بعد 60 عاما على تنفيذه.. وثائق تكشف الدور الأميركي في انقلاب 1964 بالبرازيل

منذ شهر واحد

12

طباعة

مشاركة

وافق يوم 31 مارس/آذار 2024، ذكرى سنوية مهيبة في البرازيل، فقبل 60 عاما استولى الجيش البرازيلي على السلطة من حكومة الرئيس جواو جولارت، الحدث الذي مثّل بداية لأكثر من عقدين من الحكم العسكري.

وبهذه المناسبة، نشرت مجلة "ريسبونسيبل ستيتكرافت" الأميركية تقريرا استعرضت فيه دور واشنطن في ذلك الانقلاب مؤكدة أنها "لم تقف خلف الانقلابيين فحسب بل أيضا وضعت خططا لغزو محتمل للبرازيل، وأرسلت فرقة عمل لدعم العسكريين المتآمرين على الرئيس".

تخطيط للغزو

تجدر الإشارة إلى أنه في 2014، أصدرت "لجنة الحقيقة" البرازيلية التحقيق الرسمي الوحيد في البلاد حول هذه الفترة من الحكم الديكتاتوري.

ولمساعدة "لجنة الحقيقة"، سلّم نائب الرئيس الأميركي آنذاك جو بايدن، وثائق رفعت وزارة الخارجية الأميركية السرية عنها، إلى الرئيسة البرازيلية السابقة ديلما روسيف، التي تعرضت هي نفسها للسجن والتعذيب على يد النظام العسكري.

وعرضت هذه الوثائق تفاصيل حول ديكتاتورية الجيش وتمكين واشنطن له من ارتكاب انتهاكات، أسفرت عن مقتل أكثر من 400 برازيلي.

ووصفت مجلة "ريسبونسيبل ستيتكرافت" -الصادرة عن معهد كوينسي الأميركي- تسليم بايدن للسجلات التي رُفعت عنها السرية بأنه كان "عملا رمزيا".

وقالت إن الولايات المتحدة عززت دعمها للانقلابيين في العام السابق لتحركهم، ووضعت خططا لغزو أميركي إذا رأت ذلك ضروريا، وأرسلت قوة مهام بحرية إلى البرازيل لدعم المتآمرين العسكريين.

وفي النهاية، لم تكن هناك حاجة لتدخل الولايات المتحدة المباشر،  إذ فر "جولارت" إلى أوروغواي بحلول الرابع من أبريل/ نيسان 1964، ونفذ جنرالات البرازيل الانقلاب، واحتفلت به واشنطن بوصفه انتصارا لمصالحها.

وقالت المجلة: من ناحية، كشف الدعم الأميركي للانقلاب عن نفاق أميركا بشأن التزامها المفترض بالديمقراطية وسيادة الدول.

وتابعت: لقد ضاع وعد إدارة الرئيس الأميركي جون كينيدي، برفض ما يسمى بـ"السلم الأميركي" (Pax Americana)، الذي فرضته أسلحة الحرب الأميركية على العالم.

و"السلام الأميركي" هو مصطلح ينطبق على مفهوم السلم النسبي في نصف الكرة الغربي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945، عندما أصبحت الولايات المتحدة القوة الاقتصادية والثقافية والعسكرية المهيمنة في العالم.

وبهذا المعنى، أصبح "السلام الأميركي" يصف الوضع العسكري والاقتصادي للولايات المتحدة مقارنة بالدول الأخرى.

وأكدت المجلة أن منطق الحرب الباردة المتمثل في الانحياز إلى الديكتاتوريين المناهضين للشيوعية بهدف هزيمة الاتحاد السوفيتي كان السائد حينها، فربما خسرت واشنطن الصين، لكنها فازت بالبرازيل، أو هكذا كان التفكير.

ومع ذلك، فحتى أكثر الحجج الساخرة التي تبرر التحالف مع الأنظمة غير الديمقراطية بأن فيها مصلحة إستراتيجية لواشنطن، غالبا ما فشلت في أن تؤتي ثمارها.

