لعبة خطوط الغاز: تركيا تتحول إلى نقطة ضعف لأمن الطاقة الأوروبي

12

طباعة

مشاركة

في آسيا الوسطى وزّع الدبلوماسيون الأمريكيون لاصق سيارة كتب عليه "السعادة: هي الكثير من خطوط الأنابيب"، للتشجيع على تنويع خطوط الغاز، كأفضل وسيلة للتقليل من مخاطر تعطل إمدادات النفط والغاز والاستفادة من رسوم العبور. اليوم، وبعد مرور أزيد من عقد على الجملة، بدأت أنقره تسعى لإيجاد طريقها إلى هذه "السعادة".

ترى تركيا نفسها جسر رابط بين دول إنتاج الغاز والدول المستهلكة له، وتحلم بأن تكون مركزًا للطاقة في المنطقة. فهي تقع على مقربة من ما يزيد عن 70% من احتياطات النفط والغاز المعروفة في جميع أنحاء العالم، التي يضمها الشرق الأوسط الكبير.

تمد تركيا شبكتها من خطوط الأنابيب للنفط والغاز من المورّدين في الشرق إلى الدول الغربية، نظرًا لموقعها الجغرافي الإستراتيجي، بتقاطع أهم طرق نقل الطاقة. ويساهم تحسين الاتصالات مع الدول المنتجة والأسواق الاستهلاكية في تعزيز أمن الإمدادات في تركيا، كما يزيد من أهمية جغرافيتها السياسية، واستفادتها من رسوم العبور، بالإضافة إلى منحها تأثيرات كبرى على أوروبا.

وترى الخبيرة في مركز خدمات تبادل معلومات الجغرافيا-السياسية GIS، كارول نخلة، أن تركيا برزت كدولة عبور رئيسة لإمدادات الغاز البديلة من منطقة بحر قزوين، وصارت بهذا نقطة ضغف قاتلة لأمن الطاقة الأوروبي؛ حيث تقع على طريق ما يراه الاتحاد الأوروبي حلًّا لمشكلة الاعتماد المتزايد على الغاز الروسي.

وتعزز هذه المشاريع من موقع تركيا كقوة إقليمية. وقد أدرك الاتحاد الأوروبي أن مسألة الطاقة والسياسات الخارجية لأنقرة يعتمد كل منها على الآخر. 

تركيا وروسيا

تفتقد تركيا لاحتياطيات الغاز، وتعتمد بشكل أساسي على الغاز المستورد الذي يمثل 29 في المائة من الاستهلاك الأساسي للطاقة وما يقرب من 50 في المئة من توليد الكهرباء. 

تضاعف استهلاك تركيا للطاقة ثلاثة أضعاف بين عامي 2000 و2015. وتبقى روسيا هي المورد الأكبر للغاز إلى تركيا، كما تسعى أنقرة إلى التقليل من اعتماد الدولة على الوقود. 

في السنوات الأخيرة، أصبحت روسيا ثاني أكبر شريك تجاري لتركيا، وقد كتبت الخبيرة، إيكا كيشلاشفيلي، في تقرير لمركز خدمات تبادل معلومات الجغرافيا-السياسية GIS، عام 2015 بأن قطاع الطاقة يبقى هو الركن الأساسي في العلاقة الاقتصادية الثنائية بين تركيا وروسيا.

في 2010 وقّعت شركة الطاقة الذرية الروسية المعروفة بروساتوم Rosatom عقداً لبناء مصنع نووي في تركيا تقدر قيمته بـ20 مليار دولار. فيما تغطي الإمدادات الروسية ما يقارب 33 بالمئة من احتياجات تركيا للطاقة، بينما تشكل واردات النفط والفحم حصة بسيطة 15 و 10 في المائة على التوالي.

الأتراك ليسوا راضين عن هذا التعامل، كما تقول الخبيرة، فبالنظر إلى بنود اتفاقية الواردات الروسية يدفع الأتراك أكثر بكثير مما يدفعه الأوربيون مقابل الغاز الروسي. وعلى هذا، فأنقرة حريصة على تنويع مواردها للطاقة، والحصول على امتياز في المفاوضات مع الروس. 

