"دولة داخل الدولة".. لهذه الأسباب أثار إعلان العرجاني في رمضان ذعر المصريين

"بدو مصر خط أحمر"
على مدار عمر الدولة الحديثة في مصر، لم تعرف الأنظمة السياسية المتعاقبة الاتحادات القبلية أو المليشيات، واعتمدت بشكل كلي على الأجهزة الأمنية والعسكرية لدعم السلطة المركزية والرئيس.
لكن نظام عبد الفتاح السيسي كان له مسار مختلف عندما وسع من دور القبيلة، كما حدث مع تشكيل اتحاد القبائل العربية عام 2024، بقيادة المثير للجدل إبراهيم العرجاني.
ليصبح الاتحاد أشبه بتنظيم ومليشيا منظمة ومتحركة تلعب أدوارا سياسية، وكذلك أمنية وقتالية لدعم النظام.
ولم يتعظ النظام وهو يتخذ تلك الخطوة بما حدث في دول قريبة كالسودان الذي يشهد تفككا على يد مليشيا "الجنجويد".
وهذه المليشيا في الأساس تتكون من قبائل وعشائر في دارفور تم تسليحهم وأدخلوا في نسيج النظام، ثم تحولوا إلى قوات "الدعم السريع".
وهي حاليا انقلبت على الدولة ككيان، وتخوض حربا أهلية ضد الجيش بغرض السيطرة الكاملة على السودان، أو تقسيمه على أساس قبلي وإثني.
لهذا فإن قطاعا من السياسيين والمفكرين المصريين قلق من استفحال كيان اتحاد القبائل العربية في الأوساط السياسية والعامة.
وفي تطور لافت لهذا الملف، أثار إعلان رمضاني لمجموعة "العرجاني" ذعر كثير من المصريين، نظرا لما تضمنه من نزعات قبلية إثنية.
خط أحمر
ففي 1 مارس/ آذار 2025، وبينما كان المصريون يستقبلون أول أيام شهر رمضان الفضيل، فوجئوا بإعلان جديد من مجموعة "العرجاني" لصاحبها إبراهيم العرجاني رئيس اتحاد القبائل العربية.
المقلق في الإعلان ما حملته كلماته من تعبيرات ومدلولات دفعت المتابعين للتساؤل حول استخدام مفردات بها استعراض شديد للقوة والخصوصية.
كذلك تساءلوا عن مصادر التوسع الكبير للمجموعة خلال سنوات قليلة، خاصة أنه أمر غير منطقي في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها مصر.
ومن العبارات التي ذكرت في الإعلان: "احنا (نحن) التاريخ والجغرافيا وبنقولها بالذوق والعافية مين (من) زينا (مثلنا) في الدنيا دي (هذه)".
وأيضا: "بتعرف تعد لحد كام دول (هؤلاء) مش (ليسوا) تلامذة دول قدام"، و"لدينا 30 ألف موظف وخبير في الخدمات الأمنية، ونتولى تأمين 400 جهة وكيان بمصر"، و"أكبر كيان اقتصادي متنوع في الجمهورية الجديدة".
وتفاعلا مع الإعلان كتب الصحفي المصري جمال سلطان، عبر “فيسبوك”: "إعلان لمليشيات إبراهيم العرجاني على شاشات التليفزيون المصري في رمضان".
من جانبه، وصف حساب باسم "تيران وصنافير مصرية" اتحاد القبائل العربية بأنه "دولة داخل دولة".
وجاء هذا الإعلان بعد أيام من معركة رأي عام أخرى، أثار فيها العرجاني الغضب، بعد تغريدات له عن البدو وأهل الصعيد.
وقال العرجاني: "من أخطأ في بدو مصر عليه الاعتذار فورا"، مضيفا أن "بدو مصر معروفون للمخابرات العامة والمخابرات الحربية والخدمة السرية وأجهزة الدولة".
