اكتفاء ذاتي قسري.. ما القطاعات الإسرائيلية الأكثر تضررا من المقاطعة؟

الاقتصاد الإسرائيلي قد يعود سنوات إلى الوراء بسبب المقاطعة الدولية
قبل سفره إلى نيويورك في سبتمبر/أيلول 2025، اضطر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى عدم اصطحاب الصحفيين وأعضاء الوفد المرافق من طائرة "جناح صهيون" المخصصة لكبار الشخصيات، لتوفير المزيد من الوقود.
جاءت هذه الخطوة التي أعلن عنها مكتب نتنياهو بسبب اضطرار الأخير لسلك مسار أطول من أجل حضور أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة بسبب رفض بعض الدول السماح له بالتحليق فوق أجوائها، بعد اتهامه بارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة.

مقاطعة وعزلة
تلقي هذه الحادثة العابرة، الضوء على مدى تأثر إسرائيل بالعزلة السياسية والاقتصادية المتعاظمة من قبل الدول الغربية التي بدأت أخيرا اتخاذ إجراءات وفرض عقوبات بسبب استمرار العدوان على غزة منذ عامين.
وبينما اتخذت دول أوروبية إجراءات عقابية فردية، تسود تساؤلات عن مدى تأثر إسرائيل حال فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات كاملة على تل أبيب بما فيها تعليق اتفاقية التجارة الحرة المشتركة.
كما يُفتح باب التساؤلات عن المجالات التي يمكن لإسرائيل تحقيق اكتفاء ذاتي بها، والقطاعات المحتمل تضررها بشكل أكبر حال ازدياد رقعة المقاطعة.
وفي 15 سبتمبر، أقر نتنياهو للمرة الأولى، بأن إسرائيل تدخل في “نوع من العزلة”، مبينا أنه "سيتعين علينا التكيف أكثر فأكثر مع اقتصاد يتمتع بخصائص الاكتفاء الذاتي".
وخلال مؤتمر لوزارة المالية الإسرائيلية قال نتنياهو: "على إسرائيل أن تتصرف وفقًا لذلك، وأن تنتج الأسلحة بنفسها كي لا تصبح تابعة للعالم".
ولطالما نفت حكومة نتنياهو بشدة توقعات دخول تل أبيب في عزلة دولية بسبب حرب الإبادة المستمرة في غزة والسياسات اليمينية المتطرفة للحكومة.
وكان العديد من الدول الغربية منها بريطانيا وإسبانيا وكندا وسلوفينيا أعلنت في الأشهر الماضية وقف تصدير السلاح إلى إسرائيل، كما أعلن بعضها إلغاء صفقات بملايين اليوروهات.
فيما أعلنت 11 دولة أخرى منها بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وكندا ومالطا وأستراليا والبرتغال اعترافها بدولة فلسطين خلال اجتماعات الأمم المتحدة في سبتمبر، ليرتفع بذلك عدد المعترفين إلى 159 من أصل 193 دولة عضو بالأمم المتحدة.
من جانبه رأى زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد أن تصريح نتنياهو جنوني؛ لأن "العزلة ليست قدرا، بل نتاج سياسة خاطئة وفاشلة لنتنياهو وحكومته، فهم يُحوّلون إسرائيل إلى دولة من دول العالم الثالث، ولا يسعون حتى لتغيير الوضع".
وأضاف لابيد عبر منصة “إكس”: "بخلاف ذلك، يُمكن لإسرائيل أن تعود إلى النجاح والشعبية، باقتصادٍ مزدهرٍ في مصاف دول العالم الأول".
أما زعيم حزب "الديمقراطيين" المعارض يائير غولان فقال: "نتنياهو يُحيي مواطني إسرائيل بمناسبة رأس السنة (العبرية): للحفاظ على عرشي، أحتاج إلى حربٍ وعزلةٍ أبديتين. وأنتم ستُضحّون بالبلاد والاقتصاد ومستقبل أبنائكم وارتباطكم بالعالم".
