بروفة لـ"الأقصى".. هكذا انتزعت إسرائيل المسجد الإبراهيمي وسلمته للمستوطنين

“محاولات الاحتلال إلغاء الوجود الفلسطيني بالكامل في القدس لا تتوقف"
في خطوة تعني انتهاء "الوضع الراهن" المطبق في الحرم الإبراهيمي بالخليل منذ 1967، جرد الاحتلال الإسرائيلي الأوقاف الفلسطينية من مسؤوليتها عن الإشراف على الحرم الإبراهيمي وحوّله إلى مجلس استيطاني.
القرار الذي اتخذه الاحتلال سرا ولم تُعلنه سوى صحفه، ولم يبلغه لإدارة الأوقاف، يُصعد المخاوف من فقدان المسلمين السيادة على أقدس معالم المدينة، ورابع أقدس المواقع الإسلامية.
وخطوة نزع إسرائيل سلطة الإشراف على المسجد الإبراهيمي من الأوقاف، بعد سلسلة تحركات سابقة لإبعادها عن إدارته، كما ظل الحال منذ احتلال 1967، أنه يشكل "بروفة" لما سيتم تطبيقه على المسجد الأقصى.
ويبدو أنه اختبار إسرائيلي لرد فعل الفلسطينيين والعالم العربي والإسلامي من الوضع الجديد في الحرم الإبراهيمي، حتى تطبقه على المسجد الأقصى، وتتخلص نهائيا من الوضع الراهن في الأقصى أيضا، أي بروفة لمستقبل الأقصى.
ويقع المسجد الإبراهيمي في البلدة القديمة من مدينة الخليل، التي تخضع لسيطرة الاحتلال، ويقيم فيها نحو 400 مستوطن تحت حماية نحو 1500 جندي إسرائيلي، ولهم مجلس ديني سيكون هو المسؤول عن "الإبراهيمي".
وعام 1994 تعرض المصلون في المسجد لجريمة وحشية، حين قام أحد أتباع الحاخام كاهانا (باروخ جولدشتاين)، وهو أميركي من مواليد نيويورك، بدخول الحرم في رمضان، بسلاح آلي، وقتل 30 مصليا مسلما وأصاب 125.
وبدلا من حل المشكلة، تدخل الاحتلال ليكافئ المستوطنين القتلة ويعطيهم السيطرة على 63 بالمئة من الحرم، مقابل 37 بالمئة فقط من مساحته للمسلمين، بخلاف التضييق على الصلاة ومنع الآذان وحظر دخولهم مسجدهم في أعياد اليهود.
تغيير كبير
وفي 15 يوليو/تموز 2025، قررت سلطات الاحتلال سحب صلاحيات إدارة المسجد الإبراهيمي من بلدية الخليل، رسميا، ونقلها إلى المجلس الديني (اليهودي) التابع لمستوطنة "كريات أربع" المقامة على أراضي المدينة.
صحيفة "يسرائيل هيوم" كشفت أن "إسرائيل سحبت صلاحيات إدارة الحرم الإبراهيمي من بلدية الخليل ونقلتها لمجلس مستوطنة كريات أربع، الذي بدأ بالفعل إجراء تغييرات في الحرم الإبراهيمي تتيح مساحة أكبر للطقوس اليهودية".
وقالت الصحيفة: "بشرى كبيرة للاستيطان، ففي خطوة تاريخية غير مسبوقة تقرر إجراء تغيير كبير في الوضع القائم في مغارة المكفيلة (الحرم الإبراهيمي)".
وهو "سحب الإدارة المدنية الإسرائيلية صلاحيات من بلدية الخليل الفلسطينية ونقلها إلى المجلس الديني في كريات أربع الخليل".
وبينما لم توضح الصحيفة طبيعة هذه الصلاحيات، قالت: إن تلك الخطوة تهدف إلى "الدفع نحو تنفيذ تعديلات هيكلية في الموقع".
فيما أوضحت صحيفة "إسرائيل اليوم" بتفاصيل أخرى: "في خطوة غير مسبوقة، وافق وزير الدفاع يسرائيل كاتس على سحب صلاحيات واسعة في الحرم الإبراهيمي من بلدية الخليل، ومنحها للإدارة المدنية، بهدف تعزيز التغييرات الهيكلية فيه.
