خلعوا نجيب.. كيف وأد ضباط يوليو حلم المصريين في دولة ديمقراطية؟

أحمد يحيى | 5 years ago

12

طباعة

مشاركة

تحتفل الدولة المصرية بالذكرى 67 لقيام ثورة 23 يوليو/ تموز 1952، عندما تحرك تنظيم الضباط الأحرار بقيادة اللواء محمد نجيب، والبكباشي جمال عبدالناصر، للإطاحة بالحكم الملكي، ونفي ملك مصر فاروق الأول خارج البلاد، وتأسيس نظام جمهوري جديد، حكم البلاد منذ ذلك اليوم. 

الضباط الذين كانوا في معزل عن الحياة السياسية والمدنية، وجدوا أنفسهم في زاوية عظيمة، ودعم كامل من الشعب الذي أيد تحركهم، وصنعوا بمغامراتهم تاريخا جديدا لمصر.

لكن الثورة كما رفعت أقواما وجعلتهم أغنياء، وملّكتهم السلطة والنفوذ، دمرت آخرين، وغيرت للأبد حياة جميع من عاصروها، لا سيما واحدا من أهم رجالها، وهو اللواء محمد نجيب، قائد التنظيم الذي قام بالثورة.

نجيب أول رئيس لجمهورية مصر العربية، أطيح به وظل طي النسيان فترة طويلة من الزمن، حتى خرج وكتب مذكراته قبل أن يموت، واستدعى التاريخ لينصفه، ودوّن شهادته على هذه المرحلة الحاسمة، التي ما زالت القاهرة تدور في رحاها حتى اللحظة.

نجيب رئيسا

في 18 يوليو/تموز 1953 أعلن محمد نجيب سقوط الملكية وقيام جمهورية مصر العربية برئاسته، مع احتفاظه برئاسة مجلس قيادة الثورة، وهو القرار الذي حظي بشعبية واسعة بين المصريين.

بعد ذلك أعلن الرئيس المصري الأول، مبادئ الثورة الستة وحدد الملكية الزراعية، لكنه كان على خلاف مع ضباط مجلس قيادة الثورة بسبب رغبته في إرجاع الجيش لثكناته وعودة الحياة النيابية المدنية.

نجيب طالما أكد أن الجيش لن يحكم وأن الديمقراطية هي الحل الأمثل لنهضة مصر والمصريين، ويبدو أن هذا التأكيد المتواصل كان بداية الأزمة مع عدد من الضباط الأحرار الذين كان لهم رأي آخر. 

قال نجيب في كتابه "كنت رئيسا لمصر" عن علاقته بالضباط الأحرار في تلك الفترة: "كان للثورة أعداء، وكنا نحن أشدهم خطورة. كان كل ضابط من ضباط الثورة يريد أن يملك، يملك مثل الملك، ويحكم مثل رئيس الحكومة".

مضيفا: "طردنا ملكا وجئنا بثلاثة عشر ملكا آخرين، وأنا اليوم أشعر أن الثورة تحولت بتصرفاتهم إلى عورة، وأشعر أن من كنت أنظر إليهم على أنهم أولادى، أصبحوا بعد ذلك مثل زبانية جهنم، ومن كنت أتصورهم ثوارا أصبحوا أشرارا. لقد خرج الجيش من الثكنات، وانتشر فى كل المصالح والوزارات المدنية فوقعت الكارثة التى لا نزال نعانى منها إلى الآن فى مصر".

الإطاحة بنجيب

عندما شعر محمد نجيب أن الأوضاع تتجه نحو الأسوأ، بينه وبين الضباط الأحرار، وعلى رأسهم جمال عبدالناصر، قدم استقالته يوم 22 فبراير/شباط 1954، ليقبلها الضباط الأحرار على الفور، إلا أن المظاهرات الشعبية الجارفة المؤيدة لنجيب أجبرت الضباط على إعادته مرة أخرى يوم 27 فبراير/شباط، والإعلان عن إجراءات لتنظيم العمل السياسي الديمقراطي في مارس/آذار من العام نفسه، والاستعداد لحل مجلس قيادة الثورة، وبدا للجميع أن مصر تخطو أولى خطواتها نحو الحرية، والديمقراطية.

