إعادة تشغيل مطار الخرطوم.. لماذا تعد معركة على جبهات القتال؟

"المطار أصبح رمزا للصمود والتعافي الوطني"
بينما تواصل القوات المسلحة السودانية حسم معاركها ضد مليشيا الدعم السريع المدعومة إماراتيا، تفتح الخرطوم فصلا جديدا من التحديات لا يقل خطورة عن المعارك العسكرية، معركة إعادة الإعمار وإحياء العاصمة المدمرة بعد عامين من الحرب الطاحنة.
رمزية هذه المعركة تتجلى أولا في مطار الخرطوم الدولي، بوابة البلاد الأولى إلى العالم، الذي تضرر بشدة بفعل المواجهات المسلحة، وتحول إغلاقه إلى أحد أبرز مؤشرات شلل الدولة في ذروة الحرب.
واليوم، يعود الأمل مع إعلان مجلس السيادة السوداني أن أعمال الصيانة والتأهيل بلغت مراحلها النهائية.
حجم الإنجاز
وقاد عضو مجلس السيادة الانتقالي ومساعد القائد العام، إبراهيم جابر، في 13 أغسطس/ آب 2025، جولة ميدانية لعدد من المرافق الخدمية بالخرطوم، وعلى رأسها مطار الخرطوم الدولي.
رافقه في الجولة، كل من وزير الداخلية الفريق شرطة بابكر سمرة، ووكيل وزارة الصحة الاتحادية هيثم محمد إبراهيم، ووالي الخرطوم أحمد عثمان حمزة، في إشارة واضحة إلى أن الدولة الجديدة تتعامل مع ملف الإعمار كأولوية وطنية قصوى.
وخلال الزيارة، شدد جابر على أن "صيانة مطار الخرطوم ليست مجرد مشروع خدمي، بل معركة سياسية واقتصادية لعودة العاصمة إلى موقعها الطبيعي، بعد أن خربتها الحرب ومخططات المرتزقة”، في إشارة إلى دمار البنية التحتية الذي تسببت فيه هجمات الدعم السريع المدعوم من الخارج.
ووفقا للمدير العام لشركة مطارات السودان المحدودة، سر الختم بابكر، بلغت نسبة إنجاز أعمال التأهيل نحو 85 بالمئة، لتقترب الخرطوم من استعادة شريانها الجوي الأساسي.
وشملت الأعمال إصلاح المدرجات، الصالات، والخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه والصرف الصحي.
وأكد جابر أن "الجهود مستمرة رغم محدودية الإمكانيات؛ حيث تعمل فرق الصيانة في ظروف استثنائية تحت ضغط ميزانية الحرب التي تركز على الأولويات".
كما أوضح أن المرحلة المقبلة ستشهد استئناف الرحلات الداخلية إلى الولايات، ثم استقبال الوفود الرسمية ورحلات العودة للسودانيين في الخارج.
وتأتي هذه المتابعة في إطار خطة حكومية واضحة لرفع الكفاءة التشغيلية وتحسين مستوى الخدمات وفق المعايير الدولية.
شريان إستراتيجي
وفي 14 أبريل/ نيسان 2025 كشفت صور أقمار اصطناعية عن حجم الدمار الهائل الذي لحق بمطار الخرطوم الدولي، بعد عامين من اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع.
وأظهرت التحليلات الملتقطة بتقنية "الفاصل الزمني" من قبل وكالة "رويترز" البريطانية، كيف تحول المطار إلى ساحة حرب مفتوحة، تعاقبت عليها أعمدة الدخان وضربات القصف على مدى أشهر طويلة.
وأسفرت في النهاية عن تدمير نحو 50 طائرة، بينها 6 خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة فقط، إضافة إلى أضرار جسيمة لحقت بما يقارب 70 مبنى ومرفقا لوجستيا.
وزير النقل أبو بكر أبو القاسم وصف حجم الخسائر بـ"المهول"، مؤكدا أن الأضرار نالت البنية التحتية الأساسية، من المدرجات والصالات إلى المستودعات والطائرات التجارية، وهو ما جعل المطار واحدا من أبرز رموز الخراب الذي خلفته الحرب.
