قانون الانتخابات الجديد.. لماذا يعد بمثابة إعلان لموت السياسة في مصر؟

القانون يغلق المشهد السياسي تماما لصالح النظام المصري
في خطوة أثارت عاصفة من الجدل السياسي، وافقت لجنة الشؤون التشريعية والدستورية بمجلس النواب المصري نهائيا في 21 مايو/ أيار 2025 على مشروع قانون الانتخابات الجديد، الذي تقدمت به الأحزاب التابعة للسلطة.
وترى المعارضة بمختلف أطيافها أن القانون يغلق المشهد السياسي تماما لصالح النظام، واصفة إياه بأنه "إعلان رسمي لموت السياسة" في البلاد.
ومرر البرلمان مشروع قانون الانتخابات الجديد في ختام دورته التشريعية، وسط مشهد سياسي محكوم بالكامل لصالح السلطة.
وبينما كانت قاعة مجلس النواب تشهد تصويتا سريعا على تعديلات تقطع الطريق أمام أي قوى معارضة حقيقية أو حتى كرتونية، كان خارج القاعة كثيرون يرون أن ما يجرى ليس مجرد تعديل تشريعي بل مزيد من التدهور للحالة السياسية المتردية أساسا منذ الانقلاب العسكري عام 2013.
بداية إقرار القانون
وتحت مظلة "التطوير التشريعي" أعادت الأغلبية البرلمانية، بقيادة حزب "مستقبل وطن" الذراع السياسي الأبرز للنظام، هندسة الدوائر الانتخابية بنظام القوائم المغلقة المطلقة، واضعة تركيبة قانونية معقدة تحكم مسبقا من يحق له دخول اللعبة السياسية ومن يقصى منها.
ومع اشتراطات صارمة لتركيبة القوائم، وتوزيعات ديمغرافية مشوبة بغياب العدالة، وجه القانون الجديد ضربة قاصمة لما تبقى من تنافسية حقيقية في الحياة البرلمانية، ليحكم إغلاق المجال السياسي عبر صناديق محسومة النتائج.
وهذه التعديلات التي وافقت عليها لجنة الشؤون التشريعية والدستورية بالبرلمان نهائيا، وأفرزت معها قانون الانتخابات، جاءت لتؤكد استمرار نمط إقصاء المجال العام، عبر منظومة انتخابية تضمن بقاء السلطة في موقع التحكم الكامل بالمشهد السياسي.
ففي خطوة وصفت بأنها "إجراء شكلي لتشريع متفق عليه مسبقا"، أعلن رئيس مجلس النواب المصري حنفي الجبالي الموافقة على مشروعي قانونين جديدين بشأن الانتخابات البرلمانية.
وذلك بتوقيع أكثر من عشرة أعضاء على القانونين، تتصدرهم كتل الأحزاب الموالية لرئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي، مثل حزب مستقبل وطن، والشعب الجمهوري، وحماة وطن، وعدد من المستقلين المنتمين لتنسيقية شباب الأحزاب.
وقاد هذه المبادرة منذ البداية النائب البرلماني عبد الهادي القصبي، رئيس الهيئة البرلمانية لحزب مستقبل وطن، في توقيت لم يترك مجالا واسعا للنقاش العام أو حوار مجتمعي حقيقي حول جوهر التعديلات.

هندسة جديدة للدوائر
ويقوم أساس القانون الجديد على إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية وفق معادلة سكانية تعتمد على بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء والهيئة الوطنية للانتخابات لعام 2025، مع استحداث بعض المراكز الإدارية الجديدة بعد تقسيم 2020.
وبحسب التوزيع الجديد لمقاعد مجلس النواب، سيخصص 284 مقعدا للقوائم المغلقة المطلقة موزعة على 4 دوائر؛ دائرتين بواقع 40 مقعدا، والأخريين بواقع 102 مقعد.
أما في مجلس الشيوخ، فجرى توزيع 100 مقعد مخصص لنظام القوائم إلى أربع دوائر أيضا، دائرتين بواقع 13 مقعدا، والأخريين بواقع 37 مقعدا.
ورغم تقديم السلطة هذه التعديلات بصفتها استجابة "علمية ودستورية" للتغيرات الديمغرافية، تؤكد قوى المعارضة أن جوهر التعديلات أبقى آلية إغلاق المجال السياسي على حالها.
فما يلفت الانتباه في نصوص المشروع، ليس فقط تقسيم الدوائر بل طبيعة تركيبة القوائم التي يجب أن يلتزم بها كل حزب أو تحالف انتخابي.
وفرض القانون الجديد نسب تمثيل محددة داخل كل قائمة مغلقة، تشمل تمثيلا إلزاميا للمسيحيين، والعمال والفلاحين، والشباب، وذوي الإعاقة، والمصريين بالخارج، إضافة إلى تخصيص نسبة للنساء.
فمثلا، في القوائم التي تضم 40 مقعدا، سيكون هناك 3 مسيحيين، و2 من العمال والفلاحين، و2 من الشباب، ومرشح من ذوي الإعاقة، وآخر من المصريين بالخارج، و20 امرأة على الأقل.
أما في القوائم التي تضم 102 مقعد، فسيكون هناك 9 مسيحيين، و6 من العمال والفلاحين، و6 من الشباب، و3 من ذوي الإعاقة، و3 من المصريين بالخارج، و51 امرأة على الأقل.

