في زيارة خاطفة لمدينة جدة، التقى رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي فجر 2 أبريل/ نيسان 2023، مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على مائدة سحور بعد أسابيع من "الردح" بين وسائل إعلامهما ولجان ذبابهما الإلكتروني.
اللقاء جاء في أعقاب أزمة حادة وفتور في العلاقات، بسبب رفض المملكة تقديم منح جديدة بلا مقابل للسيسي المأزوم اقتصاديا، ووضعها شروطا لتقديم المساعدات حسبما أوضح وزير ماليتها محمد الجدعان، وفق وكالة رويترز في 18 يناير/ كانون الثاني 2023.
وكل ما صدر عن وسائل إعلام البلدين أشار إلى مناقشات عامة بين السيسي وابن سلمان، مثل "آفاق التعاون المشترك وسبل تعزيزه وتطويره في مختلف المجالات"، بحسب وكالة الأنباء السعودية، دون كشف مزيد من التفاصيل.
أو "القضاء على ما أشيع عن فتور العلاقة الثنائية بين الجانبين والرد على شائعات أهل الشر ومثيري الفتن وإظهار عمق العلاقات والتنسيق المشترك" كما أجمعت الصحف المصرية الحكومية والخاصة!
أو أن هدفها هو "الإشادة بالعلاقات التاريخية الوثيقة والمتميزة التي تربط بين البلدين الشقيقين... ومواصلة التنسيق والتشاور تجاه التطورات والقضايا الإقليمية والدولية، حسبما قالت الرئاسة المصرية، دون تفاصيل.
ووفق وسائل الإعلام المصرية، زار السيسي السعودية 14 مرة منذ توليه الرئاسة في يونيو/ حزيران 2014، وتعد زيارته الأخيرة في 2 أبريل 2023 هي الـ15.
لكن "مصادر دبلوماسية مصرية" قالت إن هدف الزيارة حل الأزمة التي كانت سبب المعارك الإعلامية الأخيرة، وهي تأخير مصر تسليم جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، حيث كانت تربطها بحزمة معونات ضخمة تخرجها من عثرتها الاقتصادية.
وأوضحت المصادر لـ"الاستقلال" أن ذهاب رئيس جهاز المخابرات عباس كامل مع السيسي، وحضور مستشار الأمن القومي السعودي مسعد بن محمد العيبان، اللقاء، كان لوضع اللمسات الأخيرة وترتيبات أمنية في الجزيرتين لتسليمهما.
لكن المقابل السعودي ليس معروفا وربما يكون حزمة استثمارات لا معونات ضخمة ستصب في صالح شراء أصول مصرية بمليارات الدولارات تحتاجها مصر قبل مراجعة صندوق النقد الدولي المقبل لخطط مصر الاقتصادية.
من جانبها، أكدت وكالة رويترز في 3 أبريل 2023، أن "السيسي زار السعودية لأنه يعاني من ضغوط مالية وتحالفات إقليمية".
وذكرت أن "تلك الزيارة تأتي بينما تسعى القاهرة لتدبير مليارات الدولارات من الاستثمارات الأجنبية المباشرة من الرياض".
وأوضحت أنه لطالما قدمت المملكة الدعم المالي لنظام السيسي لدعمه في مواجهة جماعة الإخوان المسلمين، لكن السعودية لم تعد تقدم مثل هذا الدعم دون شروط، ما أثار صداما إعلاميا نادرا بين البلدين.
ورجحت أن يكون السيسي زار المملكة للاستفادة من السياسة السعودية الجديدة المتعلقة بتحركات لتخفيف التوترات مع سوريا وإيران وتركيا، وهي نفس سياسة مصر للتفرغ للأزمة الاقتصادية المستحكمة.
وقبل الزيارة بعدة أيام، قال الدكتور خليل العناني الخبير السياسي إن "الأسباب الكامنة وراء إحجام السيسي عن نقل تيران وصنافير تمتد إلى ما هو أبعد من القضايا الفنية".
وأوضح في دراسة بموقع "المركز العربي واشنطن دي سي" في 29 مارس/ آذار 2023، أن "جوهر الخلاف يكمن حول حزمة الدعم المالي والاقتصادي التي كان السيسي يتوقعها من محمد بن سلمان" مقابل إعادة الجزيرتين.
وشدد على أن "نظام السيسي يستغل قضية تيران وصنافير لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، ومن المرجح أن يمضي النظام في نقل الجزيرتين إلى السعودية في الأشهر المقبلة بعد تأمين هذه المكاسب".