لكن رغم قتامة المشهد، اختار الجيش والحكومة أن يكون مطار الخرطوم نقطة الانطلاق الأولى في معركة إعادة الإعمار، بصفته شريانا إستراتيجيا وحجر زاوية لعودة العاصمة إلى دورها الطبيعي.
وجاءت اللحظة الرمزية في 20 يوليو/ تموز 2025، عندما حطت طائرة مدنية تحمل رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان في مدرج المطار لأول مرة منذ اندلاع الحرب، لتكون الرحلة بمثابة إعلان واضح بأن الخرطوم بدأت تستعيد أنفاسها.
وتفقد البرهان مقرا لقيادة الجيش في قلب العاصمة، فيما تعهد رئيس الوزراء كامل إدريس بإعادة بناء الخرطوم وتحويلها من جديد إلى "عاصمة قومية شامخة".
وهكذا، بات المطار الذي كان شاهدا على فصول الدمار، هو ذاته منصة البداية لمشروع وطني واسع لإعمار الخرطوم وإحيائها من بين أنقاض الحرب.
حال العاصمة
وحتى مارس/ آذار 2025، حين تمكن الجيش من إخراج مليشيا الدعم السريع من العاصمة، كانت الخرطوم ساحة قتال مفتوحة يعيش سكانها بين الخراب والدمار.
وأثناء انسحابها، لجأت الدعم السريع إلى نهب وتجريد البنية التحتية بالكامل، من المعدات الطبية إلى مضخات المياه وأسلاك النحاس.
وقال منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، لوكا ريندا، في وصفه للمشهد: "عادة، في مناطق الحرب ترى دمارا كبيرا، لكن نادرا ما نشهد ما حدث في الخرطوم".
وأضاف في بيان أنه "جرى تفكيك الكابلات من المنازل وتدمير الأنابيب بشكل كامل، في عملية نهب منهجية نالت كل شيء صغيرا كان أم كبيرا".
واليوم، تواجه العاصمة واحدة من أعقد معارك ما بعد الحرب، وهي معركة إعادة بناء أنظمة الكهرباء والمياه.
فيما أوضح رئيس قسم الكهرباء بشرق الخرطوم، محمد البشير لوكالة الأنباء الفرنسية في 21 أغسطس، أن محطات التحويل الرئيسة تعرضت لـ"أضرار هائلة"، وأن بعضها دمر بالكامل بعد أن استهدفتها قوات الدعم السريع عمدا عبر تدمير زيوت المحولات وسرقة كابلات النحاس.
هذا الانهيار انعكس مباشرة على حياة السكان، مساحات واسعة من الخرطوم غرقت في الظلام، وأزمة المياه تسببت في تفشي وباء الكوليرا هذا الصيف؛ حيث سجل ما يصل إلى 1500 إصابة يوميا في يونيو/حزيران 2025، وفق تقارير الأمم المتحدة.
العودة إلى العاصمة
وفي مواجهة هذا الواقع، أعلن رئيس الوزراء السوداني، خلال زيارته الأولى إلى الخرطوم في منتصف يوليو، أن الحكومة ستطلق جهودا واسعة للتعافي، مؤكدا أن "الخرطوم ستعود عاصمة وطنية فخورة"
وأكد إدريس أن “وسط الخرطوم، المنطقة التجارية والإدارية التي شهدت أعنف المعارك، سيجري إخلاؤه وإعادة تصميمه بالكامل في خطوة تعد جزءا من خطة إعمار شاملة”.
وذكر أنه بالفعل بدأت الحكومة التخطيط لعودتها من عاصمتها المؤقتة بورتسودان التي لجأت إليها بعد اشتداد المعارك في مدينة الخرطوم.
أما الأمم المتحدة، فقدرت أن إعادة تأهيل المرافق الأساسية للعاصمة ستتطلب نحو 350 مليون دولار، بينما ستحتاج عملية إعادة البناء الكاملة إلى "سنوات وعدة مليارات من الدولارات".
وعلى الأرض، بدأ مئات العمال والمتطوعين بالفعل أعمال الإصلاح في مشروع طويل وشاق، فيما تتوقع الأمم المتحدة أن يعود ما يصل إلى مليوني شخص إلى الخرطوم بحلول نهاية العام، بعد أن عاد بالفعل عشرات الآلاف رغم الظروف الصعبة.
