رؤى متعارضة.. لهذه الأسباب لن تنسحب القوات الأميركية من العراق

"مجرد وجود القوات الأجنبية لا يمثل عامل استقرار"
رجحت مجلة أميركية استمرار الوجود الأميركي في العراق، البلد الذي "أعاق تطوير جيشه الوطني" منذ أن احتلت الولايات المتحدة بغداد عام 2003.
وقالت مجلة "ريسبونسبل ستيتكرافت": إن الوجود الأميركي في العراق قد لا يكون مؤقتا كما يُفترض، فثمة حقيقة مُرّة تفرض نفسها على المشهد، تتمثل في اعتماد بغداد المزمن على القوات الأميركية.
وأردفت أنه "عندما وصل القادة العرب إلى العراق، في 17 مايو/أيار 2025، لحضور قمة جامعة الدول العربية، استقبلتهم مدينة عازمة على إبهار العالم".
وعلى الطريق الممتد من مطار بغداد إلى قلب العاصمة، مرّوا بنُصبٍ يُخلد لحظة مفصلية بتاريخ المنطقة، وهو الموقع الذي شهد، مطلع عام 2020، مقتل قائد "فيلق القدس" الإيراني قاسم سليماني، وزعيم "كتائب حزب الله" العراقية أبو مهدي المهندس، في ضربة أميركية بطائرة مسيّرة.
هذه الضربة، التي نُفذت على الأرض العراقية دون إذن حكومي، أجّجت الغضب الشعبي والسياسي، وجدّدت الدعوات إلى رحيل القوات الأميركية وقوات التحالف عن البلاد. ولا تزال هذه الدعوات تتردد أصداؤها في أروقة السلطة ببغداد، كما في شوارعها.

خلافات داخلية واسعة
ورغم أن المفاوضات استغرقت سنوات، فإن “قوة المهام المشتركة-عملية العزم الصلب” المؤلفة من 30 دولة والتي أُنشئت عام 2014 لمحاربة تنظيم الدولة في العراق وسوريا، توصلت إلى اتفاق بإنهاء مهمتها رسميا وحلّ قيادتها المركزية في سبتمبر/أيلول 2025.
والأكثر أهمية من ذلك -وفق المجلة- أن هذا لا يعني انتهاء الوجود العسكري الأجنبي بالكامل في العراق.
إذ يتضمن الاتفاق بندا يسمح باستمرار العمليات العسكرية في سوريا من موقع غير محدد (يُرجّح أنه في شمال العراق أو إقليم كردستان)، حتى سبتمبر 2026.
بالإضافة إلى بند آخر ينص على إقامة "شراكات أمنية ثنائية تدعم القوات العراقية وتُبقي الضغط على تنظيم الدولة".
وفيما يتعلق بهذين البندين، تشير المجلة إلى وجود خلافات كبيرة داخل المشهد السياسي العراقي.
وقالت: "بعض القوى السياسية والدينية الشيعية، إلى جانب الفصائل المسلحة المدعومة من إيران، تطالب بانسحاب كامل وفوري للقوات الأجنبية".
في المقابل، يرى آخرون أن استمرار الدعم العسكري الدولي لا يزال ضروريا، نظرا لاستمرار خطر تنظيم الدولة من جهة، وعدم الاستقرار الإقليمي في سوريا من جهة أخرى.
ويقدم مسؤول رفيع سابق تقييما صريحا للمشهد الحالي، قائلا: "بعض التيارات (الشيعية) ترغب في بقاء قوات التحالف في المستقبل المنظور، أما المليشيات الموالية لإيران من داخل مجموعة الحكم، تردد ما تقوله طهران حرفيا".
وتابع: "حاليا، هم في حالة ترقب، بانتظار الموقف الإيراني بعد المحادثات مع الولايات المتحدة، وفي الأثناء، يعيشون حالة خوف شديد من اغتيالات إسرائيلية قد تنال قياداتهم، أما رئيس الوزراء (محمد شياع السوداني)، فيتحدث بلسانين".
واستطرد: "السنة والأكراد يريدون بقاء القوات الأجنبية، ليس فقط بسبب خطر عودة تنظيم الدولة، بل بصفتها قوة موازنة أمام النفوذ الإيراني".
ومع ذلك، يرى آخرون أن مجرد وجود القوات الأجنبية لا يمثل عامل استقرار، بل يُعدّ مصدرا لانعدام الأمن وتدخلا خارجيا في الشؤون العراقية.

