والذي كان سيحظى بضمانة أميركية ويجبر إثيوبيا على التفاوض يوشك أيضا على الانتهاء خلال أسبوع بعد تسليم السلطة في أميركا 20 يناير/كانون الثاني، كما أن تعويل القاهرة على اضطرابات تعرقل السد بعد أزمة تيغراي في إثيوبيا أيضا فشل.

وكان ترامب توقع خلال حفل توقيع اتفاق التطبيع السوداني الإسرائيلي 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020، أن تقصف مصر سد النهضة، ولا أحد يعلم هل ما قاله تم بالتنسيق مع القاهرة لإرسال رسالة لإثيوبيا، لإنهاء تعنتها أم أن ما قاله مجرد سقطة من سقطاته المتكررة.

مفاوضات فاشلة

الأخطر، كما يقول المصدر لـ"الاستقلال"، أن أديس أبابا باتت الآن تتحكم في مياه النيل عبر بوابات سد النهضة الأربع، وتقوم بغلقها وقتما تشاء، وهو ما يعرف بـ "التخزين الإجباري"، وهي خطوة استفزازية للقاهرة والسودان.

وتسمح هذه الخطوة لأثيوبيا بالتحكم في كمية المياه التي تمر لمصر في وقت لا تعترف أديس أبابا باتفاقيات 1959 التي تحدد نصيب القاهرة بـ 55 مليار متر مكعب سنويا، وتنازلت عنها الأخيرة بتوقيع وثيقة السد في الخرطوم 23 مارس/آذار 2015.

يزيد من هذا التحدي إعلان إثيوبيا، في نفس يوم فشل الاجتماع الأخير، بناء سد جديد يحتجز 55 مليون متر مكعب من المياه لري 25 ألف فدان، ضمن خطط أثيوبية معلنة لبناء 3 سدود أخرى على النيل على الأقل.

وبعدما كان لمصر في اتفاقات النيل السابقة "حق الفيتو" على بناء أي سد وحصة مائية 55 مليار متر مكعب سنويا، بات كل ما تطالب به أن تضمن إثيوبيا لها 40 مليار متر مكعب خلال فترة الفيضان و35 مليار متر مكعب في فترة الجفاف، وهو ما ترفضه أديس أبابا وتحدد 30 مليارا فقط.

فشل جلسة المفاوضات الأخيرة، هو رقم 21 من الجلسات التي جرت على مدار 10 سنوات، فأول إخطار إثيوبي لمصر (تلقاه مدير المخابرات الراحل عمر سليمان وهدد إثيوبيا بعده بقصف السد) كان في مايو/أيار 2010، وكان السد المقترح لتخزين 14 مليار متر مكعب فقط من المياه. 

وعلى الرغم من الرفض المصري للطلب الإثيوبي شرعت أديس أبابا في تسوية الأرض بمنطقة السد في ذلك التاريخ غير آبهة بالرفض المصري ثم وجدت الفرصة عقب ثورة يناير 2011 فقفزت بحجم تخزين المياه في بحيرة سد النهضة إلى 74 مليار متر مكعب، وبدأ من ذلك الحين التفاوض معها.

إعلان مصر وإثيوبيا يوم 10 يناير/كانون الثاني 2021 فشل الجولة الأخيرة من المفاوضات والاجتماع السداسي لوزراء الخارجية والمياه في مصر والسودان وإثيوبيا في الوصول إلى اتفاق بشأن سد النهضة، أعقبه تهديد وزير الري السوداني في بيان أن "المفاوضات لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية في هذه الدائرة المفرغة".

ولكن وزارة الخارجية المصرية اكتفت في بيان بالتأكيد على أنها مستعدة مرة أخرى "للانخراط في مفاوضات جديدة من أجل التوصل في أسرع وقت ممكن إلى اتفاق قانوني ملزم على قواعد ملء وتشغيل سد النهضة"، ما أعاد طرح التساؤلات حول سر الهدوء المصري.

كانت المفارقة حين أعلنت إثيوبيا أنها ستبدأ الملء الأول للسد في يوليو/تموز 2020، وحذرتها مصر معتبرة ذلك "خط أحمر"، ولكن تم الملء الأول للسد بالفعل وحجزت أديس أبابا 4.9 مليار متر مكعب، دون رد فعل مصري قوي.

لم يحدث الملء فقط، بل استفز وزير الخارجية الإثيوبي، مصر بقوله إن النيل أصبح بذلك "بحيرة" إثيوبية، وقال: "النيل لنا".

