صرفت عليها مليار دولار.. ما أهداف واشنطن من إنشاء سفارة جديدة في بيروت؟

لندن - الاستقلال | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

تبدو سفارة الولايات المتحدة الجديدة في لبنان، كقلعة حصينة في بلد مضطرب سياسيا واقتصاديا، حيث تشكل بيتا آمنا متعدد المرافق والخدمات للدبلوماسيين الأميركيين ولعوائلهم.

وفي عام 2017 أعلنت الولايات المتحدة عن إطلاق مشروع لتشييد مبنى لسفارتها بلبنان بتكلفة مليار دولار، "تتجسد فيه الثقافة الأميركية من هندسة معمارية وتكنولوجية مستدامة" ويجرى افتتاحه عام 2024.

موقع إستراتيجي

وتقع السفارة في تلة مرتفعة مطلة على البحر في ضاحية عوكر في قضاء المتن شمال العاصمة، بمساحة تقدر بـ 174 ألف متر مربع، حيث تبعد عن بيروت 13 كيلومترا.

ومساحة البناء ما يقرب من ضعفين ونصف من مساحة الأرض التي يجلس عليها البيت الأبيض وأكثر من 21 ملعبا لكرة القدم.

وتظهر الصور التي جرى إنشاؤها بواسطة الكمبيوتر ونشرتها السفارة، مجمعا حديثا للغاية يضم مباني متعددة الطوابق بنوافذ زجاجية عالية ومناطق ترفيهية وحوض سباحة، وتحيط به المساحات الخضراء وإطلالات على العاصمة اللبنانية.

ويشتمل المجمع على سكن ومرافق دعم مرتبطة به، وكذلك مركزا للفنون ومستشفى ومسبحا وأبراجا سكنية، وفقا للموقع الخاص بالمشروع.

والسفارة الجديدة تبعد عن كورنيش الضبية حوالي 1.7 كيلومتر، كما يبعد المشروع الجديد عن موقع السفارة القديم حوالي 250 مترا، مع الإشارة إلى أن الأخير يحتوي على مهبط لطائرات الإقلاع والهبوط العامودي VITOL.

كما أن طبيعة بناء السفارة وضخامتها وتصميمها على شكل مدينة صغيرة يؤكد سعي واشنطن لعزل دبلوماسييها عن السكان المحليين.

وعُهد إلى شركة Morphosis للهندسة المعمارية في لوس أنجلوس وشركة BL Harbert من ألاباما، والمسؤولة عن قنصلية أربيل العراقية، بأعمال البناء.

ويشرف على تنفيذ أعمال البناء ويليام موزر مدير مكتب عمليات البناء الخارجية بوزارة الخارجية والذي يجري زيارات عرضية إلى الموقع مثلما فعل في 5 مايو/أيار 2023 رفقة سفيرة الولايات المتحدة في بيروت دوروثي شيا.

وبحسب ما نشرت مجلة "إنتلجنس أونلاين" الفرنسية المعنية بالشؤون الاستخباراتية، في تقرير لها بتاريخ 29 مايو 2023، فإن السفارة الأميركية الجديدة ستسهل تبادل المعلومات مع الأجهزة اللبنانية ويسمح للولايات المتحدة بمراقبة المنطقة بأكملها عن كثب.

وبناء على شراكتها الاستخباراتية الممتازة مع بيروت، فإن واشنطن مصممة على الحفاظ على وجودها وطموحاتها في لبنان، بل وتوسيعها.

وجرى تحديد السفارة نفسها لتشمل مركزا لجمع البيانات، ولإنشاء الموقع الدبلوماسي كقاعدة إقليمية جديدة للمخابرات الأميركية.

وتؤكد "إنتلجنس أونلاين" أن لبنان يعد موقعا آمنا وإستراتيجيا لنشر عملاء استخبارات موجودين بالفعل في المنطقة بالإضافة إلى موظفين جدد جرى اختيارهم مباشرة من الوكالات التي تتخذ من واشنطن مقرا لها، وذلك بهدف إنشاء قاعدة دائمة في بيروت.

