أسرار وأساليب.. من يدير غسل الأموال القذرة في العراق؟

يوسف العلي | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

أخذت ظاهرة غسل أو تبييض الأموال تتصاعد في العراق تماهيا مع انتشار تجارة المخدرات وصالات القمار والدعارة، وارتفاع جرائم الاتجار بالبشر، فضلا عن استشراء الفساد المالي بجميع مؤسسات الدولة، وذلك في مرحلة ما بعد الغزو الأمريكي للبلد عام 2003.

ولم تكن عمليات غسيل الأموال بمعزل عن تورط جهات حكومية، إذ كشفت تقارير صحفية عراقية مؤخرا، عن تفاصيل أكبر عملية تهريب مالي وغسل أموال تورط فيها مصرف حكومي لحساب آخر أهلي، وصلت قيمتها إلى 1.8 مليار دولار.

أكبر عملية غسل

القصة بدأت عندما تحركت إدارة مراقبة غسل الأموال التابعة للبنك المركزي العراقي لتتابع تحويلات مالية مريبة مصدرها مصرف حكومي، لحساب مصرف أهلي معروف بصلاته السياسية.

هذه التحويلات موّلت اشتراك المصرف الأهلي في نافذة مزاد العملة بالبنك المركزي العراقي، وبلغت قيمتها 1.5 تريليون دينار تقريبا (للفترة من فبراير/ شباط 2014 لغاية يونيو/حزيران 2014).

وتشير وثيقة تناقلتها وسائل إعلام محلية، إلى أن "التحويلات الخارجية باسم المصرف الأهلي بلغت 1.8 مليار دولار، خلال الفترة نفسها، لكن دون أن يكون هناك سبب واضح أو تفسير لمصدر هذه الأموال، أو الغرض الذي جرى تحويلها بسببه إلى مصرف أهلي عربي".

وتُبيّن الوثيقة، أن "إدارة مراقبة غسل الأموال العراقية قد لفتت انتباه الإدارات المعنية داخل البنك المركزي للموضوع، وأجاب المصرف الحكومي بأن: ليس من واجبه أن يتابع مصادر أموال المودعين لدى المصرف الأهلي المعني، وأن مسؤولية المصرف الحكومي تنحصر في متابعة تنفيذ نقل الأموال فقط".

وعقب مرور ثلاثة أشهر من التحويلة المالية الضخمة، وتحديدا في سبتمبر/ أيلول 2014، أعرب المصرف الحكومي عن إقراره بأن قبول الأموال وتحويلها بهذا الحجم، دون معرفة مصادرها من المصرف الأهلي كان خطأ، وبالتالي وجّه بعدم القبول لاحقا بمثل هذه التحويلات مستقبلا.

في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، طالبت إدارة لجنة مكافحة غسل الأموال في البنك المركزي العراقي، المصرف العربي المستلم للتحويلة الضخمة، بأن يزوده بأسماء وأرقام حسابات الجهات المستفيدة من تلقي هذه الأموال، وكانت الإجابة بأنها (أي الجهة العربية) لا تعرف شيئا عن المستلمين، بل إنها لم تتأكد أن المصرف العربي المعني بهذا التحويل قد تسلم المبلغ فعليا.

وبعد ذلك، توجهت إدارة لجنة غسل الأموال في البنك المركزي توجهت الى هيئة الضرائب العراقية كي تستطلع فيما إذا كانت قد تحاسبت ضريبيا مع زبائن المصرف الأهلي المذكور، كي تقتفي أثر مصدر الأموال والسبب الذي جرى استخدامها فيه، لكن اللجنة لم تستلم أية إجابة.

مصادر الأموال

تعددت مصار الأموال القذرة التي تصب في وعاء الغسيل، إذ كانت واحدة من أبرزها وربما أولها، هي تلك الناتجة عن عمليات سرقات المصارف والبنوك بعد احتلال العراق مباشرة في عام 2003.

وكذلك، الأموال المتأتية من سرقة الآثار الثمينة وتهريبها، وبيعها في الأسواق العالمية، إضافة إلى تهريب النفط ومشتقاته، وتهريب المكائن والآلات والمعدات والمصانع الى الخارج، الغش الصناعي والتجاري بعد انكشاف السوق العراقية وغياب دور الدولة ومؤسساتها، وعصابات السرقات والخطف، و الأموال المخصصة لإعادة الاعمار التي تتجه نحو إقامة مشاريع وتقديم خدمات وهمية .