لكن في 29 مارس/آذار تم العدول عن القرارات الديمقراطية، وقرر مجلس الثورة يوم 17 أبريل/نيسان أن يكتفي نجيب بمنصب رئيس الجمهورية فقط، وأن يتولى عبدالناصر رئاسة الوزراء، ليكون نجيب رئيسا فخريا دون صلاحيات حقيقة، وتكون هذه أولى خطوات نهايته السياسية، فيما عرف تاريخيا بأزمة "مارس 54".

ويوم 26 أكتوبر/تشرين الأول 1954، وقعت حادثة "المنشية" في الإسكندرية، ومحاولة اغتيال جمال عبدالناصر، واتهام جماعة الإخوان بتدبيرها، واتهام نجيب بالتعاطف مع الجماعة، ليقرر مجلس قيادة الثورة يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1954 إقالة نجيب وتحديد إقامته، والإبقاء على منصب الرئاسة شاغرا، ليصبح بعدها عبدالناصر رئيسا، وتطوى صفحة نجيب كرئيس لجمهورية مصر العربية إلى الأبد.

ويروي محمد نجيب في مذكراته "في ذلك اليوم قال لي عبد الحكيم عامر إن إقامتك في فيلا زينب الوكيل لن تزيد عن بضعة أيام، تعود بعدها إلى بيتك. ولكن من يوم دخلت هذه الفيلا وحتى أكتوبر/تشرين الأول 1983 لم أتركها، حوالي 29 سنة، إنه الزمن يجبر الإنسان على الألفة والتعايش مع ما يحب وما يكره، ومع ما يريده، حتى مع السجن والمعتقل، وقد كان بيننا أنا وتلك الفيلا المهجورة ألفة وعشرة وارتباط، وكان بيننا أيضا إحساس مشترك بفقدان الحرية". 

 

نكسة يونيو 

محمد نجيب لم يدفع وحده ثمن الإطاحة به، والانقلاب عليه من قبل جمال عبدالناصر، فقد كتب عبداللطيف البغدادي، أحد الضباط الأحرار، شهادته عما حدث منذ الإطاحة بالملك فاروق في يوليو 1952، حتى وقوع نكسة 5 يونيو/حزيران 1967.

وقال البغدادي: إن "الهزيمة نهاية كل نظام مثل هذا النظام" ويتحدث عن "مقامرة جمال عبدالناصر بمستقبل أمة بأكملها في سبيل مجده الشخصي".

ويضيف: "كنا نعرف من قبل أنه يقامر، وكنا نندهش من هذا التصرف، وهو كان قد قدر أنه سيحقق نصراً يرفعه إلى السماء دون أن يخسر شيئاً، فجاءت النهاية، نهاية نظامه، وخزي وعار على الأمة. ربما يكون خيراً، من يدري؟ ربما أراد الله إنقاذ هذه الأمة من استعباد جمال لها ومن تأليهها له". 

وفي كتابه "الآن أتكلم" الذي صدر عام 1992، كتب خالد محي الدين، أحد الضباط الأحرار، شهادته عن عصر الثورة، ويقول: إن "عبدالناصر كان ضد الديمقراطية على طول الخط، وهو الذي دبّر الانفجارات التي حدثت في الجامعة، وغروبي، ومخزن الصحافة بمحطة سكة حديد القاهرة، عقب قرارات مارس 1954 الخاصة بإجراءات الديمقراطية، وتأسيس أحزاب سياسية، وإلغاء الأحكام العرفية، وتشكيل لجنة لوضع الدستور".