وذكرت أنه "تمت الموافقة على الأمر، وسحب الصلاحيات من الأوقاف الإسلامية وبلدية الخليل، والهدف هو بناء سقف لساحة يعقوب، وتغطية الجدران، وتركيب معدات إطفاء الحرائق في الحرم".
وزعمت أن هذا العمل يُعد الأبرز الذي يُنجز في الموقع منذ عام 1994 (مجزرة الإبراهيمي)، كجزء من تغيير جذري في الحرم، مشيرة إلى "بدء التغيير بالفعل على أرض الواقع".
ويدعي القرار أن هذا المسجد "موقع ديني يهودي لا علاقة للمسلمين والفلسطينيين به" في ظل سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على الحرم الإبراهيمي.
مقدمات الاستيلاء
وسحب الاحتلال الإسرائيلي في فبراير/ شباط 2025، اختصاص الإشراف على "الإبراهيمي" من الأوقاف الفلسطينية، وأسنده إلى "هيئة التخطيط المدني الإسرائيلي"، ضمن مخطط توسيع سيطرتها على الحرم الإبراهيمي
وكان هذا التحرك الصهيوني المبكر لتسليم إدارة المسجد بالكامل لهيئة يهودية مقدمة لإعادة نقل الاختصاص لمجلس مستوطني كريات أربع وإبعاد أي سلطة للأوقاف الفلسطينية عن المسجد، بموجب القرار الصادر في 15 يوليو 2025.
وجرت محاولة سابقة لفرض أمر واقع من جانب المستوطنين عام 2024 للاستيلاء على صحن المسجد، ليصبح لهم قرابة 80 بالمئة من الحرم، تمهيدا للسيطرة الكاملة عليه وتحويله إلى معبد يهودي ومنع المسلمين من دخوله.
وبدأت هذه المحاولات مبكرا عام 2005، حين قام مستوطنون بوضع خيمة في مكان في صحن المسجد وزعموا أنها مكان للعبادة.
ومع الوقت بدأوا يوسعون من مساحة هذه الخيمة ويحولونها لمعبد داخل صحن المسجد، وحاليا يقومون بتسقيفها.
وأكدت مديرية أوقاف الخليل، في 11 يوليو 2024، أن جماعات استيطانية شرعت بأعمال بناء سقف لصحن الحرم الإبراهيمي، ورفعوا أعمدة حديد ثقيلة وألواح صاج، وصب سقف الجزء المكشوف من صحن الحرم.
ومع أن قوات الاحتلال أوقفت بناء المستوطنين للسقف، إثر هبة شعبية في الخليل، واحتجاجات نظمتها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، فقد عاد الاحتلال بقوة هذه المرة لينتزع سلطة الإشراف على المسجد بالكامل من الأوقاف ويعطيه للمستوطنين المعتدين.
ولضمان تنفيذ الخطة، نزع الاحتلال سلطة الإدارة والإشراف على المسجد بالكامل من الأوقاف للسماح لليهود ببناء السقف دون اعتراض وبموافقة إسرائيلية رسمية.
وأكد وزير الأوقاف والشؤون الدينية في السلطة الفلسطينية، محمد نجم، أن محاولات الاحتلال بناء سقف صحن الحرم الإبراهيمي الشريف، تأتي ضمن سعيهم لتحويل الحرم إلى كنيس يهودي خالص.
وكذلك العمل على "سحب صلاحيات وزارة الأوقاف الفلسطينية، والسيطرة على الحرم بشكل كامل، وطمس معالمه الدينية والتاريخية والتراثية والإسلامية، وتجاوز تقسيمه الزماني والمكاني".
ماهية القرار
ولكن ماذا يعني هذا القرار، خاصة أن هذه أول مرة منذ 1994 تُنتزع صلاحيات الحرم من الأوقاف بالكامل؟
وهل يعني تحكم مجلس المستوطنات اليهودي في مصير الحرم الإبراهيمي وتغيير شكله وإلغاء المصلي والمآذن وتحويلَه لمعبد يهودي بالكامل؟
فلسطينيون نقلوا عن دوائر الأوقاف الفلسطينية تخوفها أن يكون هذا هو ما سيتم بالفعل لو تم تنفيذ القرار وإلغاء مجلس المستوطنات القسم المسلم من المسجد.