كثيرًا ما يحبذ رئيسا الدولتين الحديث عن الشراكة الإستراتيجية بينهما، ولكن هذا مضلل عن ما يحصل في الواقع. وقالت كيشلاشفيلي، حول تأثير ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 على تركيا، "في الواقع لا تملك تركيا أيا من التعاضد في الجغرافيا السياسية أو أي مصالح أمنية تجعل من شراكتها مع روسيا شراكة استراتيجية حقيقية، بل على العكس، ثمة الكثير من قضايا السياسة الخارجية المهمة تعارض تركيا فيها وبشكل جذري الموقف الروسي".

الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا في يوليو/ تموز 2016، وحملة الاعتقالات التالية، أخذت العلاقة بين أنقرة والاتحاد الأوروبي بالتآكل. وقد انتهزت روسيا هذه الفرصة "لتعميق التعاون في مجالي الطاقة والأمن مع أنقرة، والزيادة من نفوذها وتوسيع حضورها في سوريا والشرق الأوسط"، حسب تحليل الخبير الدكتور فرانك أومباك. 

ويستكمل الخبير القول، "مازالت تركيا تأمل في تنويع الطاقة من خلال التعامل مع موردين أجانب آخرين واستخدام المزيد من الفحم وموراد الطاقة المتجددة. و لكن تقاربها المتنامي مع روسيا له تداعياته على أوروبا والشرق الأوسط".

نابوكو: البداية الخاطئة للاتحاد الأوروبي

تلقى نابوكو (خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي من تركيا إلى النمسا عبر بلغاريا، رومانيا، والمجر)، دعما سياسياً من الاتحاد الأوروبي، ولكن لم يؤمِّن المشروع أيا من موردي الغاز للمرحلة الأولى ولا التمويل المطلوب. 

قام مركز خدمات تبادل معلومات الجغرافيا السياسية GIS، منذ البداية، بتغطية الجهود المضطربة للاتحاد الأوروبي لتحسين أمن الطاقة من خلال تنويع إمدادات الغاز عبر تركيا.

بدأت القصة في أواخر 2011 بداية مأساوية، حيث بدأ الانهيار العريض لمشروع خط أنابيب نابوكو الذي من المفترض أن يكون العمود الفقري للممر الرابع أو الممر الجنوبي للغاز في أوروبا (الممرات الثلاثة الأخرى: تصل أوروبا بروسيا، والنرويج، وشمال أفريقيا).

لقد حصل نابوكو على دعمٍ قوي من المفوضية الأوربية والعديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

وقد اعتبرته بروكسل مشروع أنابيب مصيري لأوروبا وذو أبعاد إستراتيجية متعددة، فهو لا يكتفي بنقل غاز أذربيجان إلى أوروبا فحسب، بل ينقل غاز تركمانستان عبر خط أنابيب بحر القزوين، ومن الإقليم الكردي في العراق، ويمكنه نقل الغاز من إيران حيث يقع ثاني أكبر احتياطي عالمي للغاز.

ويؤكد الدكتور أومباك أن مشروع نابوكو هو مشروع خط الأنابيب الوحيد الذي سيكون لديه ائتلاف تجاري أوروبي يسيطر بحسم على تدفق غاز بحر القزوين مباشرة إلى أوروبا.

خط عبر الأناضول قلب الموازين

سيؤدي مشروع ممر الغاز الجنوبي الجديد حال انتهاءه إلى جلب الغاز إلى أوروبا من حقل شاه دنيز الأذرى (نسبة لأذربيجان)، ولكن عمله سيكون معتمداً على ظروف وتطورات خارج سيطرة الاتحاد الأوروبي.

في سلسلة تقارير أصدرها مركز GIS، في بداية 2012، أرّخ الدكتور أومباك ظهور لاعب جديد في لعبة خط الأنابيب المحتدمة في المنطقة، الذي قدمته تركيا وأذربيجان بشكل مشترك. جرى الإعلان عن المشروع المشترك المسمى بـ"خط أنابيب الغاز عبر الأناضول" أو TANAP في نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 من قِبَل شركة الطاقة التركية بوتاس BOTAS.