وأكد محي الدين، أن عبدالناصر "اعترف لعبداللطيف البغدادي بتدبيره للانفجارات، حتى يثير مخاوف الناس من الاندفاع إلى الديمقراطية، والإيحاء لهم بأن الأمن سيهتز، والفوضى ستسود، حال المضي قدماً في طريق الديمقراطية، وبجانب ذلك نظم إضرابا للعمال في نفس العام، وأنفق عليه وموّله بأربعة آلاف جنيه".

 

ضابط شغوف

ولد محمد نجيب يوسف يوم 20 فبراير/شباط 1901 في منطقة "ساقية أبو العلا" بالعاصمة السودانية الخرطوم، لأسرة عسكرية، فوالده "البكباشي" يوسف نجيب كان ضابطا بالجيش المصري في السودان، وشارك في حملة دنقلة الكبرى ضد الثورة المهدية، كما شارك في أغلب معاركها، وهناك في السودان عاش نجيب إلى أن أتم دراسته الثانوية ثم عاد إلى مصر ودخل المدرسة الحربية عام 1917.

ولد نجيب لأم سودانية المنشأ مصرية الأصل اسمها زهرة أحمد عثمان، وهي ابنة الضابط المصري الأميرالاي (عميد) محمد بك عثمان الذي قتل في إحدى معارك الجيش المصري ضد الثورة المهدية أيضا.

بدأ محمد نجيب 1905 تعليمه في كُتاب بمدينة "ود مدني" (الآن في مديرية النيل الأزرق) فحفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وعندما انتقل والده إلى وادي حلفا عام 1908 التحق بالمدرسة الابتدائية ثم انتقل مع والده إلى "ود مدني" فحصل فيها على الشهادة الابتدائية.

التحق نجيب بكلية غوردون، ولدى دراسته فيها توفي والده فكافح حتى تخرج فيها عام 1917 فحصل على الثانوية العامة، ثم سافر إلى مصر حيث التحق بالكلية الحربية في أبريل/نيسان 1917، وتخرج في 23 يناير/كانون الثاني 1918.

حصل نجيب على شهادة بكالوريا عام 1923 والتحق بكلية الحقوق، وفي عام 1927 كان أول ضابط في الجيش المصري يحصل على ليسانس الحقوق، ثم دبلوم الدراسات العليا في الاقتصاد السياسي عام 1929، ودبلوم آخر في الدراسات العليا في القانون الخاص عام 1931، وكان يجيد اللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والعبرية، ورغم مسؤوليته فقد كان شغوفا بالعلم.

وإذا عقدت مقارنة بين اللواء نجيب، ومعظم صف تنظيم الضباط الأحرار، سنجده أكثرهم علما بفارق شاسع، وتحديدا جمال عبدالناصر، الذي تخرج من الثانوية العامة سنة 1936 بمجموع 47%، وهي الشهادة التي ظلت معلقة في دار الوثائق حتى وقت قريب.

قائد الثورة

بدأ نجيب داخل الجيش كضابط في الكتيبة الـ17 مشاة ثم انتقل إلى سلاح الفرسان في شندي، وبعد إلغاء الكتيبة التي كان يخدم فيها انتقل إلى فرقة العربة الغربية بالقاهرة.

ثم انتقل بعد ذلك إلى الحرس الملكي في القاهرة يوم 28 أبريل/نيسان 1923، ومنه إلى الفرقة الثامنة بالمعادي بسبب تأييده للمناضلين السودانيين، ورقي إلى رتبة ملازم أول عام 1924، وفي ديسمبر/كانون الأول 1931 رقي إلى رتبة اليوزباشي (نقيب) ونقل إلى سلاح الحدود عام 1934 في العريش.

أصبح ضمن اللجنة التي أشرفت على تنظيم الجيش المصري في الخرطوم بعد معاهدة 1936، وأسس مجلة الجيش المصري عام 1937، ورقي لرتبة الصاغ (رائد) في 6 مايو/أيار 1938.

