خمسة أسباب.. سر تزامن التظاهرات ضد فرنسا في ثلاث دول إفريقية

إسماعيل يوسف | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

تنذر المظاهرات المتكررة ضد الوجود الفرنسي في بعض بلدان الساحل الإفريقي بحدوث "ثورة حقيقية" أو موجة ثانية ضد "الإمبريالية" أو الاستعمار الغربي.

جاء ذلك بعد تظاهر شبان بدولة مالي في 14 مايو/أيار 2022 لتأكيد دعمهم لجيش بلادهم الذي يتبنى قادته إستراتيجية تناهض المصالح الفرنسية.

وبعدها بساعات خرج شباب تشاد بمليونية للغرض ذاته، ورتبت بوركينا فاسو مظاهرة ثالثة للسبب نفسه.

وخرجت مظاهرات ضد الوجود الفرنسي بتشاد في 15 مايو، شارك فيها المئات، تحت شعار "فرنسا تسرق خيرات بلادنا" واتهموا باريس بدعم المجلس العسكري الحاكم الموالي لها.

وردد المتظاهرون هتافات بينها "فرنسا ارحلي" و"لا للاستعمار" وأحرقوا علمين على الأقل لها وخربوا عددا من محطات الوقود التابعة لمجموعة "توتال" كرمز فرنسي.

أسباب الغضب

هذه المظاهرات الحاشدة ضد فرنسا في مالي وتشاد وبوركينا فاسو تشير إلى بدء ما يمكن تسميته "الموجة الثانية" الأهم من التخلص من الاستعمار الغربي في إفريقيا.

إذ يدرك الأفارقة أن هذا الاستعمار ليس عسكريا فقط ولكن اقتصادي ومالي وثقافي، ويسعون لاقتلاعه ووقف نهب فرنسا لثرواتهم وتجريف ثقافتهم والسيطرة على إرادتهم السياسية عبر سياسيين وانقلابيين موالين لها.

فلم يقتصر الأمر على ربط دول إفريقية بمجموعة انقلابية عسكرية تخدم مصالح فرنسا، ولكن امتد الأمر لمص دماء الأفارقة عبر "لعبة الفرنك الفرنسي".

وسعت فرنسا عقب الاستعمار لربط اقتصاديات مستعمراتها باقتصادها بواسطة عملة تسمى "الفرنك الفرنسي" أو الإفريقي، الذي كرس التبعية للاستعمار.

وطلبت الخزينة الفرنسية من البنوك الإفريقية إيداع نصف احتياطاتها النقدية لديها، وتحويل رؤوس الأموال من منطقة الفرنك إلى فرنسا وليس العكس، ما رهن السياسة النقدية لهذه الدول الإفريقية فبقيت مستعمرة بالقوة الاقتصادية.

من مفارقات الموقف الفرنسي، أنه بينما تدعم باريس المجلس العسكري في تشاد، وتسانده ضد الشعب الغاضب عليه، فهي تعادي مجلس مالي المدعوم شعبيا، وتقاتل شعب بوركينا فاسو الذي يطالبها بالخروج من بلاده.

فقد دعمت باريس المجلس العسكري في تشاد الذي ورث السلطة بقيادة "محمد" نجل الرئيس السابق إدريس ديبي الذي قتل في المعارك مع المتمردين في 19 أبريل/نيسان 2021، وسمحت لهم بتنظيم الانتخابات في أي موعد يرونه يناسبهم.

وفي المقابل، فرضت فرنسا، ومعها الاتحاد الأوروبي، عقوبات على المجلس العسكري في مالي لأن الحاكم هناك يعادي هيمنتها ويرفض وجود قواتها في بلاده وسيطرتها على موارد البلاد.

هذه المفارقة أدت لتنامي مشاعر الغضب ضد الوجود الفرنسي، وخروج احتجاجات ومواجهات في عدة مناطق ودول إفريقية، يطالب بعضها بانسحاب القوات الفرنسية وإنهاء الاستعمار الذي يستنزف ثرواتها. ففي توقيت واحد، تظاهر الشعب في مالي وتشاد ضد فرنسا.

ووقفت باريس مع النظام في تشاد لأنه موال لها ويقمع احتجاجات الشعب ضد فرنسا، بينما اتخذت موقفا معاديا لحكام مالي لأنهم وقفوا مع المطالب الشعبية ضد الاستعمار.

مظاهرات شعبي تشاد ومالي ضد فرنسا في 14 مايو 2022 كانت من أجل التنديد بالنفوذ الفرنسي في البلاد والمطالبة بإنهاء "الاستعمار" المستمر.

في تشاد خرجوا استنكارا لمساندة فرنسا للمجلس العسكري بقيادة محمد ديبي (كاكا)، الذي تقلد زمام السلطة بعد اغتيال والده الرئيس السابق إدريس ديبي، وردا على إعلان باريس نيتها بإنشاء قواعد عسكرية إضافية لقواتها في تشاد.