وتابع محذرا بشكل مباشر: "بدو مصر وصعيد مصر خط أحمر".
وذلك ردا على تصريحات تلفزيونية لعضو لجنة تطوير السياحة بالبرلمان، حامد الشيتي، في 23 فبراير/ شباط 2025، رأى فيها أن البدو أحد أسباب تراجع الاستثمار والسياحة في مصر.
لكن تدخل العرجاني على الخط أشعل منصات التواصل الاجتماعي التي انتفضت ضد لهجة التهديد التي أطلقها، ووصفها البعض بالقبلية والطائفية، وسط تحذيرات بشأن تهديده للتماسك المجتمعي.
دفاع العرجاني عن البدو وأهل الصعيد، دفع بتساؤلات عن الرجل الذي نصب نفسه مدافعا عن تلك الفئات الكبيرة في سائر ربوع مصر.
إضافة إلى أن لغة التهديد المستخدمة في عبارة "خط أحمر" أحدثت قلقا كبيرا لدى المصريين، لما تنطوي عليه من لهجة إثنية في خطاب شخصية عامة، لم يعهدها المصريون من قبل.
وهو ما دفع الإعلامية الموالية للنظام قصواء الخلالي للتدوين في 24 فبراير، عبر "فيسبوك" قائلة: "لا أعلم حقيقةً ماذا ستفعل (صفحة شيخ القبائل) في من يتم التجاوز في حقهم؟ ولماذا لهجة التهديد والوعيد لمن أخطأ، وكأنها تملك عقابه ومحاسبته!".
وتابعت: “ماذا عن البقية؟ فهل توافق ما أسموها صفحته، بأن يتم استباحة بقية المصريين، لأنهم ليس لهم (اتحاد، وشيخ، وخط أحمر) يحميهم.. فأصبح المشهد عبثيا، واستعرض الجميع قوته عشوائيا؟”
ضعف الدولة
وتفاعلا مع المشهد، قال الباحث المصري أحمد راغب، إنه "لطالما قامت السياسة المصرية الحديثة على مبدأ المواطنة، حتى من قبل تأسيس الجمهورية منذ المرحلة الحزبية الأولى خلال عهد الاحتلال البريطاني إبان نضال مصطفى كامل ومحمد فريد".
وأضاف راغب لـ"الاستقلال": "منذ ذلك الوقت حتى الآن تشكلت الأحزاب السياسية على أسس أيديولوجية أو اقتصادية، بعيدا عن أي تقديرات عرقية أو قبلية، مثل البدو أو الصعايدة أو النوبيين".
وتابع: "لكن مع ظهور اتحاد العرجاني، يبدو أن السياسة المصرية في عهد السيسي قد بدأت تأخذ منحى جديدا، يكرس فكرة الاصطفاف العشائري داخل مؤسسات الدولة، وهو أمر يهدد روح الوحدة الوطنية التي- وإن كانت صورية- لكنها حافظت على شكل الدولة المركزية بطريقة أو بأخرى".
وأكمل: "لم يسبق أن وجد في مصر حزب ذو طابع قبلي، رغم التنوع الكبير في النسيج الاجتماعي المصري، لكن العصبيات القبلية ظلت محصورة في إطارها الاجتماعي، ولم تتسلل إلى المجال السياسي، الأمر الذي حافظ على التوازن بين المكونات المختلفة للدولة".
وأوضح راغب: "لذا، فإن تأسيس حزب على أسس قبلية ليس مجرد سابقة، بل هو تحد مباشر لمفهوم الدولة الحديثة، التي تقوم على المساواة بين المواطنين دون تمييز، وهو لعب بالنار من جهة أخرى".
وتابع: "خلق نفوذ اقتصادي مسلح لإثنية يؤدي إلى شعورها بالاستقلالية والتعاظم، وفي حالة معينة إذا ما أردت أن تقوم ذلك النفوذ أو تسلبه، فإنك لن تستطيع، كما حدث في السودان وليبيا وفي الدول التي تعاني من صعود العرقيات على حساب الدولة".