وذكر العناني أن هذا الدعم كان ينتظره السيسي للتعامل مع الأزمة الاقتصادية الحادة التي تواجهها مصر حاليا بمستويات غير مسبوقة من التضخم والديون الخارجية والفقر، لكن المسؤولين السعوديين رفيعي المستوى وضعوا شروطا لمثل هذه المساعدة.
وعندما أعلن السيسي عن نقل الجزيرتين إلى السعودية في عام 2016، كان ذلك مصحوبا باتفاقيات مالية واقتصادية ضخمة تم توقيعها بين البلدين في أبريل 2016.
حيث تضمنت هذه الاتفاقيات ما يقرب من 22 مليار دولار من المساعدات الاقتصادية والمالية والنفطية ما دفع المحللين والمعلقين المصريين إلى التكهن بأن نقل الجزيرتين كان أحد مكونات الحزمة المالية، وفق العناني.
لكن اعتماد السيسي الكبير على المساعدات المالية والاقتصادية الخارجية أثار مخاوف المسؤولين السعوديين بشأن قابلية استمرار الاقتصاد المصري على المدى الطويل.
رأوا أن اعتماد السيسي على الدين الخارجي والمساعدات المالية الخارجية له تأثير ضار على الاقتصاد المصري الذي يعاني من مشاكل هيكلية كبيرة، لا سيما بالنظر إلى مستوى الدين الخارجي غير المسبوق، ونقص الاستثمارات الأجنبية.
لذلك بدأت الحكومة السعودية في إعادة تقييم مساعداتها المالية لمصر، وتغييرها من المنح والودائع إلى الاستثمارات في الشركات والمؤسسات الحكومية، وأدى هذا التحول في السياسة إلى توترات بين البلدين في الأشهر الأخيرة، وفق العناني.
وكان السيسي قد أكد في تصريحات سابقة في أكتوبر/ تشرين الأول 2022 هذا التوقف للمنح الخليجية عندما قال إن دول الخليج أوقفت مساعداتها كليا.
ووجه السيسي إلى الخليجيين رسالة لوم مبطنة في المؤتمر الاقتصادي (مصر 2022)، حين قال إن "الأشقاء والأصدقاء تولّد لديهم انطباع أن الدولة المصرية غير قادرة على الوقوف مرة أخرى"، لذا قرروا وقف المنح.
ووقعت مصر خطة إنقاذ بقيمة 3 مليارات دولار مع صندوق النقد الدولي في ديسمبر/ كانون الأول 2022 استهدفت استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 9.7 مليارات دولار في السنة المالية المنتهية في يونيو 2023، لكنها لم تتحقق.
وقدمت دول الخليج لمصر 92 مليار دولار منذ انقلاب السيسي عام 2013 على الرئيس المنتخب محمد مرسي، وفق تقارير صحفية.
وتظهر الأرقام المنشورة على موقع "منصة المساعدات" الحكومي السعودي أن المملكة قدمت أكثر من 64 مليار دولار على شكل مساعدات لنحو 167 دولة حول العالم، الجزء الأكبر منها كان على شكل مساعدات تنموية.
واحتلت مصر المرتبة الأولى في إجمالي مبالغ المساعدات بنحو 13.7 مليار دولار، تلتها اليمن بنحو 10 مليارات وباكستان بـ 7 مليارات.
وقبل ساعات من سفر السيسي للسعودية، سلطت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية الضوء، على العلاقات المصرية السعودية، مؤكدة أنه "لا مزيد من الشيكات السعودية للسيسي على بياض".
وقالت في 2 أبريل 2023: "اعتادت السعودية إرسال الأموال إلى دول مثل مصر بشروط قليلة، بصفتها حليفا إقليميا، ينظر إليه على أنه مهم لا يمكن إهماله".
ولكن، حدث تحول ملحوظ، مع انزلاق مصر بشكل أعمق في أزمتها، حيث أرسل السعوديون رسالة صارمة: لا مزيد من الشيكات على بياض، وبدأت المملكة تضيق الخناق على مساعدة القاهرة وغيرها رغم مرور مصر بأزمة اقتصادية عميقة.
ووفقا للصحيفة الأميركية، يضع ابن سلمان شروطا متزايدة لمثل هذه المساعدات، مصرا على ضرورة إجراء مصر إصلاحات اقتصادية مثل خفض الدعم وخصخصة الشركات المملوكة للدولة.