اتفق الشركاء على وضع الأنابيب في الفترة ما بين 2012 و2017، بتكفل أذربيجان بـ80% من تكاليف العمل، وتتكفل تركيا بالنسبة الباقية (20%). كتب الدكتور أومباك "يعتقد العديد من الخبراء أن مشروع TANAP الذي يبلغ طوله 2000 كيلومتر قد قتل مشروع نابوكو الذي يبلغ طوله 3.900 كيلومتر، الذي كان قد تجاوز ميزانيته بالفعل". 

موقف روسيا

أضافت روسيا وشركة "غازبروم" العملاقة في مجال الطاقة التابعة للحكومة عقدة جديدة لمسلسل التنافس. فموسكو لها مشروعها الخاص المسمى خط أنابيب التيار الجنوبي للغاز، والمخطط له أن يتبع خطاً موازيا لنابوكو بهدف إضعافه وحماية الاحتكار الروسي للتصدير من بحر قزوين إلى أوروبا. 

بعد يومين من توقيع عقد مشروع خط الغاز عبر الأناضول، لاحظ الدكتور أومباك أن روسيا قامت بتوقيع اتفاقية مع تركيا فتحت لها الطريق لبدء ربط تيار الجنوب مع أوروبا، باستخدام المنطقة الاقتصادية الخاصة بتركيا في البحر الأسود.

في المقابل، خفضت روسيا سعرها من إمدادات الغاز السنوية إلى تركيا البالغة 6 مليارات متر مكعب. وبهذه الطريقة دُقَّ مسمار في نعش نابوكو، حسب ما كتب أومباك قبل أن يضيف محذرًا، "في المستقبل، سيكون لدى الإتحاد الأوروبي واردات طاقة في غاية التنوع، وخاصة من الغاز القادم من الدول الشمالية ومن الدول الإفريقية، وسيزيد الإتحاد واردات الغاز المسيل. لكن إذا لم يتم بناء خط أنابيب نابوكو، فهناك خطر وجود سوق مجزأة للطاقة في الجزء الشرقي من الاتحاد الأوروبي، الذي سيبقي اعتماده على واردات الطاقة الروسية، خاضعًا لمزاج روسيا ومصالحها الاحتكارية". 

في الجزء الثالث من سلسة تقاريره، أشار الخبير إلى جانب آخر مهم، وهو دور تركمانستان -يقدر أنها تملك رابع أكبر احتياطي للغاز في العالم- في مشروع خط أنابيب الغاز عبر الأناضول. بدأ الخبير بالتمعن في العقبات المدبرة من روسيا بشكل رئيسي، العارضة لخط أنابيب بحر القزوين المقترح، وهو رابط ضروري لجلب الغاز التركماني إلى أوروبا.

المسار النهائي والمشاركون فيه

أعلن شاه دنيز، في 28 يونيو/ حزيران 2013، عن قرار مسار الرابط النهائي لمشروع الممر الجنوبي للغاز الأوروبي، وهو -الرابط النهائي- الوِصلة الغربية لخط أنابيب الغاز عبر الأناضول. أنهى الإعلان، بحسب أومباك، سنوات من التنافس الاقتصادي والجغرافي، والتنافس الحاد بين الشركات، والنقاش المكثف حول مستقبل أمن إمدادات الطاقة الأوروبية.

لقد اختار ائتلاف شاه دنيز خط أنابيب الغاز الأقصر عبر بحر البنادقة (أو البحر الإدرياتيكي) إلى إيطاليا، الذي يبلغ طوله 876 كيلو متر، وامتداد 105 كيلو متر تحت البحر. مفضلًا إياه على خط نابوكو الغربي الطويل البالغ طوله 1300 كيلو متر الذي يمر عبر بلغاريا ورومانيا والمجر إلى مركز بومغارتن للغاز في النمسا. 

بحسب تقرير الخبير، فإن اتصال خط الأنابيب الأوروبي بخط أنابيب الغاز عبر الأناضول كان من المقدر له استقبال 16 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي من حقل غاز شاه دنيز البحري الثاني في أذربيجان، بواقع 6 مليارات متر مكعب للسوق التركي و10 مليار متر مكعب للسوق الأوروبية. وسيكلف مشروع شاه دنيز الثاني ونظام تسليمه إلى أوروبا -خط أنابيب الغاز عبر الأناضول وتوسيع خط أنابيب جنوب القوقاز- حوالي 40 مليار دولار.