وعقب حادث 4 فبراير/شباط 1942 الذي حاصرت فيه الدبابات البريطانية قصر الملك فاروق لإجباره على إعادة مصطفى النحاس إلى رئاسة الوزراء قدم نجيب استقالته احتجاجا؛ لأنه لم يتمكن من حماية ملكه الذي أقسم له يمين الولاء إلا أن المسؤولين في قصر عابدين شكروه بامتنان ورفضوا قبول استقالته.

اشترك نجيب في القتال ضد القوات الألمانية عام 1943، وفي يونيو/حزيران 1944 رقي إلى رتبة القائمقام (عقيد)، وفي تلك السنة عين حاكما إقليميا لسيناء، وفي عام 1947 كان مسؤولا عن مدافع الماكينة في العريش ورقي إلى رتبة الأميرالاي (عميد) عام 1948.

اشترك محمد نجيب في حرب فلسطين عام 1948 من خلال معارك القبة ودير البلح وأصيب 7 إصابات في تلك الحرب، بينها 3 خطيرة، ومنح "نجمة فؤاد العسكرية الأولى" تقديرا لشجاعته بالإضافة إلى رتبة "البكوية"، وعقب الحرب عين مديرا لمدرسة الضباط.

في 9 ديسمبر/كانون الأول 1950، رقي نجيب إلى رتبة لواء، ورشح وزيرا للحربية في وزارة نجيب الهلالي لكن القصر الملكي عارض ذلك بسبب شخصيته المحبوبة لدى ضباط الجيش.

وفي 1 يناير/كانون الثاني 1952، انتخب محمد نجيب رئيسا لمجلس إدارة نادي الضباط بأغلبية الأصوات، ولكن الملك فاروق أمر بحل المجلس. 

اختار الضباط الأحرار اللواء نجيب ليكون قائدا لثورة يوليو/تموز 1952 لما كان يتمتع به من شخصية صارمة في التعامل العسكري، بالإضافة إلى شعبيته الجارفة داخل الجيش، ومواقفه الوطنية المعروفة.

 

موت وتكريم 

توفي اللواء محمد نجيب يوم 28 أغسطس/آب 1984 عن عمر يناهز 84 عاما بعد صراع مع المرض دام أكثر من 4 سنوات، وتم تشيع جنازته عسكريا من مسجد رابعة العدوية بالقاهرة.

كانت المأساة الكبرى في حياة نجيب تتمثل في شطب اسمه من الوثائق وكافة السجلات والكتب الرسمية، ومنع ظهوره تماما طيلة 30 عاما حتى اعتقد الكثير من المصريين أنه مات.

الوثائق والكتب الحكومية كانت تذكر أن عبدالناصر هو "أول رئيس لمصر"، واستمر هذا الأمر حتى أواخر الثمانينيات عندما عاد اسم نجيب للظهور بعد وفاته وأعيدت الأوسمة لأسرته، وأطلق اسمه على بعض المنشآت والشوارع، ومنها محطة مترو وسط القاهرة، وفي عام 2013 منحت عائلته "قلادة النيل العظمى".

كما أطلقت مكتبة الإسكندرية في يوليو/تموز 2013 أول موقع إلكتروني رسمي باسم "نجيب" ضم صورا وخطبا نادرة له وعرضا لتاريخه. وفي 22 يوليو/تموز 2017 أعاد الجيش المصري افتتاح قاعدة عسكرية في مدينة الحمام شمالي البلاد وأطلق عليها اسم "محمد نجيب".

وخلال افتتاح القاعدة، عرضت هيئة الشؤون المعنوية بالجيش فيلما تسجيليا مدته نحو 4 دقائق عن حياته، وبثه التلفزيون الحكومي، كما ضمت القاعدة العسكرية أيضا متحفا يحمل مقتنيات وصورا وتفاصيل من حياة محمد نجيب.