ونقلت عن خبراء قولهم إن السعودية في السابق كانت ترى أن مصر أكبر من أن تفشل، لكن الموقف الآن هو أن "مصر مسؤولة عن أخطائها".
ووفقا للصحيفة، يقول المسؤولون السعوديون إنهم "سئموا من تقديم مساعدات لا نهاية لها للدول الفقيرة مثل مصر وباكستان ولبنان"، وأنهم يوجهون أموالهم الآن نحو الاستثمارات الدولية من أجل الربح.
وذكرت "نيويورك تايمز" أن الكيانات السعودية سعت إلى شراء الأصول المصرية بأسعار منخفضة، ونقلت عن خبراء قولهم إن هذا النهج يعده "المصريون استغالا للوضع السيئ من جانب السعوديين ولا يهدف لمساعدتهم".
وأكدت أن الحكومة السعودية بدأت تلعب دورا مشابها لصندوق النقد الدولي، ما يمنحها نفوذا أكبر من ذي قبل على السياسة الإقليمية، حيث تدين لها دول عديدة.
وكان قد قال وزير المالية السعودي محمد الجدعان في 18 يناير 2023 في دافوس بسويسرا: "اعتدنا تقديم منح وودائع مباشرة دون قيود، ونحن نغير ذلك".
وأضاف في اجتماع سنوي للنخبة السياسية والاقتصادية في العالم: "نحن نعمل مع مؤسسات متعددة الأطراف لنقول إننا بحاجة إلى رؤية الإصلاحات على أرض الواقع".
وأدت تصريحات الجدعان إلى اندلاع حرب كلامية بين خبراء سعوديين ومصريين، يغذيها قلق مصر من اعتمادها المتزايد على دول الخليج الأكثر ثراء، مثل السعودية والإمارات.
وعمل المسؤولون السعوديون والمصريون على تهدئة الأمور، لكن موقف السعودية لم يتغير وأصبحت تركز على "الاستثمارات" ذات العائد لا تقديم "منح"، وفق "نيويورك تايمز".
واندلعت في يناير 2023، معارك إعلامية بين أذرع النظامين المصري والسعودي الإعلامية، كجزء من الأزمة والخلاف المالي المرتبط بتيران وصنافير.
حيث خرج أحد الأذرع الإعلامية الخاصة بجهاز المخابرات العامة المصرية، محمد الباز، في بث مباشر عبر صفحته على موقع فيسبوك، متجاوزا هذا الوضع السياسي غير الطبيعي الذي يمنع انتقاد المملكة، مهاجما السعودية.
حيث هاجم الباز، زميله عمرو أديب، مقدم برنامج "الحكاية" في قناة "MBC مصر" السعودية وقال إنه " عميل سعودي وأجندة سعودية، وعنده كفيل سعودي".
ولم تمض سوى أيام، حتى أتى الرد السعودي من المفكر والإعلامي السعودي تركي الحمد، والذي قدح النهج الذي يحكم مصر، ممثلا في تسلط النخبة العسكرية على الاقتصاد، وتنامي تأثير البيروقراطية، وتخبط القيادة السياسية وتسولها.
ودخل على خط المواجهة الكاتب والمفكر السعودي، خالد الدخيل، عبر حسابه على تويتر، حيث انتقد سيطرة الجيش على السلطة والاقتصاد المصري وعدم السماح ببديل سياسي أو اقتصادي مختلف.
وسخر من قول السيسي إن مصر لن تركع إلا لله، متسائلا إذ كانت مصر لن تركع للمال الخليجي، فلماذا يطالب السيسي بـ "الرز الخليجي"؟!
وزاد التوتر أكثر حين لم يقتصر على ردود من قادة رأي سعوديين. ففي 3 فبراير/ شباط 2023، شن عبد الرزاق توفيق، رئيس تحرير صحيفة الجمهورية المصرية شبه رسمية، هجوما عنيفا على دول الخليج.
واستخدام ألفاظ قادحة من قبيل "الحفاة العراة الذين ارتدوا أفخر الثياب مؤخرا"، و "اللئام والأنذال ومحدثي النعمة"، ثم تم حذف المقال عقب ما أثاره من ضجة وردود خليجية مهاجمة لمصر.
وتشير دراسة لموقع "المسار للدراسات الإنسانية" منشورة في 10 فبراير 2023 حول دوافع وسياقات الخلاف السعودية المصري، إلى ما أسمته "انزعاج الرياض" من السياسات التي يدير بها النظام المصري اقتصاد البلاد.