وذلك لأن العديد من هذه الأنظمة ابتعدت عن سياسة الولايات المتحدة بشأن قضايا محورية.

والعديد من مؤرخي العلاقات الأميركية-البرازيلية يؤكدون أن خلال هذه الفترة كانت علاقاتهما في بعض الأحيان تشبه المنافسين أكثر من كونها حلفاء مقربين.

من جانبه، كتب الدبلوماسي ووزير المالية السابق في البرازيل، روبنز ريكوبيرو: "شيئا فشيئا، تحولت الشكوك إلى خيبة أمل، وأدى هذا إلى فك الارتباط تدريجيا بالنظام الذي ساعدت واشنطن في إنشائه".

وأوضحت المجلة أنه "عندما استولت الديكتاتورية العسكرية على السلطة في البرازيل لأول مرة، اتبعت خطا واشنطن عن كثب.

فأزيح الرئيس جولارت من الساحة ومعه "سياسته الخارجية المستقلة"، التي تمثلت في عدم الانحياز والتأكيد على حق تقرير المصير وإنهاء الاستعمار وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، السياسة التي بدأها سلفه، جانيو كوادروس.

نشر الانقلابات

وتماشيا مع رغبات واشنطن، قطعت الديكتاتورية -التي تناوب فيها خمسة رؤساء عسكريين مختلفين بين عامي 1964 و1985- العلاقات مع كوبا، بل وساعدت الولايات المتحدة في احتلالها لجمهورية الدومينيكان في عام 1965.

كما عدت واشنطن البرازيل شريكا أيديولوجيا رئيسا في زعزعة استقرار الأنظمة اليسارية في جميع أنحاء أميركا اللاتينية.

وعلى حد تعبير أحد الجنرالات البرازيليين، أرادت الولايات المتحدة أن تقوم البرازيل بـ"أعمالها القذرة" بدلا منها، وبالفعل نفذت برازيليا ذلك.

والأبرز من هذا هو أن النظام البرازيلي لعب دورا حاسما في الإطاحة بحكومة الرئيس، سلفادور الليندي، المنتخبة ديمقراطيا في تشيلي.

"حتى إن أعضاء من الجيش التشيلي أُحضروا سرا إلى البرازيل لمناقشة الانقلاب المحتمل".

وشاركت البرازيل تحت قيادة جنرالاتها أيضا في "عملية كوندور"، وهي عبارة عن تعاون سري بين الديكتاتوريات العسكرية اليمينية في معظم أنحاء أميركا اللاتينية لاغتيال أو "إخفاء" اليساريين وغيرهم من المعارضين خلال السبعينيات.

لكن بمرور الوقت، تضاءل تحالف النظام البرازيلي مع الولايات المتحدة وتصاعدت التوترات بينهما.

ووفق تعبير الدكتور لويز ألبرتو مونيز بانديرا، في كتابه "التنافس الناشئ بين البرازيل والولايات المتحدة"، أن "التماشي التلقائي مع إرشادات وزارة الخارجية الأميركية لم يعد يمكن أن يستمر لفترة طويلة".

وأرجع ذلك إلى أن هذه السياسة "لم تعد تتوافق بشكل فعال مع المصالح الوطنية لبلد نامٍ يطمح لأن يصبح قوة".

وقالت المجلة إنه على الرغم من حقيقة أن الولايات المتحدة أرادت أن تنفذ أعمالها القذرة بأيادٍ خارجية، فإنها لم تكن على استعداد لقبول العواقب المصاحبة لزيادة الاستقلال العسكري للبرازيل.

وذكر أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الفيدرالية بولاية "ريو غراندي دو سول" البرازيلية، إدواردو سفارتمان، أن إحدى المشكلات التي ظهرت مبكرا كانت تتعلق بطلب البرازيل طائرات مقاتلة من طراز إف-5.