لكن هذه الدوائر ترى أن القرار -الذي لم يصدر رسميا ولكن نشرته الصحف- ربما جس نبض ورصد لرد الفعل الفلسطيني والعربي والإسلامي، بحيث لو جاء ضعيفا يجرى تنفيذ القرار بالفعل.
وحذر مدير الحرم الإبراهيمي الشريف، معتز أبو سنينة، لموقع "ميدل إيست آي" البريطاني، في 17 يوليو 2025، من أن يكون تقرير صحيفة "إسرائيل اليوم" بمثابة "اختبار لقياس رد الفعل الفلسطيني قبل اتخاذ أي خطوات رسمية".
لذا حرص وزير الأوقاف والشؤون الدينية، محمد نجم، خلال زيارة للحرم الإبراهيمي 17 يوليو، مع وفد من كبار مسؤولي الوزارة، على تأكيد ملكيته للمسلمين.
وأكد أن "الحرم الإبراهيمي هو ملكية إسلامية خالصة للمسلمين وحدهم، ولا يحق لأحد المساس به أو تغيير واقعه التاريخي والديني"، مشددا على أن الوجود الفلسطيني في الحرم "ثابت وراسخ رغم محاولات الاحتلال فرض سيطرته الكاملة عليه".
ويقول علماء الحرم الإبراهيمي إن الخطوة الحالية المتمثلة في السيطرة على الإشراف وإدارة المسجد من قبل الاحتلال وانتزاع هذا الحق من الأوقاف، ثم فرض أمر واقع بتحويل صحن المسجد لمعبد يهودي، ليس سوى جزء من المخطط الأكبر الذي بدأ عقب احتلال القدس والضفة.
وأدانت المنظمات الإسلامية القرار الإسرائيلي، مثل رابطة العالم الإسلامي ومنظمة التعاون الإسلامي.
كما أعربت وزارة الخارجية التركية عن رفضها الشديد لمحاولات إسرائيل تغيير الوضع القائم في الحرم الإبراهيمي بمدينة الخليل جنوب الضفة الغربية، وعدتها "اغتصابا للصلاحيات التي تعود للفلسطينيين".
تغييرات جذرية
وكانت أول مرة تجرى فيها تغييرات جذرية في الحرم الإبراهيمي عام 1994، حيث قررت لجنة إسرائيلية تسمى "لجنة شمغار"، تقسيم الحرم الإبراهيمي بواقع 63 بالمئة لليهود، و37 بالمئة للمسلمين.
وحاليا -بعد قرار حظر الأوقاف من الإشراف على الحرم الإبراهيمي- سيكون لليهود حق السيطرة على 100 بالمئة من المسجد، ومنع المسلمين من دخوله مطلقا، أي مخالفة قراراتهم السابقة في "لجنة شمغار" عام 1994 وإلغاؤها.
كما يعني القرار الإسرائيلي أيضا مخالفة صريحة لاتفاق الخليل "بروتوكول إعادة الانتشار عام 1997"، والذي نص على أن تكون الخدمات المقدمة في الحرم من قبل بلدية الخليل، وأن الأوقاف الإسلامية هي الجهة المشرفة على الشق الإسلامي فيه.
ومنذ صدور قرارات لجنة "شمغار" التي أعقبت مجزرة الحرم الإبراهيمي التي ارتكبها المستوطن المتطرف باروخ غولدشتاين، عام 1994 شددت سلطات الاحتلال إجراءاتها العسكرية في محيط الحرم الإبراهيمي.
وسرقت 63 بالمئة من مساحته وحولته إلى كنيس يهودي، وتمنع رفع أذان المغرب بشكل يومي، وتمنع الأذان بشكل دائم أيام السبت باستثناء أذان العشاء.
ويقول أهالي الخليل إن هذا القرار كان متوقعا بعد سلسلة من الإجراءات التهويدية المتصاعدة التي نفذها الاحتلال في الحرم الإبراهيمي خلال عامي 2024 و2025.
