كيف سجلت روابط "الألتراس" هدفا في مرمى الأنظمة العربية؟

تمكنت كرة القدم، الساحرة المستديرة من سلب العقول والاستحواث على مئات الملايين من العاشقين لتتصدر عرش الرياضات في العالم من حيث الشعبية، بعدد مشجعين يفوق أربعة مليارات مشجع.
أما في عالمنا العربي الذي تعيش شعوبه أزمات معقدة من الفقر والبطالة والأمية والحروب والأنظمة الاستبدادية، تحتل هذه الرياضة نفس المكانة التي تحتلها في العالم، ما دفع العديد من المنتقدين لهذه الظاهرة لوصف كرة القدم بأفيون الشعوب، لما يشتبه في توظيفها ضمن وسائل الإلهاء وصرف اهتمام الشعوب عن قضاياهم الرئيسية إلى صراعات وهمية وانتماءات مزيفة، تجاوزت وظيفة الترفيه والتسلية.
إلا أن عددا من الأحداث قدرت أن تلغي هذا الانطباع وتؤكد أن جماهير كرة القدم غير منفصلين لا عن واقعهم ولا عن هموم وقضايا شعوبهم الحقيقة، بل كان لهم دور في صناعة الوعي والمساهمة في التغيير الذي تشهده المنطقة منذ العام 2011.
"في بلادي ظلموني"
رغم وجود حالات تؤكد استثمار عدد من الأنظمة العربية المستبدة في قطاع الرياضة وخاصة كرة القدم وإنفاق المليارات ضمن سياسة الإلهاء والتعمية عن الأزمات الحقيقية التي تعيشها الأوطان وتشتيت نظر الشعوب عن الشأن السياسي، إلا أن تشكيلات روابط المشجعين بدأت تصنع فلسفة جديدة لمتابعة كرة القدم، فحولت مدارج الملاعب إلى منابر مفتوحة من أجل التعبير عن آرائهم ومواقفهم من مختلف القضايا التي تهم شعوبهم وأمتهم وقد ترتفع أصواتهم بأهازيج هي أقرب إلى البيانات السياسية الغاضبة منها إلى الصيحات التشجيعية، بل لقد بشر بعضها بثورات الربيع العربي قبل وقوعها.
من على مدارج ملعب محمد الخامس بالمغرب، صدحت آلاف حناجر مشجعي الرجاء البيضاوي المغربي لتوصل رسالة بمضمون اجتماعي سياسي، لخص حالة البؤس وانغلاق الأفق وتبدد الأحلام الذي يعيشه الشباب العربي من مغربه الأقصى إلى خليجه الأغنى، في ظل سياسات راكمت الفشل طيلة العقود فأنتجت حالة اقتصادية هشة فاقمت من أزمة البطالة والفقر وسوء الخدمات الصحية والتعليمية، جعلت من الشباب فريسة لعصابات تجارة المخدرات أو رهينا لحلم الخلاص عبر اجتياز البحر المتوسط نحو ضفته الشمالية حيث الحياة المنشودة التي يحصل فيها الشاب على كرامته الإنسانية المفتقدة في وطنه.
كل هذه الرسائل عبرت عنها أغنية "في بلادي ظلموني" التي انتشرت كالنار في الهشيم على منصات التواصل الاجتماعي، وحصدت الملايين من المشاهدات على موقع "يوتيوب".
لم تكن هذه الأغنية الأولى التي رفعت صوتا معارضة في وجه الحكومة المغربية، ففي بداية العام 2011، في الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات الشباب العربي في ميادين الثورات في تونس ومصر مطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية، أطلقت جماهير الوداد المغربي أغنية «بصوت الشعب اللي مقموع» تطالب هي كذلك بالحرية وتنتقد القبضة البوليسية للنظام في المغرب والتي تسببت في اعتقال العشرات من مشجعي الفريق.
الألتراس والتبشير بالثورة
ارتبطت مجموعات المشجعين بتسميات جديدة تتجاوز فكرة الانتماء إلى الفريق الرياضي وتشجيعه خلال المباريات فقط، ومن أبرز هذه المجموعات وأهمها والتي صارت هوية مميزة لروابط تشجيع أكبر الفرق في العالم هي رابطة الألتراس.
تشكّلت أولى مجموعات الألتراس "Ultras" في المنطقة العربية في تسعينيات القرن الماضي، مثل الثورة، في تونس، ثم انتشرت في بقية الدول. والألتراس هي مجموعات جماهيرية، بدأت في أمريكا اللاتينية، واختارت المدرجات الرياضية للتعبير عن مواقفها السياسية المعارضة للسلطة وغضبها من الواقع الاجتماعي.