مشروع شاه دنيز
تحتوي حقول الغاز تحت سطح البحر على 1.2 تريليون متر مكعب.
بدأت المرحلة الأولى من الإنتاج، لمشروع شاه دنيز الأول، في 2006.
بدأت المرحلة الثانية من الإنتاج، لمشروع شاه دنيز الثاني، في منتصف 2018.

يتألف ائتلاف شاه دنيز من الشركات التالية: شركة BP الأذرية وتملك 28.8%، وشركة النفط الحكومية لأذربيجان سوكار وتملك 16.7%، وشركة البترول التركية وتملك 19%، وشركة بتروناس وتملك 15.5%، وشركة لوك أويل وتملك 10%، وشركة نيكو الإيرانية وتملك 10%، وشركة SGC Upstream وتملك 10%.

إضعاف الاحتكار

في الوهلة الأولى، يبدو أن الأهمية الاقتصادية والإستراتيجية لخط أنابيب الغاز عبر الأناضول وخط أنابيب الغاز عبر بحر البنادقة هيّنة، فهما لا يؤمنان إلا 2 في المئة فقط من إجمالي الطلب الأوروبي على الغاز البالغ حوالي 500 مليار متر مكعب.

كتب أحد خبراء GIS في 2013، أن شركة غازبروم الروسية تصدر إلى أوروبا ما يساوي 13 ضعفاً مما يصدره خط أنابيب الغاز عبر بحر البنادقة. إضافة إلى ذلك، الغاز الأذري يقع عميقاً تحت قعر بحر القزوين مما يجعل عملية انتاجه مكلفة، كما يجب أن يتم نقله عبر أنابيب تمتد لأربعة آلاف متر عبر اليابسة ما يجعلها عرضة للتغيرات الجغرافية-السياسية والهجمات الإرهابية.

لا يمكن المبالغة في الأهمية الجغرافية-السياسية لخطي الأنابيب، أو القول بإنهما سينهيان الاحتكار الروسي لتوريد غاز بحر قزوين إلى أوروبا كما يقول أومباك. ويضيف أن تركيا لديها أيضا مصلحة حيوية في خفض اعتمادها على واردات الغاز من روسيا وإيران.

لقد أظهرت تركيا وأذربيجان مع خط أنابيب الغاز عبر الأناضول، كيفية استخدام المهارات التجارية والجغرافية-السياسية لتحقيق أهداف مشروع البنية التحتية الإستراتيجية للطاقة، حسب تحليل الخبير. كما أبرز خط أنابيب الغاز عبر الأناضول أيضا أن أذربيجان مستعدة للعمل ضد مصالح الطاقة الإستراتيجية لروسيا دون أن تعاني من عواقب.

ويخلص الخبير إلى أن تركيا قد خطت خطوات واسعة نحو هدفها المتمثل في أن تصبح مركزا للطاقة في المنطقة، لكن أذربيجان كانت هي المستفيد الأكبر من هذا المشروع، حيث تسيطر على الائتلاف التجاري لخط أنابيب الغاز عبر الأناضول وتملك ثمانين بالمائة من الإمدادات الأوروبية من منطقة قزوين.

روسيا.. من تيار الجنوب إلى التيار التركي

مثل تيار الجنوب الملغى، يقدم التيار التركي الخط الوحيد لتنويع المصادر، بينما يتنافس مع خطة الاتحاد الأوروبي لتحقيق تنويع حقيقي للواردات عبر ممر الغاز الجنوبي. 

يُنظر إلى المشروع الروسي في خط أنابيب تيار الجنوب على أنه الأكثر إثارة للجدل بتكلفة تصل إلى 50 مليار يورو، وأنه ذو قيمة تجارية مشكوك فيها. في ذلك الوقت، قدم خط أنابيب الغاز الروسي الحالي إلى أوروبا -بما في ذلك شبكة أوكرانيا- ما يقارب 250 مليار متر مكعب سنوياً، وقدرة تسليم كافية بدون الحاجة إلى استخدام تيار الجنوب البالغ 63 مليار متر مكعب.