وقالت صحيفة يديعوت أحرونوت: إن حديث نتنياهو عن "العزلة السياسية" التي يُتوقع أن تدخلها إسرائيل ليس مجرد تصريح، بل حقيقة مُرّة تنتشر كالنار في الهشيم خارج المجال السياسي، وتؤثر على الاقتصاد والثقافة والعلوم والأوساط الأكاديمية والرياضة والسياحة، وأكثر من ذلك بكثير.
وأوضحت في 16 سبتمبر أنه “إذا أقدمت إسرائيل على تدمير غزة بالكامل وطرد سكانها، فستكون ردود الفعل قاسية: خفض المستوى الدبلوماسي، وإعادة السفراء، وقطع العلاقات”، وهي خطوة هدد مسؤولون أوروبيون باتخاذها حال إعلان تل أبيب أيضا ضم الضفة الغربية.
وأكدت الصحيفة أنه “لن تُجدي أي دعاية نفعًا، وقد تتضرر إسرائيل بعدة طرق: عقوبات اقتصادية، إنهاء التعاون الثقافي، مقاطعة أكاديمية ورياضية، حظر الأسلحة، القيود الشخصية مثل فرض التأشيرات”.
وأردفت: “بلغ حجم التجارة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل 42.6 مليار يورو عام 2024. تخيّلوا ماذا سيحدث لو عاقبتنا هذه الكتلة، أكبر شريك تجاري لنا، بأموالها”.

القطاعات المتأثرة
سكان إسرائيل البالغ عددهم أكثر من 10 ملايين نسمة ويتراوح معدل نموها السكاني حالياً عند 1.12 بالمئة سنويا، يتميزون بمستوى معيشي مرتفع ويستمتعون بتفضيلات غذائية متنوعة.
وبينما يخصص هؤلاء حالياً 18 بالمئة من نفقاتهم على المنتجات الغذائية فإن محدودية الموارد الطبيعية من أرض ومياه في إسرائيل تحد من قدرتها على تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الزراعة، مما يؤثر على تكلفة الإنتاج المحلي وأسعار المستهلك.
وتواجه إسرائيل عجزا تجاريا كبيرا في المنتجات الزراعية، حيث تستورد كميات كبيرة من الحبوب والأطعمة، وفق دراسة نشرتها في 3 سبتمبر 2025، شبكة المعلومات الزراعية العالمية (GAIN) التي يعد تقاريرها موظفو خدمة الزراعة الخارجية في جميع أنحاء العالم (FAS).
وتعد دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من أهم أسواق التصدير لإسرائيل، مما يظهر حجم الأزمة التي قد تواجهها تل أبيب حال قطع الكتلة الأوروبية العلاقات الاقتصادية.
وبحسب الدراسة، في عام 2024 استوردت إسرائيل منتجات زراعية بقيمة 9.8 مليارات دولار، خصص جزء كبير منها لصناعة معالجة الأغذية، بينما بلغت قيمة صادراتها 2.8 مليار دولار.
وخلال السنوات العشر الماضية، قفزت واردات إسرائيل من المنتجات الزراعية إلى ضعف حجمها تقريباً، وفق ذات الدراسة التي بينت أنه “تقريبًا جميع مكونات هذا القطاع مستوردة”.
وأيضا، ذكرت أن قطاع خدمات الأغذية تأثر بشدة بسبب الحرب وانخفاض السياحة وإغلاق المطاعم والفنادق وارتفاع الأسعار ونقص العمالة.
وأكدت الدراسة أن نمو المبيعات في قطاع الأغذية يعتمد على إنهاء النزاع الإقليمي (العدوان على غزة) وتحسن الطلب.
ولفتت إلى أنه “في حال استمرار الحرب في غزة، يتوقع أن يتأثر نمو الناتج المحلي الإجمالي سلباً من حيث العرض والطلب، وقد يصل معدل التضخم في عام 2025 إلى 2.6 بالمئة”.
وتطرقت إلى الحظر التجاري التركي المفروض على إسرائيل، “الذي أثر على العديد من واردات المنتجات الزراعية، وعلى استهلاك بعض المنتجات مثل المكسرات والتين وزيت الزيتون والدقيق، فيما يتم حالياً استيراد بعض هذه المنتجات من مصادر بديلة”.