وهذا ما يوفر هامشا للتحرك بشكل أكبر للولايات المتحدة التي رسخت أقدامها في سوريا المجاورة وأصبحت تحمي آبار النفط والغاز هناك بما مجمله 90 بالمئة من حجم ثروة هذا البلد.

غرفة عمليات

علاوة على ذلك، تعتزم واشنطن الاستفادة من شراكتها الممتازة في المشاركة المعلوماتية مع شعبة الاستخبارات العسكرية "المكتب الثاني" التابعة للجيش اللبناني خاصة فيما يتعلق بحزب الله الذراع العسكري لإيران والذي يمتلك مئة ألف مقاتل ويتلقى تسليحا وتمويلا كاملا من طهران.

وتتهم الولايات المتحدة حزب الله اللبناني بتهريب الأسلحة العسكرية إلى وكلاء إيران في العراق واليمن وسوريا، لمهاجمة القوات الأميركية.

في الواقع، كما تشير "إنتليجنس أونلاين"، فإن تمويل الولايات المتحدة للجيش اللبناني الذي تلقى 60 مليون دولار أخرى من واشنطن في ديسمبر/كانون الأول 2022، يأتي مع ضمان وصول غير محدود للاستخبارات العسكرية الأميركية (DIA) إلى معلومات الاستخبارات التابعة لذلك الجيش.

وقد جاء بناء المجمع الضخم الجديد الذي تقرر البدء في تدشينه عام 2014، بمثابة مفاجأة لكثير من المراقبين في وقت تستمر فيه الولايات المتحدة في فك ارتباطها بالشرق الأوسط خاصة أن المنطقة العربية لديها بالفعل عدد كبير من البعثات الدبلوماسية الأميركية.

فمع سفارة رئيسة في عمّان، وأخرى هي الأكبر في العالم ببغداد التي رُصد لبنائها (600 مليون دولار)، وسفارة أخرى في أربيل بكردستان العراق، اختيرت السفارة الجديدة ببيروت في موقع أمني مميز يتسم بارتفاعه وسهولة الإخلاء منه إلى البحر، وهو ما يجعلها بمثابة مركز إقليمي وقاعدة خلفية محتملة.

كما يرى مراقبون أن حجم السفارة يشي بنية الولايات المتحدة إنشاء وجود عسكري كبير داخل المجمع الجديد مع كامل عتادهم وطائراتهم القتالية.

ولطالما أثار مجمع السفارة الأميركية الجديد الضخم جدلا بسبب حجمه الهائل ورفاهيته في بلد يعيش فيه ما يقرب من 80 بالمئة من السكان تحت خط الفقر.

فلبنان أصغر من ولاية كونيتيكت ويبلغ عدد سكانه ستة ملايين نسمة فقط، وقلة من السياح الأميركيين يذهبون إلى لبنان خشية الاختطاف وتحولهم إلى رهائن خاصة مع نفوذ حزب الله الأمني هناك.

قاعدة دائمة

لكن يبدو أن قرار الاستثمار بكثافة في بيروت يوضح مدى إصرار الولايات المتحدة على البقاء في لبنان لتحقيق توازن أكبر ضد النفوذ الإيراني المتجذر هناك.

وفي ثمانينيات القرن العشرين كانت السفارة الأميركية في بيروت مستهدفة، لكن الشعور السائد حاليا هو أن بيروت خيار جيد لمخططات واشنطن.

وعام 1983 شهدت السفارة الأميركية في بيروت تفجيرا أسفر عن مقتل 63 شخصا، من بينهم 52 لبنانيا وموظفا بالسفارة.