اكتفت القاهرة بتصريح للمتحدث باسم وزارة الري يعتبر "ما تفعله إثيوبيا مجرد استفزازات ومصر لن ترد ومتمسكة بحقوقها"، ما قد يشكل ضوء أخضر لأديس أبابا للملء الثاني استنادا لرد الفعل المصري الضعيف.

سر الصمت

الصمت المصري كما يراه خبراء سياسة ومياه ربما يرجع إلى عدة أمور، أبرزها أن السيسي لا يرى أمام مصر خيار سوى التفاوض ومحاولة انتزاع أي اتفاق مع إثيوبيا، ويستبعد الخيار العسكري خشية الدخول في حرب مياه.

ويتعمد السيسي التصريح أنه ليس مسؤولا عن الأزمة وإنما من قاموا بثورة يناير 2011، وبالتالي فهو ليس ملزما بحلها ولا يقع عليه وزر عدم التوصل لاتفاق. وخلال فعاليات الندوة التثقيفية الـ 31 للجيش قال: "لولا ما جرى في 2011 لتوصلت القاهرة إلى اتفاق جيد مع الخرطوم وأديس أبابا بشأن سد النهضة".

ودخلت مصر بالفعل مستوى الفقر المائي، كما قال السيسي في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2019 في ذات الندوة، ما يعني أن حجز سد النهضة لجزء من المياه ليس مشكلة لأنها موجودة بالفعل. هنا يرى البعض أن السيسي يركز على تعويض نقص المياه بمشاريع تحلية مياه البحر أو المياه الجوفية والترشيد.

القاهرة أيضا تعتبر جنوب إفريقيا، التي تترأس الاتحاد الإفريقي حاليا، منحازة لإثيوبيا، لهذا تنتظر تولي الكونغو رئاسة الاتحاد في دورته المقبلة أول فبراير/شباط 2021، وتتوقع تأييد الأخيرة لموقفها بشأن السد.

وينبع ذلك من أن الكونغو هي دولة المنبع الوحيدة التي لم توقع اتفاقية عنتيبي مايو/أيار 2010، التي ألغت حصة مصر المائية، حسبما يقول هاني رسلان الباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية لموقع "المونيتور" الأميركي 11 يناير /كانون الثاني 2021.

تنتظر مصر إعلان الاتحاد الإفريقي فشله في إدارة المفاوضات رسميا كي يصبح من حقها اللجوء للأمم المتحدة ومجلس الأمن واتخاذ إجراءات تنفيذية ضد إثيوبيا، حسبما يقول الدكتور طارق فهمي أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، والقريب من السلطة، في تصريح لموقع "القاهرة 24" 11 يناير/كانون الثاني 2021. 

مقابل الآراء السابقة يؤكد المصدر المصري القريب من التفاوض الذي استطلعت "الاستقلال" رأيه أن "الصمت المصري له وجاهته ولن يفرط في مياه النيل لأنها حياة أو موت،.

لكن يرى أن "الهدف هو إقامة الحجة علي إثيوبيا أمام العالم بأنها تسوف وترفض أي اتفاق كي يظهر للعالم أن مصر تجنح للسلم"، وأنها "استنفذت كل الخيارات فيكون هذا مبررا لو لجأت للحرب بحيث لا يلومها أحد".

وعلى عكس التوقعات، رفض السيسي في كل تصريحاته الحل العسكري، وفي يوليو/تموز 2020، أاتقد حديث وسائل الإعلام (الموالية للسلطة) عن عمل عسكري محتمل ضد سد النهضة، مؤكدا أن بلاده حريصة على التعامل مع السد من خلال التفاوض لا الخيار العسكري.

ولكن سلسلة تطورات وقعت ساهمت في احتمالات التفكير في عمل عسكري مصري سوداني مشترك ضد السد، سواء بضربة مباشرة أو عمل استخباري سري أبرزها، زيارة وزير الدفاع السوداني عبد الفتاح البرهان القاهرة 27 أكتوبر/تشرين الأول 2020، ومعه مدير المخابرات.

وأكد "المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية"، القريب من دوائر صنع القرار، أن هدف الزيارة "مجموعة من المستجدات الداخلية والإقليمية منها سد النهضة".