ويختلف تعافي الاقتصاد الإسرائيلي من حيث الموقع الجغرافي (وسط إسرائيل مقابل المناطق المحيطة) ومن حيث القطاعات الاقتصادية.
وقد كانت قطاعات البناء والزراعة والسياحة، من أبطأ القطاعات تعافياً في إسرائيل بسبب نقص العمالة الأجنبية، وفق الدراسة.
وتظهر بيانات سلطة الابتكار أن اقتصاد إسرائيل لا يزال يعتمد بشكل كبير على قطاع التكنولوجيا، خاصة التصدير والاستثمارات الأجنبية بالشركات الناشئة.
فالقطاع التكنولوجي يشكل نحو 57 بالمئة من إجمالي صادرات إسرائيل، ويشغّل مئات الآلاف من العاملين، ويزدهر بالارتباط بالعالم الخارجي، ما يظهر حجم الضرر المتوقع حال اتساع العزلة.
قطاع الأسلحة لم يكن بعيدا عن الضرر؛ إذ ألغت إسبانيا أخيرا عقدين ضخمين مع شركات إسرائيلية، بلغت قيمتهما الإجمالية قرابة مليار يورو.
فقد ألغت إسبانيا صفقة بقيمة 700 مليون يورو لشراء 12 نظاما لإطلاق الصواريخ عالية الحركة مطور من مجموعة "البيت سيستمز"، وعقد آخر قيمته 287,5 مليون يورو لاقتناء 168 قاذفة مضادة للدروع من إنتاج شركة "رافائيل" الإسرائيلية.
وإلى جانب إسبانيا، أعلنت سلوفينيا وكندا وبلجيكا وهولندا تعليق أو تقليص صادرات الأسلحة، بما في ذلك الذخائر والمعدات العسكرية التي يمكن أن تُستخدم في العمليات العسكرية في غزة، بهدف احترام القانون الدولي والضغط لإنهاء الحرب.

تأثيرات ونتائج
توقعت وكالة بلومبيرغ الأميركية أن تواجه إسرائيل مزيدا من الضغوط الاقتصادية والتجارية مع تصاعد الحرب في غزة وذهاب تل أبيب نحو احتلال القطاع وغياب أي مؤشرات جدية على وقف إطلاق النار.
وأكدت الوكالة خلال تقرير لها في 19 سبتمبر أن عمليات الاستدعاء المتكررة لقوات الاحتياط، على مدى نحو عامين من القتال، تسببت في إرباك بيئة الأعمال.
ونقلت عن نمرود فاكس، المؤسس المشارك لشركة BigID للبيانات الذكية، أن 20 بالمئة من موظفي شركته البالغ عددهم 600 – ربعهم يعملون في إسرائيل – خدموا في الجيش خلال وقت واحد، ما أثر بشكل ملحوظ على مشاريع طويلة الأمد وأبحاث وتطوير حيوية.
وتشير التقديرات إلى أن نحو 130 ألف جندي احتياط سيجري استدعاؤهم في العدوان العسكري الذي بدأ أخيرا على مدينة غزة، أي ما يعادل 3 بالمئة من القوى العاملة في إسرائيل، وفقا لتقرير "بلومبيرغ".
وبينت أن الاقتصاد الإسرائيلي البالغ حجمه 580 مليار دولار يعاني من تباطؤ غير مسبوق منذ أكثر من عقدين (باستثناء جائحة كوفيد-19).
كما ذكرت أن الناتج المحلي ما زال أقل من مستوياته ما قبل الحرب بعد احتساب التضخم، فيما ارتفع العجز المالي، واضطرت الحكومة الإسرائيلية إلى الاقتراض بمبالغ قياسية من أسواق السندات المحلية والدولية لتمويل القتال.
وبحسب تقديراتها، فإن الاقتصاد الإسرائيلي أصغر بنسبة 7 بالمئة مما كان سيكون عليه الوضع لولا الحرب، في ضربة موازية لحجم الأزمة المالية العالمية.