هتفوا: "تشاد حرة، وفرنسا برة"، وأحرقوا أعلام فرنسا وهاجموا محطات وقود شركة توتال رمز "الاستعمار الفرنسي" المستمر للبلاد، كما هاجموا قاعدة عسكرية للقوات الفرنسية شرق البلاد، وتصدى لهم أمن النظام العسكري الموالي لفرنسا.

وفي مالي خرجوا للغرض ذاته ضد فرنسا، ودعما للمجلس العسكري، لأن من نفذوا انقلاب مالي 21 مايو 2021 يرفعون شعار مناهضة الوجود الفرنسي في بلادهم واتخذوا خطوات لتقليص نفوذ فرنسا في البلد وطردوا سفيرها وقواتها.

وبالتزامن مع هذه المظاهرات الشعبية، أعلنت مالي إحباط محاولة انقلابية نفذتها "مجموعة صغيرة من الجيش" مساء 11-12 مايو 2022، واتهمت "دولة غربية"، في إشارة لفرنسا.

وفي الثاني من مايو 2022، ألغت مالي الاتفاقيات الدفاعية الموقعة مع فرنسا وشركائها الأوروبيين، وشجبت "الانتهاكات الصارخة" من القوات الفرنسية في البلاد للسيادة الوطنية، و"خروقاتها الكثيرة" للمجال الجوي المالي.

كانت أوجه الشبه بين التظاهرات الحاشدة التي شهدتها تشاد وتلك التي سبقتها الشوارع في مالي وبوركينا فاسو وإفريقيا الوسطى إليها، تشير بوضوح لاندحار الوجود الفرنسي في تلك البلدان.

لم يكتف المتظاهرون بالهتاف ضد فرنسا للرحيل عن بلادهم، بل تعمدوا الكيد لها برفع أعلام دول أخرى مثل روسيا، كما حدث في مالي وبوركينا فاسو.

عقب انقلاب مالي مايو 2021 الذي أتى بمجلس عسكري مناهض للنفوذ الفرنسي، تظاهر الآلاف بهتافات وشعارات ضد فرنسا، مطالبين بانسحاب قواتها، وبتدخل عسكري روسي في بلادهم، ورفعوا الأعلام الروسية.

وحين بدأت انتفاضة بوركينا فاسو ضد وجود باريس بعدها بخمسة أشهر في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، هتف المتظاهرون "نريد خروج فرنسا"، و"نقول للجيش الفرنسي: عد إلى وطنك"، ورفعوا أيضا أعلاما روسية.

وأعقبت المظاهرات "صفعة" تنفيذ انقلاب عسكري في 24 يناير/كانون الثاني 2022 زاد من إرباك فرنسا وتوجيه ضربة أخرى لها، تضاف إلى الرفض الشعبي لها في تلك البلدان.

خمسة أسباب

كان انقلاب بوركينا فاسو، بعد مالي، هو الرابع في دول الساحل الإفريقي الخمس الذي مثل مشكلة عويصة لباريس، لأنها وجدت نفسها أمام أربعة أنظمة انقلابية، من أصل مجموعة الخمسة يقودها عسكريون لا يتوافقون مع سياساتها في المنطقة. 

لذا أزعجها بشدة مظاهرات تشاد ضدها في 16 مايو 2022 لأن المجلس العسكري هناك هو الوحيد الذي يتوافق معها من بين خمسة مجالس عسكرية تحكم دول الساحل الإفريقي (بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر).

خشيت أن يتكرر السيناريو المالي في تشاد، مع ارتفاع حناجر المتظاهرين بطلب طردها خارج البلد الأخير، ورفعهم أيضا أعلام روسيا نكاية فيها.

أثبتت العديد من الوقائع الأخيرة أن فرنسا تواجه معضلة في علاقتها بمستعمراتها الإفريقية السابقة، ليس فقط مالي وبوركينا فاسو وتشاد، ولكن أيضا في النيجر والسنغال.

وأدت هذه التوترات في العلاقة إلى زيادة واضحة في المشاعر الإفريقية المعادية للفرنسيين، وبسببها تزايدت الحركات الشعبية والاجتماعية المناهضة للوجود الفرنسي.

ويرصد أستاذ الدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة حمدي عبد الرحمن خمسة أسباب للغضب الإفريقي على فرنسا أو ما يسميه "نهاية الزمن الفرنسي في إفريقيا"، وفق دراسة بموقع "قراءات إفريقية" نشرت في 15 مايو.

أول هذه الأسباب معضلة تواجهها "شبكة فرانس أفريك"، التي شكلها الرئيس السابق شارل ديجول للحفاظ على الوجود الفرنسي في المستعمرات السابقة، وفناء فرنسا الخلفي الإفريقي.