"ألتراس" في الأصل كلمة لاتينية تعني "المتطرفين"، وتعبر عن المشجعين المعروفين بالانتماء التام والأعمى للأندية الرياضية في كل الظروف وشعارهم الأساسي خلقنا من أجل التشجيع.
ساهمت مجموعات الألتراس في مجريات الثورة بتونس، وخاصة أحداث ملعب المنزه بالعاصمة التونسية في أبريل/أفريل 2010، التي شهدت مواجهات دامية بين جمهور الترجي الرياضي وقوات الأمن قبل أشهر قليلة من اندلاع شرارة الثورة، في نفس الوقت اختارت جماهير النادي الإفريقي أحد أكبر الفرق التونسية وأعرقها، أن تصدح من فوق مدارج الملاعب مبشرة بثورة قريبة تحطم قيود الاستبداد وتعيد الحرية لهم ولشعب خنقته القبضة الأمنية لنظام بوليسي فريد من نوعه في المنطقة والعالم لتتحول أغنية "تيستامونت" Testament التي تقول أحد جملها "الثورة أحنا بديناها" أحد أهم العناصرة الملهمة للشباب التونسي للثورة ضد نظام بن علي وإجباره على الرحيل في 14 يناير/ جانفي 2011.
مجموعات الألتراس والتي تتكون من عدد كبير من أبناء الأحياء الشعبية تخطوا جدران الملاعب والتحموا بالحراك الثوري بل وقادوا أحيانا التظاهرات والمواجهات التي جدت مع قوات الأمن إبان الحراك الثوري وظهرت بصماتهم في اعتصامات القصبة 1 و2 بأغانيهم المميزة وباللافتات الظخمة ذات الرسائل السياسية التي نشاهدها عادة في بدايات المباريات ويطلق عليها الجماهير "الدَّخلة".
قضايا الأمة
"كرهناكم يا حكام تحاصرون قطر وإسرائيل في سلام"، بهذا الشعار الكبير اختارت جماهير النادي الإفريقي بعث رسالة للدول العربية الأربع أياما قليلة بعد إعلانها عن فرض حصار شامل على دولة قطر، مقارنة بين موقفها من الاحتلال الإسرائيلي وموقفها من قطر الذي حمل عداء كبيرا مخالفا لروابط الأخوة التي تجمع العرب. المشاهد التي وردت من ملعب رادس في نهائي كأس تونس شهدت تداولا كبيرا بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي.
كما لم يمر قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة والحديث عن صفقة القرن التي تجد تأييدا من عدد من الدول العربية ومن بينهم المملكة العربية السعودية خاصة بعد وصول محمد بن سلمان وعلاقته القوية بمهندس الصفقة صهر ترامب جاريد كوشنير، دون نقد لاذع جاء هذه المرة من مدارج ملاعب الجزائر حيث رفع جمهور جمعية أمل عين مليلة لافتة كبيرة رسم عليها وجه متناصف جمع الرئيس الأمريكي والعاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز كتب تحتها وجهان لعملة واحدة.
أثارت هذه اللافتة غضب السلطات السعودية التي عبر سفيرها في الجزائر أن السعودية لن تبقى هذه الخطوة من قبل المشجعين الجزائريين دون رد قوي، معتبرا اللافتة مسيئة للعاهل السعودي.
الجماهير والسلطة
مع ازدياد عدد المنتمين لروابط المشجعين الألتراس في المغرب وارتفاع أصواتهم بشعارات سياسية واجتماعية ناقدة، استغلت السلطات المغربية حوادث العنف التي شهدتها الملاعب تسببت في تسجيل العديد من الوفيات، كان آخرها ضحيتين في مباراة "السبت الأسود" بين الرجاء وشباب الريف الحسيمي لحساب منافسات الدوري المحترف، لتتخذ وزارة الداخلية قرارا بحل جميع روابط الألتراس.
أما في تونس التي تعيش مناخا أفضل من حيث حرية التعبير والتنظيم، إلا أن الملاعب لازالت تعيش حالة شبه استثنائية في ظل تواصل حرمان الجماهير من حضور عدد من المباريات أو تقليص عددهم، كما تشهد الملاعب ومحيطها مواجهات بين الجماهير وقوات الأمن أدت إلى وقوع ضحايا مثلما حصل مع الشاب عمر العبيدي الذي لم يتجاوز 19 من عمره بعد غرقه في أحد أودية العاصمة إثر ملاحقة الأمن لعدد من أحباء النادي الإفريقي وإجباره من قبل أحد عناصر الشرطة على القفز في الماء رغم توسله إليه وتأكيده عن عدم إتقانه للسباحة.
تسببت الحادثة بعضب الرأي العام في تونس وتحولت إلى حملة واسعة تحت عنوان " تعلم عوم " قادتها الجماهير الرياضية منتقدة الممارسات الأمنية المخالفة القانون ومتعدية على حقوق الإنسان.