في المقابل، تزداد المخاوف بين المستثمرين من طول أمد الحرب وتداعياتها، في ظل تهديدات العقوبات وتعثر البورصة.
كما يخشى المصدرون، خصوصا في قطاع التكنولوجيا، من عزلة دولية متنامية مع تصاعد الغضب العالمي من صور الدمار في غزة.
أما الشركات الصغيرة والمتوسطة، التي تشغّل نحو 60 بالمئة من القوى العاملة، فهي الأكثر تضررا بسبب النقص الحاد في الأيدي العاملة.
وتشير بيانات الضمان الاجتماعي الإسرائيلي إلى أن 5 بالمئة من أصحاب الأعمال الحرة الذين استدعوا للخدمة الاحتياطية لأكثر من 30 يوماً اضطروا لإغلاق أعمالهم مع نهاية العام 2024.
بدوره، أشار محلل الشؤون الاقتصادية في القناة الـ 13 العبرية، متان خدوروف إلى أن العزلة التي تتعرض لها إسرائيل تتسبب في هجرة متزايدة وخاصة من الطبقة الأكثر تعليما.
وأوضح أن أكثر من 80 ألف شخص غادروا إسرائيل عام 2024، بينهم أطباء ومهندسون وخبراء تكنولوجيا، مما يهدد البنية الاقتصادية والاجتماعية.
وأوضح خدوروف أن معدل النمو السكاني لم يتجاوز 1 بالمئة خلال العام العبري المنصرم، محذرا من أن استمرار هجرة الكفاءات سيؤدي إلى تحولات سياسية واقتصادية عميقة قد يصعب تداركها خلال العام 2026.
وفي 22 سبتمبر، كشفت صحيفة كالكليست الاقتصادية العبرية، أن قطاع التكنولوجيا الذي يعتمد على العمالة والاستثمارات الأجنبية يواجه هروب العقول، فيما يعمل نصف موظفي البحث والتطوير خارج "إسرائيل"، ما يطرح تحديًا حقيقيًا لمستقبل الاقتصاد الإسرائيلي.
وبينت أن نحو 8300 من خبراء التكنولوجيا غادروا إسرائيل بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 ويوليو/تموز 2024 للعمل في الخارج، أي نحو 2.1 بالمئة من العاملين في القطاع، مع متوسط خروج حوالي 825 موظفاً شهرياً.
وفي السياق ذاته، أبرزت القناة كان 11 أزمة المزارعين، حيث كشف مالك مزارع الرمان “بن كوهين” أن الأسواق الأوروبية أغلقت أبوابها أمام المنتجات الزراعية الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر 2023، مؤكدا أن المقاطعة لم تقتصر على الرمان بل شملت أيضا المانجا والفلفل والأفوكادو والحمضيات.
وأشار المزارع بن كوهين إلى أن دولا مثل ألمانيا وهولندا وبلجيكا وبريطانيا وفرنسا تراجعت بشكل واضح عن استيراد المنتجات، موضحا أن المقاطعة بدأت من المستهلكين الذين يرفضون شراء أي سلعة تحمل عبارة "صنع في إسرائيل" قبل أن تتحول إلى مقاطعة رسمية.
كما أفادت صحيفة "يديعوت أحرونوت" في 15 سبتمبر بأن نصف المصدّرين الإسرائيليين فقدوا عقودهم، فيما تضررت صادرات 76 بالمئة منهم.
ونقلت الصحيفة عن مُصدّرين إسرائيليين أن العديد من الشركات في أوروبا والولايات المتحدة رفضت تجديد عقود التصدير، فيما أعلنت شبكات تسويق لسلع مختلفة، خصوصاً الزراعية، وقف استيراد منتجات إسرائيلية "حتى إشعار آخر"، ما يهدد مواسم زراعية عديدة.
وأمام هذه المقاطعة والعزلة، أكد رئيس اتحاد الصناعيين الإسرائيليين رون تومر، أن "العلامة التجارية الإسرائيلية تضررت بشدة"، محذرا من أن الاقتصاد الإسرائيلي قد يعود سنوات إلى الوراء.