وظلت باريس تتمسك برؤية عفا عليها الزمن فيما يتعلق بسياستها الإفريقية تقوم على ابتزاز القارة ونهب خيراتها ونقلها لفرنسا، ونسيت أن هناك قوى دولية أخرى برزت في إفريقيا تنافسها على السيطرة والنفوذ وبدأ يتجه لها قادة أفارقة.

وثانيها: "تراجع الدبلوماسية الاقتصادية الفرنسية" التي روج لها الرئيس الأسبق فرانسوا هولاند، فلم تعد إفريقيا تمثل سوى 2.4 بالمئة من التجارة الخارجية الفرنسية وفق أرقام 2018، مقارنة بنسبة 35 بالمئة بعد الاستقلال.

وبدأت العلاقات الاقتصادية الإفريقية تزدهر مع دول أخرى مثل ألمانيا، وظهرت مشكلات بين بلدان إفريقية وشركات فرنسية، أدت لإلغاء امتيازات هذه الشركات أو الاستيلاء عليها كما حدث في الجابون. 

كما تأثر نفوذ فرنسا في الحفاظ على وجودها المالي في بلدان "منطقة الفرنك"، ولو بعد تنامي الدعوات الشعبية للخروج من هذه النظام وتطبيق العملة الموحدة في غرب إفريقيا عام 2027م.

السبب الثالث لانقلاب المزاج الإفريقي ضد فرنسا، هو "إعادة التشكيل الجيوسياسي للقارة".

ودفعت موجات الانقلابات الأخيرة في الساحل وغرب إفريقيا، التي ارتبطت بالأزمة الاقتصادية وتصاعد "المد الإرهابي" للتحول لشركاء دوليين آخرين، وفق عبدالرحمن.

وجسد ذلك بوضوح ظهور خطاب شعبوي جديد في المنطقة مناهض لفرنسا ومؤيد للوجود الروسي كما تعكسه خبرة دولة مالي، وتصوير الزعماء العسكريين كونهم مدافعين عن استقلال وسيادة بلادهم في وجه الخطاب الاستعلائي الفرنسي.

وكانت "الحرب الأوكرانية وتحولات النظام الدولي" سببا رابعا لهذا التحول في المزاج الشعبي الإفريقي ضد فرنسا بعدما جرى تغيير بنود ومضمون أجندة الأعمال الدولية تغييرا جذريا.

وقررت إفريقيا، بأغلبية كبيرة، عدم اختيار الانحياز لأي طرف أو معسكر غربي أو شرقي، كما ظهر من اتجاهات تصويت دولها في الأمم المتحدة، والبحث عن مصالحها.

سبب خامس آخر لهذا الخريف الذي تشهده فرنسا في إفريقيا لنفوذها هو "عسكرة السياسة الفرنسية"، يعود إلى أن باريس ظلت تتصرف مع القارة بنفس منطق المستعمر والقوة العسكرية.

وظلت باريس تدعم أنظمة عسكرية قمعية موالية لها وتتعامل مع القارة الإفريقية من خلال قواعد عسكرية واتفاقيات تعاون مع جيوشها لا تخضع للمساءلة أو الشفافية.

هذه العسكرة خلقت في منطقة اللاوعي الإفريقي الجماعي رفضا لفرنسا وطريقة عملها. وهو ما يفسر الغضب والمظاهرات والمصادمات مع القوات الفرنسية في مالي وبوركينا فاسو وتشاد.

ويضيف الباحث المالي "سيبي عبد الرحمن" سببا سادسا لهذا الغضب الإفريقي على فرنسا هو شكوك البلدان الإفريقية في تورطها بدعم الحركات الإرهابية والمليشيات المسلحة في منطقة الساحل الإفريقي بالسلاح بحجة بقاء قواتها لمحاربة الإرهاب.

ويشير إلى أن مرور العلاقات المالية الفرنسية بمرحلة عصيبة وتصعيد لم تشهده منذ يناير 1961 حينما طرد الرئيس الأول موديبو كيتا قوات باريس من جمهورية مالي، سببه عدم إنجاز الأخيرة هناك أي تقدم في إطار مكافحة الإرهاب.

وجرى ذلك رغم أنها موجودة في مالي منذ 2013، بدءا من عملية سرفال التي استمرت من عام 2013 حتى 2015، وصولا إلى عملية برخان ثم عملية تاكوبا.

أوضح في دراسة بموقع "إفريقي" في 29 مارس/آذار 2022 أنه مع مرور الزمن تغير رأي الشارع المالي حول الوجود الفرنسي، وبدأ ينظر إليه كأنه احتلال جديد، وأنها ليست حسنة النية في محاربة الإرهاب رغم امتلاكها إمكانيات عسكرية كبيرة.

أشار إلى دور باريس أيضا في دعم حركات انفصالية، حيث منعت القوات الفرنسية الجيش المالي من الدخول في إقليم كيدال الذي كانت تسيطر عليه حركات مطالبة بالانفصال عن الدولة المركزية.