أغلال السلطة
هذه الأغلال المركبة التي وضعها قانون الانتخابات الجديد، تجعل تشكيل القوائم عملا شبه مستحيل بالنسبة لأي قوى معارضة محدودة الموارد السياسية والتنظيمية.
وعلى العكس يمنح القانون الأحزاب الموالية المدعومة من الدولة والأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وحدها القدرة على تقديم قوائم مكتملة وفق الاشتراطات المعقدة.
وقال موقع "المنصة" المحلي في 25 مايو: إن المال السياسي أيضا سيكون اللاعب الأبرز في هندسة البرلمان القادم.
ومن جهتها، حذرت أصوات من المعارضة من أن هذه التعديلات ستؤدي إلى انفجار نفوذ المال السياسي أكثر من أي وقت مضى.
وقال عضو المجلس الرئاسي لحزب المحافظين محمد تركي، إن مشروع القانون الجديد يقتل التنافسية ويغلق الباب أمام قوى المعارضة الصغيرة والمتوسطة التي لا تملك نفس أدوات التمويل والتنظيم التي تحوزها الأحزاب المحسوبة على السلطة.
ولفت تركي لـ “المنصة” إلى أن بعض الدوائر التي تضم نصف مليون ناخب خصص لها مقعدان فقط، بينما حظيت دوائر ذات كثافة أقل بأربعة مقاعد، ما يعيد إنتاج اختلالات التمثيل وغياب العدالة السياسية بين المحافظات المختلفة.
وأضاف: "ما يجرى هو إعادة رسم البرلمان المقبل بحيث يولد مطبوعا على صورة حزب مستقبل وطن، مع حضور محدود لمجموعة صغيرة من الأحزاب الصديقة، دون أي وجود حقيقي لمعارضة مستقلة".
وكانت "الحركة المدنية الديمقراطية"، وهو تحالف سياسي يضم أحزابا معارضة، استبقت الأمر، وأعربت في 19 مايو عن بالغ استيائها من قانون الانتخابات الذي يجمع بين النظام الفردي والقائمة المغلقة المطلقة.
وانتقدت، في بيان، ما وصفته بأنه "إصرار على تطبيق النظام الأغلبي الذي يهدر أصوات الناخبين ويحرمهم حق التمثيل، وتوسيع الدوائر بشكل يعزز فلسفة الاحتكار".
في المقابل، تبني السلطة خطابا يدافع عن هذه التعديلات بصفتها تطويرا تشريعيا يستند إلى تغيرات الواقع السكاني والإداري.
ووصف مجلس النواب ما جرى بأنه "حراك تشريعي يعزز من إحكام البناء القانوني للعملية الانتخابية على أسس علمية ودستورية دقيقة".
وأشاد نائب رئيس حزب مستقبل وطن النائب أحمد عبد الجواد بالتعديلات، وعدها "خطوة إصلاحية متقدمة تضمن عدالة التمثيل بين المحافظات وتراعي فروقات الكثافة السكانية".
وأشار في تصريحاته لموقع "برلماني" المحلي الرسمي المختص بالشأن النيابي المصري، إلى أن بيانات الجهاز المركزي للإحصاء لعام 2025 كانت الأساس العلمي في توزيع المقاعد.
لكن خلف هذه التصريحات يبقى الهدف الأبعد واضحا، وهو تثبيت مركزية السلطة التنفيذية في يد رئيس النظام عبد الفتاح السيسي عبر برلمان مروض سياسيا لا يطرح معارضة حقيقية، ويصدق بسهولة على أجندات الدولة.