قالت: في الوقت الذي يطالب فيه نظام 3 يوليو في مصر، السعودية ودول الخليج بشكل عام بمساعدته في أزمته الاقتصادية الجارية، نجد هذه الدول، وعلى رأسها السعودية، لا تتجاوب مع نظام السيسي حسبما يريد واعتاد منذ 2013.
وأشارت الدراسة لعدة أسباب تدخل في هذا التوتر، منها ما يتعلق بذهاب قدر من الاستثمارات السعودية إلى تركيا، وتفضيل السعودية للاستثمار في تركيا على مصر.
والتصادم أو الخلافات في المشاريع الاقتصادية لكل من السعودية ومصر، حيث تنافس السعودية المشروع المصري الإسرائيلي لتوفير الغاز لأوروبا، عبر تطوير حقلي المرجان والبري، لإنتاج 550 ألف برميل من النفط يوميا.
وتنشئ معملا لإسالة الغاز بطاقة 2.5 مليار قدم قياسية مكعبة من الغاز الطبيعي تشمل إنتاج 360 ألف برميل من سوائل الغاز الغنية بالإيثان والمكونات الأثقل، باستثمارات 18 مليار دولار، ما يشكل تحديا لمحور الغاز المصري الإسرائيل.
من المسائل الخلافية أيضا، مسألة تأمين البحر الأحمر، ومن يكون له اليد الطولي هناك في ظل إسناد الولايات المتحدة قيادة القوة البحرية المشتركة 153 للقوات المسلحة المصرية لا السعودية، ضمن التنافس بينهما.
وصولا إلى تأخير تسليم جزيرتي تيران وصنافير، الذي هو جزء من الأزمة الجارية بين القاهرة والرياض.
وحملت الشهور القليلة الماضية إرهاصات تململ أو ضيق من الداعمين الخليجيين للسيسي، بسبب سوء إدارته المنح والعطايا، واحتياجه الدائم لمنح جديدة ورغبتهم في اعتماد مصر على نفسها وتوقفها عن طلب المساعدات منهم.
لكن السؤال المهم، وفق تقرير سابق لـ"الاستقلال" هو: إلى أي مدى يمكن لدول الخليج أن تتمسك بوقف دعم السيسي في ظل مؤشرات انهيار الأوضاع في مصر وتصاعد الغضب الشعبي؟
وهل هم على استعداد للمخاطرة بتعرض النظام المصري الحالي لهزات سياسية قد تعصف به، وربما تعيد قوى ثورية للحكم، بينما كان تدخلهم الأصلي لدعم السيسي لإجهاض هذا السيناريو الذي ظهر بعد ثورة عام 2011؟
وقد رد الباحث المصري "خليل العناني" على ذلك مؤكدا في مقال بموقع "ميدل إيست آي" البريطاني، أن الخليج لن يتخلى عن السيسي كي يساعدهم في الاستيلاء على أصول مصر.
وقال في 19 يناير 2023، إن "الخليج ينظر إلى السيسي على أنه شريك موثوق في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، وهذا مهم بشكل خاص للسعودية والإمارات".
وأوضح أن العلاقة بين دول الخليج ونظام السيسي قد تكون متوترة، لكن من غير المرجح أن تنتهي بشكل كامل، فلا يزال يُنظر إليه كخيار مفضل، لأنه يسمح بتحقيق أكبر فائدة لمصالح تلك البلدان.
وتؤكد دراسة "مركز المسار" السابق الإشارة إليها، أن "المصالح الجوهرية تمنع كلا الطرفين المصري والسعودي من القطيعة تماما مع الآخر، بسبب التعاون والتنسيق بل والتحالف في بعض الملفات".
ودللت على هذا بسرعة تدخل مسؤولين لوقف التلاسن بين إعلاميي البلديين، وحذف بعضه بالفعل.
وبعد حذف بعض التغريدات ومقال لرئيس تحرير جريدة الجمهورية المصرية مسيء للسعودية، خرج السيسي محاولا أن ينفي وجود الخلاف من الأساس، مدعيا أن هناك "وسائل إعلام تتكلم في أمور عن الأشقاء ليس لها أساس من الصحة".
وأضاف: "مينفعش نسيء لأشقائنا وننسى اللي قدموه لينا، ولو في أزمة مينفعش أنا أطوّل لساني وأقول كلام مش مظبوط، حتى لو في خلاف مع دولة شقيقة بنتجاوزها"، مشيرا إلى السعودية كمثال على ما يتحدث عنه الإعلام، وفق وصفه.