وشدد راغب على أن "كل ما نحن فيه نتيجة حقبة ما بعد الانقلاب العسكري ووأد العمل السياسي الطبيعي في مصر، فالسياسة يجب أن تكون ساحة للتنافس الفكري والبرامجي، لا ملعبا للولاءات القبلية".
ومضى الباحث المصري يقول: "الوطن لا يبنى على العرق، بل على المواطنة الحقة، التي تضمن للجميع حقوقهم، بعيدا عن أي تمييز أو تقسيم".
قصة اتحاد القبائل
وفي 1 مايو/ أيار 2024، أعلن في مصر إطلاق "اتحاد القبائل العربية" في مؤتمر جماهيري حاشد بقرية العجرة، جنوبي رفح في شمال سيناء.
وحضر المؤتمر أعضاء من مجلس النواب، وشيوخ العديد من قبائل مطروح والصعيد، وسط تأمين مسلح من أفراد قبيلة الترابين مستقلين سيارات دفع رباعي "الكروز" وضع عليها شعارات الاتحاد، وتمركزت حول الخيمة وأعلى التباب الرملية المحيطة.
وظهر العديد منهم حاملين أسلحة شخصية "طبنجات"، فيما غاب الوجود الأمني عن تأمين المنطقة، كما غاب عن الحضور قيادات عسكرية أو شرطية.

وبحسب البيان التأسيسي، يهدف الاتحاد إلى خلق إطار شعبي وطني يضم أبناء القبائل العربية لتوحيد الصف وإدماج الكيانات القبلية كافة في إطار واحد.
وأوضح أن الأمر يأتي ضمن دعم ثوابت الدولة الوطنية ومواجهة التحديات التي تهدد أمنها واستقرارها.
إلى جانب السعي الدؤوب لتبني القضايا الوطنية والتواصل مع جميع القبائل العربية للوصول إلى قواسم مشتركة في إطار الدولة وخدمة لأهدافها، ودعما لرئيس النظام عبدالفتاح السيسي.
وذكرت صحيفة "اليوم السابع" المصرية المحلية التابعة للنظام في عددها الصادر يوم 1 مايو 2024، أن نواة إنشاء مجلس اتحاد القبائل العربية وضعت عام 2013.
ليتم تدشينه بشكله النهائي في بداية عام 2020، وصولا إلى مرحلة الإعلان التي نحن بصددها حاليا.
ويتكون اتحاد القبائل العربية من 30 قبيلة تعيش في شمال سيناء، وهم كالتالي قبيلة الترابين، وهي من أكبر القبائل انتشارا في شبه جزيرة سيناء والدول العربية.
ومن أبنائها إبراهيم العرجاني رئيس الاتحاد الجديد، والرجل النافذ في سيناء، المقرب من السيسي وجهاز المخابرات العامة.
ثم تأتي قبيلة السواركة، وهي من أكبر قبائل سيناء وتسكن ضواحي العريش وتمتد حتى منطقة الشيخ زويد، بعدها قبيلة المساعيد، وهي فرع من قبيلة الأحيوات التي تسكن وسط سيناء.
ويشمل الاتحاد قبيلتي السماعنة والسعديين، وهما من أقدم البدو الذين توطنوا في شمال سيناء، وقبيلة العيايدة، التي هي من أكبر قبائل شمال سيناء ولها امتداد في محافظة الجيزة.
ويضم أيضا قبيلة الرميلات، التي كانت تسكن قديما في منطقة القطيف (بالمملكة العربية السعودية)، وقبيلة البياضية، إذ تسكن هذه القبيلة في منطقة بئر العبد بين القنطرة شرق والعريش.
كما يضم قبيلة العقايلة، وهي من قبائل ساحل سيناء الشمالية في منطقة قاطية ونزل جزء منهم في وادي النيل في الشرقية بمركز فاقوس وصعيد مصر.