مخرجات الحوار الوطني
ومع ذلك، فهذه ليست المرة الأولى التي يعاد فيها تشكيل قوانين الانتخابات بمصر بما يتناسب مع بقاء المجال العام تحت السيطرة.
فمنذ إقرار دستور 2014، الذي جاء بعد الانقلاب العسكري في العام 2013، خضعت قوانين الانتخابات البرلمانية لعدة تعديلات.
أفضت جميع تلك التعديلات إلى مجالس نيابية بلا وزن حقيقي للمعارضة، وهو ما أدى في دورات 2015 و2020 إلى تكوين برلمانات تفتقد إلى أي معارضة فعالة تقريبا.
وفي مايو 2023، انطلقت جلسات الحوار الوطني في القاهرة، بناء على دعوة السيسي، وسط وعود بإحداث انفراجة سياسية حقيقية تتضمن إصلاح قانون الانتخابات البرلمانية كأحد مفاتيح إعادة الحيوية للعمل السياسي الذي جفف منذ سنوات.
لكن سرعان ما تبلور المشهد إلى مسارين متوازيين؛ أحزاب السلطة وفي مقدمتها حزب "مستقبل وطن"، وتمسكت الأخيرة بإبقاء النظام الحالي القائم على نصف المقاعد بنظام القائمة المغلقة المطلقة، والنصف الآخر بالنظام الفردي.
في المقابل، تقدمت أحزاب المعارضة بمقترحين، الأول يطالب بإقرار نظام القائمة النسبية بالكامل لضمان تمثيل أوسع للقوى السياسية المتنوعة، والثاني حل وسط يجمع بين الفردي والقوائم النسبية والمغلقة.
غير أن الاجتماعات المصغرة فشلت في التوصل إلى توافق حقيقي، وانتهى مجلس أمناء الحوار الوطني في أغسطس/آب 2023 إلى رفع ثلاث توصيات متناقضة للسيسي، ليبقى القرار النهائي بيده، وهو ما أدى إلى الوصول إلى تلك الحالة بإقرار القانون الجديد.
وكانت التوصية الأولى تتضمن الإبقاء على النظام الحالي بانتخاب 50 بالمئة من أعضاء مجلسي النواب والشيوخ عبر القائمة المطلقة المغلقة، و50 بالمئة بالنظام الفردي على 4 دوائر بالجمهورية.
أما التوصية الثانية، فهي أن يتم انتخاب كل الأعضاء بالقائمة النسبية غير المنقوصة عبر 15 دائرة على مستوى الجمهورية.
وتتمثل التوصية الثالثة بانتخاب 50 بالمئة من الأعضاء بالنظام الفردي و25 بالمئة بنظام القائمة المطلقة و25 بالمئة بنظام القائمة النسبية.

وفاة السياسة
وفي تصريح لـ "الاستقلال" يرى الصحفي والبرلماني السابق محمد يوسف أن جوهر الأزمة في القانون الجديد لا يتعلق فقط بتوزيع المقاعد أو شكل الدوائر، بل بمنظومة كاملة تدار منذ سنوات في عهد السيسي.
وبين أنها تهدف إلى "تحويل البرلمان لغرفة موحدة الصوت خالية من التعددية، تابعة بشكل كامل للسلطة التنفيذية".
وتابع: "في كل العالم القوائم المغلقة تمنحها الأحزاب لتكتلاتها الداخلية وفق برامج تنافسية، أما في مصر فهي تصدر من مطبخ سياسي واحد إلى شعب ممنوع من حرية الاختيار".
ويضيف: "نحن لا نشهد تعديلا تشريعيا بل عملية تجريف جديدة للأحزاب والمجتمع السياسي بالكامل، والبرلمان القادم سيكون نسخة باهتة من السلطة التنفيذية نفسها".
ويكمل يوسف: "في كل الديمقراطيات الحديثة، لم يعد مقبولا الإبقاء على أنظمة الكوتة المغلقة التي تصادر على إرادة الناخب مسبقا، خصوصا الكوتة الدينية التي تتنافى مع مبدأ المساواة السياسية في النصوص الدستورية".
ويتابع: "الأصل أن تتاح المنافسة الحرة المفتوحة بين كل الأطياف دون تمييز مسبق، وأن تترك صناديق الاقتراع لتحدد الأوزان السياسية الحقيقية".
ويستطرد موضحا البعد الأعمق في الإشكال القانوني بالقول: "ما يجرى اليوم هو إخضاع النظام الانتخابي لقواعد سياسية موروثة تعيد إنتاج منطق ما قبل دستور ثورة 25 يناير (كانون الثاني) الذي نص بوضوح على التعددية والتداول السلمي للسلطة كمرتكزين للحياة السياسية".
ويعقب: "لكننا عمليا نعود إلى فلسفة نظم الحزب الواحد، تماما كما جرى في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حيث كانت كل المؤسسات التشريعية آنذاك أذرعا تنفيذية للنظام لا أكثر".
وخلص يوسف إلى أن "الإصرار على الصيغة الحالية للقانون يكشف أن فلسفة الحكم في مصر اليوم لا تؤمن بفكرة الحكم عبر التوازنات البرلمانية أو التحالفات السياسية كما هو سائد عالميا، حيث لم تعد الأغلبية المطلقة في يد حزب واحد هي القاعدة في أي نظام ديمقراطي حقيقي".
ويتابع: "بل باتت التحالفات العريضة ضرورة لأي حكومة لتحقيق النصاب الدستوري في تشكيل السلطة التنفيذية وإقرار القوانين، كما رأينا في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا والدول العريقة برلمانيا وسياسيا".
وفي المقابل، “نحن نعيد إحياء نظام أحادي السيطرة، يفرغ الدستور من معناه، ويقتل أي أمل في وجود حياة سياسية ناضجة”، وفق تقديره.
وذكر أنه "لو كان الأمر كذلك فلماذا نضع مزيدا من التكاليف لإجراء انتخابات ورسم مسرحية سياسية، يكفينا أن نحولها إلى دولة جماهيرية أو اتحادية قائمة على السياسات العرفية والتوافقية".