قيمة تيار الجنوب بالنسبة إلى موسكو في تجنبه المرور بأوكرانيا. ورأى الروس فرصة للمضي قدما في مشروعهم بعد أن ألغيت "وصلة نابوكو الغربية Nabucco-West link " إلى الممر الجنوبي للغاز في الاتحاد الأوروبي، كما كتب الدكتور فرانك أومباك في أكتوبر 2013.

وحذر الخبير من أن بديل تيار الجنوب المدعوم من روسيا يمكن أن يصبح أمرا واقعا، قبل أن يقوم ائتلاف خط أنابيب بحر البنادقة بتنفيذ خيارات إمدادات إضافية لأذربيجان وغيرها من صادرات الغاز غير الروسية إلى جنوب شرق أوروبا.

القنبلة-المفاجأة

في 2014 ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في اجتماعه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قنبلة بإعلانه إلغاء خط غاز تيار الجنوب الذي يصل بين روسيا وإيطاليا. وألقى باللوم على الإتحاد الأوروبي واصفًا إياه "باتباع نهج غير بنّاء" وعلى بلغاريا لعجزها عن مواصلة المشروع.

وقال بوتين إن روسيا وتركيا وقعتا مذكرة تفاهم لبناء خط أنابيب جديد في البحر الأسود بأربعة تفرعات وبقدرة تبلغ 63 مليار متر مكعب سنويا، وقد أطلق عليه اسم التيار التركي.

أيّد كلُ من المجر وإيطاليا والنمسا مشروع التيار التركي، كما استضافت الحكومة المجرية اجتماعًا جمع كل من صربيا ومقدونيا واليونان وتركيا لتقديم مشروع وصلة تكميلية لخط الأنابيب يمتد من اليونان مرورًا بمقدونيا و صربيا والمجر إلى بومغارتن في النمسا. و

قد تزامن هذا الطريق المعروف باسم "تسلا" مع المحطة الشمالية الأصلية لتيار الجنوب، مستبدلًا مقدونيا ببلغاريا.

وتلقى التيار التركي معارضة فورية من المفوضية الأوروبية. تريد بروكسل الحفاظ على علاقات الاتحاد الأوروبي الناشئة في مجال الطاقة مع أوكرانيا. كما أنها لا تلمك أي دافع مالي لاستثمار المليارات في بنية تحتية زائدة عن الحاجة لشراء نفس الغاز الروسي الذي كانت أوروبا تستقبله عبر أوكرانيا.

وحذر رئيس اللجنة جان كلود يونكر من أن المشروع قد يضر بسمعة غازبروم كمورِّد وأنه لن "يقبل أي ابتزاز" من موسكو.

واشار أومباك إلى مشكلة أخرى، إذ يبدو أن هناك وعي متنامٍ في أنقرة بثمن اعتماد تركيا المتزايد على الغاز الروسي. ولاحظ بعض الخبراء أن هذا الاعتماد أصبح "كليا" لدرجة أنه شلّ السياسة الخارجية التركية. كما تعلم الأتراك أيضا أن روسيا ليست موردًا موثوقًا. فقد تم خفض الانتاج من خلال خط أنابيب الغاز عبر البلقان إلى اسطنبول (حيث أكبر تجمع للسكان)، ومنطقة مرمرة بنسبة 20 في المئة أواخر 2018 دون تقديم أي تفسير، مما يرفع من شبح انقطاع الكهرباء في ذروة موسم الشتاء. ثم عادت الإنتاجية إلى الوضع الطبيعي عندما اتفق الطرفان على مذكرة التيار التركي.

ورأى مؤسس مركز خدمات تبادل المعلومات الجغرافية- السياسية، أمير إمارة ليختنشتاين بجبال الألب مايكل، أن محور تيار الجنوب قد عزز العلاقة بين روسيا وتركيا وأن الاتفاق الجديد يصب في صالح تركيا. وأشار الأمير إلى أن "روسيا توفر بالفعل الجزء الأكبر من الغاز التركي". وأضاف الأمير مايكل أن يوتين قدّم  خلال زيارته لتركيا -الشريك التجاري الرئيسي- تخفيضًا مقداره 6 في المئة على الغاز الروسي".