وكذلك قبيلة الدواغرة، من قبيلة مطير (تستوطن وسط الحجاز حتى نجد) وتسكن هذه القبيلة منطقة الزقبة في العريش، وقبيلة الرياشات، إحدى القبائل التي تقيم بمصر وفلسطين والأردن والسعودية واليمن.
ومن أبرز القبائل الأخرى في بنية "اتحاد القبائل العربية"، العبايدة والتياهة والحوات والنجمات وبلي والأخارسة والصفايحة.
وأيضا قبيلة بني فخر وأولاد سليمان والأغوات وحجاب وأبو شيتة وعروج والسلايمة، كما يشتمل على قبائل الأحيوات والحويطات والعزازمة والشوربجي والشريف وأولاد سعيد.

هاجس مخيف
وخلال حفل تدشين اتحاد القبائل العربية أعلن مصطفى بكري (النائب البرلماني والإعلامي التابع للنظام) بصفته المتحدث (آنذاك) باسم اتحاد القبائل العربية، أنه بناء على رغبة أبناء سيناء تقرر تغيير اسم منطقة العجرة، التي أقيم فيها المؤتمر، إلى مدينة السيسي.
وتقع قرية العجرة في أراضي قبيلة السواركة وبجانب قرية البرث، التمركز الأساسي لقبيلة الترابين في مناطق شمال سيناء.
ومنذ نهاية 2022 شرع العرجاني في شراء مساحات واسعة من أراضي العجرة من أصحابها السواركة بمبالغ مالية كبيرة.
وتوزعت قيادة الاتحاد المستجد، على العرجاني، رئيسا، ونائبين: الأول، أحمد رسلان، من محافظة مطروح، وقد شغل منصب الرئيس الأسبق للجنة الشؤون العربية في مجلس النواب، وكان النائب الأول لرئيس البرلمان العربي.
أما النائب الثاني، فاللواء أحمد جهينة، من محافظة سوهاج، وهو ضابط سابق بجهاز أمن الدولة المنحل، ومحافظ الغربية الأسبق.
ويذكر أنه في 29 مارس/ آذار 2018، كتب الصحفي المصري، عبد الناصر سلامة، مقالة لصحيفة "المصري اليوم" المحلية تحت عنوان "هاجس القبائل العربية" وكان الاتحاد وقتها فكرة محل نظر.
وقال: "أكثر من مرة توقفت إلى ما يسمى اتحاد القبائل العربية، وهي فكرة تؤكد أن هناك أمرا ما لا يتناسب مع الدستور، الذي نص على المساواة، ولا مع الدين، الذي نص على ألا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى".
وتابع: "ولا يتناسب كذلك لا مع الحالة الراهنة التي تعيشها البلاد، بل والمنطقة ككل، والتي كان محورها أولا وأخيرا الطوائف والمذاهب والعرقيات والقبائل".
وأضاف: "المخاوف التي يبديها البعض تتعلق بالمستقبل، ولنا العبرة في كثير من البقاع داخل مصر وخارجها".
وأكمل: "نحن أمام بذور للفتنة ما كان يجب أن تكون، سوف نفاجأ مستقبلا بأننا أمام مرشح رئاسي للقبائل العربية، بالتالي سوف يكون هناك مرشح للقبائل النوبية، ثم القبائل السيناوية".
وشدد: "هناك مجتمعات خرجت فيها هذه الظواهر على السطح في صورة نيران ومواجهات حامية الوطيس، لم تكن مصر ذات يوم لا من هؤلاء ولا هؤلاء".
وختم قائلا: "أما أن يرى البعض أننا في مرحلة شبه الدولة (تعبير استخدمه السيسي من قبل خلال إحدى لقاءاته)، أو مرحلة من التبعية البدوية، يجوز خلالها ما لم يكن جائزا في أي من العصور، فهو أمر في حاجة إلى إعادة نظر رسمية وشعبية في آن واحد".