من بينها، منع رفع الأذان مئات المرات، وإغلاق الحرم أمام المسلمين في مناسبات دينية، ورفض تسليم بابه الشرقي خلال شهر رمضان وعيدي الأضحى والفطر.
إضافة إلى أعمال حفريات داخل الساحات المجاورة، وتركيب مصعد كهربائي يخدم المستوطنين، وأجهزة إنذار إسرائيلية، ورفض تسليم الحرم الإبراهيمي في المناسبات الدينية، وإغلاقه أمام المسلمين، وسحب مفاتيح أبوابه، وتوسيع حصاره بالحواجز.
وتؤكد دائرة الأوقاف الفلسطينية ومؤرخون أن القرار الإسرائيلي الجديد، معناه فرض سيطرة دينية وإدارية شاملة على الحرم الإبراهيمي ونسف الوضع القائم بالكامل الذي نصت عليه الاتفاقيات السابقة من 1967.
وأكدوا أن القرار الإسرائيلي بنقل صلاحيات الإشراف على الحرم الإبراهيمي إلى "المجلس الديني اليهودي" في مستوطنة كريات أربع، معناه ضم المسجد الإبراهيمي رسميا للممتلكات الدينية اليهودية.
بما يعنيه من منع المسلمين من الصلاة فيه تماما، وحرمانهم حتى من مساحة 26 بالمئة قررتها سلطات الاحتلال لهم عام 1994، ومن ثم إلغاء الاتفاقيات السابقة بقوة الاحتلال.
تعزيز التهويد
ويقول مدير الحرم الإبراهيمي الشريف، معتز أبو سنينة، إن الإعلان الإسرائيلي "يهدف إلى تعزيز مخططات التهويد"، وأي تدخل في شؤون المسجد أو هيكليته المادية يوحي بأن إسرائيل تستغل الحروب الحالية لفرض واقع جديد على الأرض.
ووصف هذه الخطة في حال تأكيدها ستشكل "اعتداء صارخا وخطيرا" على موقع ذي أهمية "دينية وتاريخية وأثرية" عميقة، لأن المسجد مسجل على قائمة اليونسكو للتراث العالمي الفلسطيني.
وقال أبو سنينة لموقع "ميدل إيست آي" البريطاني، في 17 يوليو 2025، إن "حراس المسجد ما زالوا يؤدون واجبهم، ولم يتغير شيء، لكن هذه الإعلانات خطيرة، وتهدف إلى تعزيز خطط التهويد التي من شأنها تغيير الوضع الراهن هنا".
فيما حذر رئيس بلدية الخليل، تيسير أبو سنينة، في بيان وتصريحات لمواقع فلسطينية، من أن تغيير وضع المسجد يُعد "انتهاكا خطيرا للقانون الدولي وجميع الاتفاقيات ذات الصلة"، بما في ذلك بروتوكول الخليل وتوصيات لجنة شمغار.
وكانت "هيئة علماء فلسطين" واضحة في تحذيرها من تداعيات وأهداف القرار الصهيوني، حيث أكدت أن "السيطرة على الحرم الإبراهيمي مقدمة للسيطرة على الأقصى ".
وقد بدأت جماعات الهيكل المزعوم تدعو بالفعل حكومة الاحتلال إلى اتخاذ خطوة مماثلة في المسجد الأقصى المبارك، وتجريد دائرة الأوقاف الإسلامية من صلاحياتها ونقلها إلى الاحتلال والمقتحمين للأقصى.
وقال أستاذ دراسات بيت المقدس ومسؤول الإعلام والعلاقات العامة بالمسجد الأقصى سابقا، عبد الله معروف: إن ما يفعله الاحتلال بقرار نقل الإشراف على الحرم الإبراهيمي من الأوقاف للمستوطنين، هو بالضبط ما يريدونه للمسجد الأقصى المبارك.
وأوضح معروف لـ"الاستقلال" أن “محاولات الاحتلال إلغاء الوجود الفلسطيني بالكامل في القدس لا تتوقف، وكان منها إغلاق صندوق ووقفية القدس، لتشديد السيطرة على المدينة المقدسة”.
وأكد أن الأقصى يتعرض لسلسلة عمليات تستهدف فرض السيادة الإسرائيلية على المسجد، مثل غلقه في أوقات معينة ومنع الصلاة بالكامل.