ووسط هذا المشهد، يبرز مطار الخرطوم الدولي بصفته المفتاح الأول لإحياء العاصمة.
فهو ليس مجرد منشأة للنقل، بل بوابة سياسية واقتصادية وأمنية لعودة الدولة إلى قلب الخرطوم.
فمع إعادة تأهيل المطار وتشغيله من جديد، ستتمكن الحكومة من استقبال الوفود الرسمية، وتيسير حركة التجارة والسفر، وتأمين الإمدادات، ما يجعل منه الركيزة الأولى لكل خطط إعادة الإعمار.
رمز السيادة
وقال السياسي السوداني، إبراهيم عبد العاطي: إن "عودة مطار الخرطوم إلى العمل لا تمثل مجرد حدث فني أو تقني، بل هي بداية عملية لعودة العاصمة إلى دورها الطبيعي، مركز القرار السيادي ومحرك الاقتصاد الوطني".
وأوضح عبد العاطي لـ"الاستقلال" أن "إعادة تشغيل المطار مؤشر سياسي على أن الخرطوم بدأت تستعيد مكانتها بعد أن انتقلت مؤسسات الدولة مؤقتا إلى بورتسودان".
ولفت إلى أن "الجيش والحكومة الجديدة يدركان أن تفعيل الدور السياسي والاقتصادي للخرطوم هو شرط أساسي لعودة الاستقرار، فالعاصمة ليست مجرد مدينة، وإنما هي رمز السيادة الوطنية ومركز القرار للدولة السودانية."
وأشار عبد العاطي إلى أن "الطريق أمام هذه العودة مليء بالتحديات، من تدمير البنية التحتية جراء المعارك العنيفة، إلى نقص التمويل في ظل اقتصاد مثقل بديون الحرب، وأيضا التحديات الأمنية مع بقايا خلايا الدعم السريع، إضافة للاحتياجات الإنسانية الملحة في مجالات الصحة والمياه والتعليم".
وتابع موضحا: "بينما يواصل الجيش السوداني تطهير الولايات من فلول المليشيات، فإن إعادة إعمار المطار والعاصمة بأكملها تشكل معركة ثانية لا تقل أهمية عن معركة الميدان".
واستطرد: "نجاح هذه المعركة سيعني أن السودان قادر على النهوض من تحت الركام وإعادة بناء مؤسساته رغم حجم الدمار، أما فشلها فسيمنح خصوم البلاد فرصة جديدة للعبث بمستقبله".
كما أشار إلى ما أظهره مقطع فيديو متداول من تدريب العاملين على المعدات الأرضية الجديدة المؤجرة بواسطة شركة تاركو للطيران في مطار الخرطوم الدولي.
وعلق عبد العاطي عليها: "هذه المشاهد لا تعكس مجرد تدريب تقني، بل تجسد إصرار المؤسسات السودانية على إعادة الحياة إلى مطار العاصمة بعد أكثر من عامين من الشلل".
وشدد على أن "كل خطوة من إصلاح المدارج إلى تدريب الطواقم الأرضية تحمل رسالة قوية بأن السودان ماض في طريقه بإرادته، رغم الدمار الذي خلفته مليشيا الجنجويد".
وختم عبد العاطي تصريحه بالقول: "من المتوقع أن يسهم عودة مطار الخرطوم الدولي في تسهيل وصول المساعدات الإنسانية وعودة الحكومة الفيدرالية إلى قلب العاصمة”.
وتابع: "بالنسبة لغالبية السودانيين، فإن المطار لم يعد مجرد منشأة للنقل، بل أصبح رمزا للصمود والتعافي الوطني، وبداية لمعركة الإعمار التي ستعيد للخرطوم مكانتها كعاصمة قومية شامخة".
المصادر
- قرب إنتهاء صيانة مطار الخرطوم و تحديد موعد التشغيل
- اكتمال 85% من صيانة مطار الخرطوم وإبراهيم جابر يعلن قرب استئناف الرحلات
- البرهان يهبط في الخرطوم بطائرة مدنية وإدريس يتعهد: ستعود عاصمة شامخة
- مع انطلاق إعادة الإعمار بعد عامين من الحرب.. هل تنهض الخرطوم من تحت الركام؟
- الحرب تدمر البنية التحتية في السودان وتكلفة باهظة لإعادة الإعمار