ومن أهم مصادر الأموال هذه، هي العمولات الضخمة من الصفقات مع شركات عالمية معروفة وأخرى وهمية، يتعاقد معها مسؤولون عراقيون، والتي تعرف بالرشوة والفساد الإداري، والتربح من الوظائف العامة، والأموال التي كانت بذمة مسؤولي المالية في بعض مؤسسات الدولة خلال الحرب الأخيرة.

مؤخرا حازت عمليات المتاجرة بالمخدرات، ولعب القمار في صالات الروليت، وتجارة الجنس، وجرائم الاتجار بالبشر على القدر الأكبر من عمليات غسيل الأموال، وفقا لما كشفه رئيس اللجنة الأمنية السابق في البرلمان العراقي.

وكشف حاكم الزاملي في مقابلة تلفزيونية، عن وجود 10 صالات للعبة الروليت في فنادق بغداد، مؤكدا أنها وسيلة لغسل أموال الفاسدين والسراق، إذ يقومون عن طريقها بإخراج أموالهم المسروقة الى خارج البلد باعتبار أن هذه اللعبة معترف بها دوليا.

غسل داخلي

لم تقتصر عمليات غسيل الأموال على طرق تهريبها إلى الخارج، وإنما يجري تبييضها في داخل العراق، وذلك من خلال بناء عمارات ضخمة وافتتاح ماركتات ومطاعم كبيرة، وفقا لمصادر محلية.

وكشف أبو عبدالله (اسم وهمي) صاحب شركة مقاولات في بغداد لـ"الاستقلال"، عن عمليات بناء غير مسبوقة تشهدها العاصمة العراقية، لعمارات ضخمة لا يعرف أصحابها، إذ أن هذه المشاريع في العادة تكون معروفة مصادر تمويلها وتشرف عليها شركات مقاولات معروفة ولها سمعتها في السوق.

وأشار إلى أن عددا من "ماركتات" التسوّق كذلك، باتت معروفة على أنها إيرانية ووظيفتها غسيل الأموال ومنها (أميرة ماركت) الذي لديه أكثر من فرع في بغداد وحدها، إضافة إلى فروعه في المحافظات.

وكذلك، المطاعم الضخمة ومحال الألبسة الكبيرة التي افتتحت مؤخرا تثير الكثير من الشكوك، لأنها افتتحت في مناطق باهظة الثمن، وعند التجول في هذه المحال أو المطاعم لا تجد فيها زبائن، على الرغم من افتتاحها قبل عامين أو ثلاثة، بحسب قوله.

وعلل أبو عبدالله ذلك بالقول: "إن مشاريع من هذا النوع إذا لم تأت بأرباح خلال العام الأول، فلا يمكن أن تستمر لأن الخسائر تكون هائلة، وأن بقاءها بدون زبائن دليل على أنها وجدت لغرض غسيل الأموال، فهي تبنى من أجل تحويل أموال غير مشروعة إلى أموال نظيفة".

ولفت إلى أن المواطن البغدادي البسيط، بات يعرف الغرض من إنشاء هذه البنايات الضخمة الخالية من الزبائن، إلا أن الغريب في الأمر هو غياب الجهات الحكومية عن الحد من تنامي هذه الظاهرة.

تورط سياسيين

مهدت الحكومات العراقية المتهمة بالفساد المتعاقبة على السلطة بعد 2003، إلى عمليات تهريب منظمة لمليارات الدولارات جرت عبر مزاد بيع العملة الصعبة لعدد من المصارف والشركات المالية بين 2006 و2014، حينما كان نوري المالكي رئيسا للوزراء.

وفي أبريل/نيسان 2014، كشفت اللجنة المالية في البرلمان العراقي عن خسارة البلاد نحو 360 مليار دولار، بسبب عمليات الفساد وغسيل الأموال، جرت مدة 9 سنوات في الفترة ما بين عامي 2006 و2014، والتي حكم فيها المالكي البلاد.

ووضع تقرير آخر، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، صادر عن اللجنة المالية في البرلمان العراقي، يده على الخيوط الأولى لفساد من العيار الثقيل، يزيد من تبرير المرتبة التي احتلها العراق كواحد من أكثر البلدان الستة فسادا في العالم.