كما زار رئيس الأركان المصري السودان أول نوفمبر/تشرين الثاني 2020، ومعه وفد من قادة الأفرع الرئيسة للجيش المصري، لتنفيذ ما اتفق عليه البرهان مع السيسي والاتفاق على "تكثيف التعاون العسكري لتعزيز قدرات الجانبين على مواجهة التحديات لأمنهما القومي".

ووصلت طائرات حربية مصرية للسودان وأعلن البلدان في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 إجراء مناورات عسكرية بالتزامن مع تصاعد الحرب في إقليم تيغراي بشمال إثيوبيا، وأنباء عن تشجيع مصر التمرد في الإقليم، مقابل دعم إماراتي لإثيوبيا.

قدوم إدارة بايدن

ولكن، بمجيء إدارة أميركية جديدة ربما تتغير الخيارات المصرية خصوصا الحل العسكري حال لجأت له القاهرة ويبدو أنه سيكون أمام الرئيس جو بايدن ثلاثة خيارات، وفق ما يرى الدكتور عباس شراقي أستاذ الجيولوجيا بجامعة القاهرة في تصريح لموقع "مصراوي" 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2020.

الخيار الأول: تأجيل البت في هذا الملف عدة أشهر بسبب وجود ملفات عاجلة أمام الإدارة مثل كورونا ومواجهة الانقسام الداخلي الذي خلفته إدارة ترامب، وربما التعامل معه في يوليو/تموز 2021 حين تثار مسالة الملء الثاني ويتعاظم التهديد لمصر مائيا وترتفع الأصوات في القاهرة بعمل عسكري.

الخيار الثاني: التوازن في التعامل مع الأطراف الثلاثة (مصر وإثيوبيا والسودان) باعتبارهم حلفاء لأميركا، وأن من مصالح واشنطن التوفيق بينهم، والتدخل بالوساطة والوصول لاتفاق ثلاثي مقبول من الجميع دون اللجوء للحل العسكري.

الخيار الثالث: موقف إدارة بايدن الفعلي قد يكون مرتبطا بقدرات كل من مصر وإثيوبيا على تقديم نفسها كحليف وشريك إقليمي بما يقنع الرئيس الأميركي بالتدخل لصالح طرف والضغط على الاخر،

ويرى خبراء أن قضية سد النهضة وتعامل النظام معها مرتبطة ارتباطا وثيقا بمستقبل نظام السيسي والجيش معه بالنظر إلى أنها قضية قومية حيوية تتعلق بالأمن المائي الذي لا يمكن أن تعيش مصر بدونه ويعتبر تهديد وجودي.

ويعتقد البعض أن  تجاهل خطر السد والصمت الذي قد يستمر حتى الملء الثاني سوف ينعكس على أزمات داخلية ومشكلات تدفع قطاعات أكبر من المصريين للغضب والثورة ضد النظام.

فأغلب أراضي مصر صحراوية وتعتمد البلاد في وارداتها المائية بشكل كبير على نهر النيل بكمية تقدر بنحو 95 بالمئة، ولا يمكن أن تنتج مشاريع السيسي لتحلية المياه سوى 1.4 مليون متر مكعب يوميا بعد بناء 39 محطة لتحلية المياه حتى عام 2037 بحسب "الخطة القومية للمياه".

كما أن الزيادات السكانية تقلل الحصة المتاحة من المياه العذبة للفرد سنويا وستقل عن 500 متر مكعب للفرد، وهو حد الندرة المائية المعروفة عالميا، كما أكد اللواء خيرت بركات رئيس جهاز التعبئة والإحصاء لصحيفة أخبار اليوم 11 فبراير/شباط 2020.

ويبلغ حجم الموارد المائية المتاحة حالياً 55.5 مليار متر مكعب من نهر النيل، و1.3 مليارا من هطول الأمطار شمال مصر، ومليارين من المياه الجوفية، أي ما مجموعه 58.8 مليار متر مكعب، في حين تبلغ احتياجات المياه للقطاعات المختلفة 79.5 مليار متر مكعب في السنة، ما يعني وجود فجوة بين العرض والطلب بحوالي 20 مليارا يتم سدها من خلال معالجة المياه.

ومع تداعيات أزمة شح المياه في مصر، والتأثيرات السلبية المنتظرة من سد النهضة الإثيوبي وتقدير الخبراء تراجع إمدادات المياه من النيل بنسبة 25 بالمئة، سيؤثر ذلك على الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي ويرفع معدلات الفقر، ويزيد الاضطرابات الداخلية.