وفي أكتوبر/تشرين الأول من ذلك العام، انفجرت قنبلة في ثكنات تضم جنود حفظ سلام أميركيين وفرنسيين، في بيروت، مما أسفر عن مقتل 299 شخصا بينهم 241 عسكريا أميركيا.

كما كان لدى البعض تكهنات بأن السفارة ستعمل بطريقة ما كمركز "للجواسيس" أو مرتبطة بدعم الولايات المتحدة لإسرائيل وضمن إطار التنسيق الإستراتيجي بينهما.

ومن هنا تأتي فكرة إنشاء سفارة في لبنان لاقتناع واشنطن بأن تشييدها بهذا الحجم في البلدان التي تشهد قلقا أمنيا، سيزيد من ثقلها السياسي في المنطقة.

ولا سيما أن المكان به ما يكفي من مهابط طائرات الهليكوبتر التي أثبتت فاعليتها خلال إجلاء الولايات المتحدة الدبلوماسيين في كابول أو العراق أو السودان. 

كما أن تشبث الولايات المتحدة في تثبيت وجودها في لبنان نابع أولا من موقعه الجيوسياسي المهم بالنسبة لها، إذ إنه قريب من إسرائيل.

ولذا يتوقع المراقبون أن تتحول السفارة إلى غرفة عمليات جديدة تتخذ من هذا البلد مقرا لها، ولا سيما مع الحديث عن امتلاك السفارة لمراكز أبحاث متطورة داخلها.

في السياق، طرح الكاتب الفلسطيني "حامد أبو العز" في مقال له نشر في 7 مايو 2023 بموقع "رأي اليوم"، تساؤلا عن الهدف من إنشاء سفارة للولايات المتحدة بهذا الحجم، بقوله "هل هي سفارة أم قاعدة متقدمة؟".

يقول أبو العز: "لقد اختارت الولايات المتحدة مكان إنشاء سفارتها هذا بالقرب من البحر وحقول الغاز اللبنانية (في البحر المتوسط) بحيث ستستطيع أن تراقب وتعرقل أي عملية استخراج له".

وراح يقول: "كما تتحدث الأوساط اللبنانية عن عملية منع تحليق الطيران فوق السفارة ومن المؤكد أن الولايات المتحدة ستعمل على استقرار أنظمة دفاع جوي متطورة لحمايتها من أي هجمات محتملة".

بناء الولايات المتحدة ثاني أكبر موقع دبلوماسي بالعالم في لبنان، يشير إلى أنها ليست لديها خطة للتخلي عن دورها في الشرق الأوسط.

ولا سيما أن روسيا تمكنت منذ عام 2017 من الوصول إلى البحر المتوسط وإقامة قاعدة بحرية بطرطوس السورية وأخرى عسكرية في اللاذقية بعقد حصلت عليه من نظام بشار الأسد مدته لكلا القاعدتين 49 عاما قابل للتمديد.

وفي هذا الإطار رأى الخبير في الشؤون الأميركية وليد فارس، أن موقع "القلعة الأميركية" في لبنان، إستراتيجي للغاية، لمقربتها من شاطئ البحر المتوسط، وبالتالي تواصلها مع البحرية الأميركية، وعبرها إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو" في أوروبا، وفق قوله.

وأضاف فارس في مقابلة مع "فورين ديسك" نشرت مطلع مايو 2023: "تحتاج أجهزة المخابرات الأميركية إلى مركز مثل هذا في المنطقة، خاصة لرصد ومعالجة التهديدات من النظام الإيراني ومليشياته وأيضا من التنظيمات الأخرى".

ومضى يقول: "إن الموقع على شاطئ المتوسط يشكل مكانا إستراتيجيا متميزا ويوفر قدرة أفضل على إقامة شبكة اتصالات مع البحرية الأميركية".

ولهذا؛ فان الاستخبارات محظوظة لقدرتها على مراقبة منطقة واسعة من موقعها في لبنان تمتد من شاطئ المتوسط إلى حدود باكستان، بحسب تقديره.