إلا أن رئيس هيئة النزاهة الأسبق القاضي رحيم العكيلي، قال في مقابلة تلفزيونية، إن هذا التقرير ليس الأول، ولكن سبقه في 2010 تقرير للرقابة المالية، ولكن النفوذ السياسي قوي والجهات التي تلاحق الفساد ضعيفة.

وأشار العكيلي إلى إزاحة محافظ البنك المركزي سنان الشبيبي (أزيح في زمن حكومة نوري المالكي) ليتسنى لطبقة سياسية التحكم بالبنك المركزي والتلاعب بسعر الصرف.

أما آخر أيامه رئيسا لهيئة النزاهة، فقد ارتبطت -حسبما أضاف- بالتحرك بجمع معلومات حول شخص حوّل إلى الأردن مبلغ 1.5 مليون دولار لشراء عقار تبين أن هذا الشخص قريب من المالكي، فكانت الطامة الكبرى.

لكن تهريب الأموال لم تكن تضطلع به المصارف فقط. ويشير العكيلي أن حقائب كانت تملأ بالمال وتذهب إلى دول مجاورة، وأن دولة كإيران كانت تستخدم الأموال العراقية المسروقة لمواجهة أزمتها الاقتصادية.

ويتحدث العكيلي عن فساد القضاء العراقي فيقول إن 2500 قضية غسل أموال أقفلها قاض عراقي، فكوفئ على ذلك بالمال وبإجازة ستة أشهر قضاها في ربوع لبنان.

وأكد رئيس هيئة النزاهة السابق، أنه منذ العام 2004 لم يقدم مكتب غسل الأموال جريمة واحدة للتحقيق فيها، علما بأن 551 مليار دولار من عائدات النفط ذهبت إلى الخارج.

وذكرت تقارير صحيفة، أنه بين العامين 2009 و2011 بقي الفائض المالي في العراق ثابتا، وهو 83 مليار دولار، بينما جرى تحويل الباقي إلى الخارج تحت عين ومراقبة البنك المركزي التابع مباشرة لرئاسة الوزراء.

وأصدرت الحكومة العراقية، في 2015 قانونا يكافح تبييض الأموال ويمنع إخفاءها في قنوات رسمية، كان البنك المركزي قد تقدم. 

حماية السراق

في ديسمبر/ كانون الأول 2017، كشف مصدر حكومي عراقي لوكالة "فرانس برس" أن السلطات تستعين بمحققين من مؤسسات غربية ومن بعثة الأمم المتحدة لتتبع عمليات تهريب وغسيل الأموال.

وأوضح المتحدث باسم السلطة القضائية القاضي عبد الستار بيرقدار، أن "هناك فاسدين أدينوا بقرارات قضائية وصدرت أحكام عقابية بحقهم وفق القانون، ولكن شملهم قانون العفو العام الذي شرّعه مجلس النواب".

وبين هؤلاء الذين تمكنوا من الفرار من البلاد، محافظ البصرة ماجد النصراوي الذي اتهمه عبد الله عويز، أحد أبرز المقاولين في البلاد، في لقاء تلفزيوني بالمطالبة بنسبة 15 بالمئة من قيمة كل مشروع يخصص خمسة بالمئة منها إلى حزبه وعشرة في المئة تذهب إلى جيبه.

ودعت هيئة النزاهة إلى تشديد العقوبة على المتهمين بالفساد، وطالبت بوقف شمول المتهمين بالعفو. واتهم قاض مختص بالنزاهة السلطة التنفيذية بالوقوف وراء الاخفاق في اعتقال المسؤولين عن الفساد بعد اصدار أوامر قضائية ضدهم.

وتحدث بيرقدار، قائلا: "التشريع الذي صدر في 2016 شمل المتهمين بالفساد، في حال أعادوا المبالغ التي سرقوها او التي تسبب اختلاسها بأضرار".

ويرى مصدر قضائي، أن "التشريع غير منصف، فمن سرق مليارين على سبيل المثال قبل عشر سنوات والآن أصبح لديه عشرون مليارا، يدفع المليارين ويغادر السجن". ويضيف ساخرا: "إنها بمثابة قرض مصرفي".