التجميد المفاجئ

جمّد إطلاق النار في 2015 من قبل تركيا على قاذفة روسية من طراز سو 24 تعمل من سوريا -بعد أن انتهكت المجال الجوي التركي- العلاقات بين البلدين لفترة وجيزة. ومن بين تدابير أخرى، أوقفت موسكو مشروع التيار التركي.

وقال الأمير مايكل في تعليقه، إنه في حين "أن إسقاط الطائرة فيما يبدو كان نتيجة لحادث ولم يكن له أي غايات عسكرية، إلا أنه تسبب في أزمة دبلوماسية شديدة تصعب معالجتها".

في أواخر 2016، علق الأمير مايكل على التحول المفاجئ للأحداث بقوله: "لقد قضت تركيا معظم العام الماضي محصورة في زاوية. ثم حدثت على مدى الأسبوعين الماضيين، ثلاثة أمور استثنائية". قبل أن يوضح، "اتفقت إسرائيل وتركيا على إعادة العلاقات الدبلوماسية، ومن المحتمل أن يطلق هذا التوافق العنان لتطوير حقول الغاز الطبيعي الضخمة في شرق البحر الأبيض المتوسط. في اليوم التالي، أعلن الكرملين أن أردوغان قد اعتذر عن إسقاط الطائرة الحربية الروسية في خطاب إلى بوتين. ... بدأت العلاقات تعود لطبيعتها.. وعادت تركيا الآن إلى موقع قوة إقليمية رائدة في شرق البحر الأبيض المتوسط".

كازاخستان والخيارات الأخرى

2015 وقع الاتحاد الأوروبي اتفاقية تحسين شراكة وتعاون مع كازخستان، التي دعت، ضمن حزمة من الأمور، إلى زيادة التعاون في قضايا الطاقة، كما كتب أومباك في تقرير له.

سيصل مشروع خط أنابيب الغاز عبر بحر قزوين الذي تقدر طاقته الإنتاجية بثلاثين مليار متر مكعب، كازخستان بأوروبا وسيحسّن بشكل كبير الممر الجنوبي للغاز في أوروبا. وتريد كلٌ من تركيا وأذربيجان وتركمانستان أن يتم الانتهاء من خط الأنابيب وتشغيله في 2019. 

ولكن حسب ما يرى الخبير أن هذا غير ممكن من دون تدخل الاتحاد الأوروبي عبر تمويل المشروع وتأمينه.

وقد أشار الدكتور أومباك أن الاتحاد الأوروبي لديه موهبة في اتخاذ مواقف تزيد من توقعات شركائه في مجال الطاقة، لكنه لا يفكر أو يساعد في إدارة العواقب المترتبة عليها -نعني في هذه الحالة عداء موسكو للمشروع-. ولاحظ الخبير أن "النتيجة قد تكون تقويض مصداقية الاتحاد الأوروبي وسمعته وتأثيره في الجغرافيا السياسة الخاصة به". وبحلول أكتوبر/ تشرين الأول 2018، لم تَعِد بروكسل بأكثر من مساعدة كازاخستان في إيجاد مستثمرين.

منذ عام 2016، انتهزت روسيا الفرصة لتعزيز علاقات الطاقة والتعاون في مجال السياسة الخارجية مع تركيا. واضطرت أنقرة التي كانت تخشى من حدوث مزيد من التقدم الكردي في سوريا، أنها بحاجة إلى حليف في الصراع عبر حدودها وقررت الاستعانة بموسكو، حسب تحليل أومباك.

روسيا تواصل الضغط

في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، سمحت تركيا لشركة غازبروم الروسية ببناء الجزء الثاني من خط أنابيب الغاز "تيار الترك" أو ترك ستريم من خلال منطقتها الاقتصادية الخاصة في البحر الأسود. بدأ بناء الأنبوب الأول في مايو/ أيار 2017. ووفقًا للتقارير الإخبارية الأخيرة، يمكن للغاز أن يتدفق عبر تيار الترك بحلول أواخر عام 2019.

إذا قامت روسيا ببناء جميع أنابيب "تيار الترك" الأربعة التي خططت لها، فإن هذا قد يقوض طموحات تركيا لتصبح مركزًا للطاقة، كما أشار الدكتور أومباك. ومن الممكن أن يخلق خط الأنابيب اختناقات كبيرة داخل نظام البنية التحتية للغاز التركي-اليوناني، حيث يتم نقل 10 مليار متر مكعب من الغاز الآذري لأوروبا عبر نفس الشبكة.