ترتيبات إستراتيجية
ويقول ضياء الأسدي، الوزير والنائب السابق الذي ترأس فيما مضى "كتلة الأحرار" التابعة للتيار الصدري: إن "وجود أي قوات عسكرية أجنبية لم يكن يوما مصدرا للاستقرار".
وأضاف: "حتى مع استمرار التهديدات الوجودية التي تهدد استقرار العراق، فإن مواجهتها تتطلب وحدة وطنية وتعاونا إقليميا ودوليا وتضامنا حقيقيا، لا انتهاكا للقوانين الدولية وسيادة الدول".
ولهذه الأسباب وغيرها، تُصرّ معظم القوى الشيعية على ضرورة انسحاب القوات الأميركية في أقرب وقت ممكن، بحسب الأسدي.
أما في أوساط السنّة، فالموقف يغلب عليه التردد، ويتراوح بين اللامبالاة والبراغماتية الحذرة، وفق التقرير.
وأشار إلى أن كثيرا من العراقيين، على اختلاف خلفياتهم الطائفية والسياسية، يفضلون التوصل إلى ترتيبات إستراتيجية وتفاوضية مدروسة بدلا من انسحاب متعجل.
وتُبرز هذه الآراء المتشابكة والمتضاربة حجم القلق من مستقبل لا يزال غامضا في بلد لم يصل بعد إلى توافق وطني.
ولا يزال الأسدي يشكّك في جدوى أي مفاوضات مطوّلة طالما بقيت القوات الأجنبية على الأراضي العراقية.
وفي جوهر الأمر، تدور الحجج حول إنهاء وجود القوات الأجنبية حول نقطتين رئيسيتين: هل ستغادر هذه القوات، وهل ينبغي أن تغادر؟
وأوضحت المجلة أنه "كما هو الحال في كثير من القضايا، فإن الإجابات مشروطة وملتبسة، والمؤكد أن جميع القوات الأجنبية ستغادر إذا طلبت الحكومة العراقية ذلك".
فقد جاءت هذه القوات إلى العراق عام 2014 بينما كان الجيش العراقي يترنح تحت وطأة اجتياح تنظيم الدولة.
وكان ذلك بناءً على وثيقة هي في حقيقتها أبسط ما يكون، وهي رسالة دعوة وجهها وزير الخارجية العراقي حينها، هوشيار زيباري، يطلب فيها دعم الدول الأجنبية لبلاده في حربه ضد تنظيم الدولة.
ولم تستند الرسالة إلى معاهدات، ولم تتضمن اتفاقية وضع قوات رسمية كما كان الحال في اتفاق 2009 الذي انتهى في 2011، بل كانت إجراءً طارئا ضروريا لوقف التدهور العسكري السريع.

خيار واقعي
وتابعت المجلة: “بعد 11 عاما، قلّما يجادل أحد بأن تنظيم الدولة لا يزال يمثل تهديدا وجوديا للعراق”.
فقد أُعلن هزيمته عام 2017، كما أن ما تبقى منه من خلايا نائمة أو عناصر خارجة عن السيطرة تتكفل بها قوات الأمن العراقية التي أُعيد تسليحها وإعادة بنائها بدعم من التحالف.
ولذلك، بالنسبة للكثيرين، لم يعد التحالف ضروريا، وحان الوقت لإنهاء وجود القوات الأجنبية.
وأفادت المجلة بأنه "لا تزال هناك حجج تدعم استمرار التعاون الأمني مع الخارج، بما قد يتطلب بقاء دعم عسكري أجنبي، وربما قوات ميدانية".
وينص اتفاق الانسحاب على تشكيل "هيئة عسكرية عليا" تُناقش هذه القضايا بانتظام، ما يتيح إمكانية استمرار أو إعادة نشر القوات مستقبلا.
ولا يرى الأسدي حاجة إلى هذا النوع من التعاون، إذ يعتقد أن بناء جيش وطني قوي قادر على الدفاع عن البلاد دون الاعتماد على دعم خارجي، هو خيار واقعي إذا ما توفرت له الموارد الكافية للتدريب، والتجهيز الحديث، والدعم الاستخباراتي، والتطوير التكنولوجي.
ويقول الأسدي: إن "بناء قدرات الجيش العراقي وبنيته التحتية أفضل وأسهل بكثير من الاعتماد على قوات أجنبية".
غير أن المسؤول الرفيع السابق الذي تحدثت إليه المجلة يرى خلاف ذلك، مشيرا إلى أن “الموقف المسؤول للعراق يكمن في الإبقاء على وجود قوات التحالف”.
ولكن في الجانب الفني والاستخباراتي فقط، وبالتنسيق مع قوات مكافحة الإرهاب العراقية، وليس كقوات قتالية متمركزة في قواعد مؤمنة.
ويعتقد أن “قوات الأمن العراقية قادرة على مواجهة تمرد متوسط الشدة على جبهتين”.
لكنها "غير قادرة على صد جيش إرهابي في وضع اجتياح مثلما حدث في 2014، حين بلغ عدد مقاتلي تنظيم الدولة على الجبهة العراقية-السورية قرابة 100 ألف".
وأكدت المجلة الأميركية أنه "في أعقاب القمة العربية، سيعود تطوير قوات الأمن العراقية واستمرار وجود نظيرتها الأجنبية إلى بؤرة النقاش الوطني، حول السيادة والأمن ودور العراق المتنامي، في منطقةٍ تُسيطر عليها تحالفاتٌ متغيرة ونزاعاتٌ لم تُحسم بعد".