هذه المرحلة، لا تزال لدى تركيا خيارات تنويع الطاقة، ولكن هذا التنويع لا يخلو من تعقيد بسبب عوامل سياسية مختلفة أوردها أومباك في تقرير نشره في ديسمبر/ كانون الأول 2017، وذكر التفاصيل المتعلقة بالواردات من أذربيجان، وكردستان، وإسرائيل، وقبرص وإيران وخيار الغاز الطبيعي المسال.

سيناريوهات

روسيا لربط خطوط أنابيب تيار الترك التابع لها بكل من جنوب ووسط أوروبا، متخطية المرور عبر أوكرانيا.

أحدث تقرير له (11 سبتمبر/ أيلول 2018) حول الطاقة في أوروبا، حلل أومباك الخطوات المقبلة المحتملة لروسيا والمعضلات الأساسية لسياسة الطاقة في تركيا. كان أحد خيارات موسكو، كما كتب الخبير، إحياء مشروع خط أنابيب للربط بين تركيا وبومغارتن في النمسا (المخطط أصلا كجزء من خط أنابيب تيار الجنوب المهجور). وتدعم بلغاريا وصربيا الخط المقترح الذي يطلق عليه "ساوث ستريم لايت أو تيار الجنوب الخفيف".

غازبروم استغلال الطاقة غير المستخدمة في خط أنابيب الغاز عبر بحر البنادقة أو إحياء بناء الخط الرابط بين تركيا-اليونان-ايطاليا (المعروف أيضًا باسم بوسيدون "Poseidon"). وأشار الخبير إلى أن جميع هذه الخطط كانت "موجهة بشكل واضح ضد المقترحات المدعومة من الاتحاد الأوروبي مثل بلغاريا-رومانيا-المجر-النمسا وخطوط أنابيب إيسترينج، مما يسمح لجنوب شرق أوروبا بتنويع إمدادات الغاز بشكل أفضل بعيداً عن المصادر الروسية".

الرغم من الخلاف المتزايد بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، خلص الدكتور أومباك إلى أن الرئيس التركي أردوغان وحكومته لا يزالان يعتبران شبكة أنابيب الممر الجنوبي أهم مشروع لتنويع الغاز في البلاد. وشدد على أن تركيا -وهي منافس لروسيا منذ قرون- تظل حذرة من الاعتماد بشكل كبير على موسكو.

ومن ناحية أخرى، فإن أذربيجان هي المورد الوحيد للغاز الطبيعي في تركيا الذي لم يكن لديه صراع جغرافي-سياسي أو نزاع على الأسعار مع أنقرة على مدى العقدين الماضيين.

أردوغان أنه بصفته أحد الموقعين على معاهدة ميثاق الطاقة لعام 1991، فإن تركيا تسعى لتشجيع الاستثمار والتجارة، فضلاً عن ضمان وتأمين العبور عبر أراضيها. وأشار إلى أن تركيا كانت تعيد تصدير الغاز الطبيعي إلى اليونان منذ عام 2007 الذي يغطي ما يقرب من ثلث الاستهلاك اليوناني بالرغم من العلاقات المتوترة.

كتب الدكتور أومباك "أنه من غير المحتمل أن تستخدم أنقرة وضعها كممر لاإمدادات الغاز كأداة سياسية ضد الاتحاد الأوروبي". فشبكة أنابيب الغاز عبر الأناضول وعبر بحر البنادقة لا تشكل إلا جزءاً صغيراً من الطلب على الغاز.

وذهب الخبير إلى أنه، "إذا استغلت أنقرة اعتماد الاتحاد الأوروبي المتنامي على تركيا لواردات الغاز، فإنها قد تحصّل بعض المكاسب قصيرة المدى. وقد تحاول تركيا موازنة شراكتها المتنامية مع روسيا من خلال التعاون في مشروع ممر الغاز الجنوبي، وتوسيع إمدادات شبكة أنابيب الغاز عبر الأناضول وعبر بحر البنادقة، مع الغاز غير الروسي، والحفاظ على التعاون الوظيفي -بدون تبعيّة- مع الاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة والسياسة الخارجية".