وتابع: في نظر السياسيين الأميركيين إذا كان التهديد الكبير في أميركا اللاتينية يمثله المتمردون الشيوعيون، فليس هناك أي معنى لبيع أو نقل طائرات مقاتلة حديثة أسرع من الصوت إلى دول أميركا اللاتينية، بينما تقوم المروحيات بالمهمة بشكل أفضل بكثير.

لكن لم توافق الحكومة البرازيلية العسكرية على ذلك، معتقدة أن من المهم أن يكون لديها جيش حديث، لاستعراض قوتها في القارة.

وبناء على ذلك، أصبح الجنرالات البرازيليون أكثر اعتمادا على أوروبا، حيث اشتروا العديد من طائرات "ميراج" المقاتلة من فرنسا.

وأوضح التقرير أن ذلك "كان درسا مبكرا لجنرالات البرازيل بأن الولايات المتحدة قد لا تكون شريكهم الأكثر موثوقية".

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ظلت مورّدا مهما للمكونات الحيوية لصناعة الأسلحة الوطنية الناشئة في البرازيل، إلا أن إمدادات البرازيل من واردات الأسلحة الأميركية الصنع انخفضت من 92 بالمئة إلى 14 بالمئة من إجمالي ترسانتها على مدار فترة الحكم الديكتاتوري.

طموحات برازيلية

ومن جهة أخرى، شعرت الولايات المتحدة بالإحباط بسبب تحرك البرازيل نحو اتخاذ مواقف مرتبطة بحركة عدم الانحياز، وفق التقرير.

فعلى الرغم من أن البرازيل لم تكن أبدا عضوا كامل العضوية في الحركة، إلا أنها في أوائل السبعينيات، دعمت إنهاء الاستعمار في البلدان الناطقة بالبرتغالية في إفريقيا، وشددت على عدم التدخل، واعترفت بالحركة الشعبية لتحرير أنغولا.

وهذا يعني -وفق وصف المجلة الأميركية- عودة البرازيل إلى مبادئ السياسة الخارجية المستقلة التي اتبعتها في السابق.

وبحسب المجلة، فربما كان أكبر مصدر للتوتر بين الولايات المتحدة والبرازيل هو تطوير البرنامج النووي.

إذ رفضت البرازيل الانضمام إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، بحجة أن التكنولوجيا النووية ضرورية لتطوير البلاد.

وبعد أن علقت الولايات المتحدة إمدادات اليورانيوم المخصب لمفاعلات الأبحاث في البرازيل، تحول النظام البرازيلي إلى ألمانيا الغربية، وتفاوض على اتفاق نووي كبير في عام 1975.

وفي تقرير داخلي، زعمت وكالة المخابرات المركزية الأميركية أن طموحات البرازيل النووية تشكل "تحديا أساسيا" للعلاقات بين البلدين.

ومن دون إبلاغ البرازيليين، حاول والتر مونديل، نائب الرئيس الأميركي المنتخب حديثا، جيمي كارتر، الضغط على الحكومة الألمانية لإلغاء الاتفاق.

"علاوة على ذلك، شعرت واشنطن بالإحباط بسبب استبداد الجنرالات وانتهاكات حقوق الإنسان".

وكان النظام البرازيلي قد أصدر سلسلة من "الإجراءات المؤسسية"، أولها جاء بعد أيام قليلة من الانقلاب، والتي منحته سلطات واسعة، شملت تعليق حقوق زعماء المعارضة وسلطة وقف أعمال البرلمان.

ووفق الدبلوماسي البرازيلي السابق ريكوبيرو، فإن "مع كل هجوم جديد على النظام القانوني أو وقوع انتهاكات، اضطرت السفارة الأميركية في ريو دي جانيرو إلى الدخول في تحريفات ديالكتيكية (جدلية) لتخفيف احتجاجات وزارة الخارجية الأميركية".

علاقات ممزقة

وبلغ الضغط الأميركي على النظام البرازيلي -جراء الاستبداد المتزايد والمشكلة النووية- ذروته خلال إدارة الرئيس جيمي كارتر، التي وضعت اشتراطات حقوقية لإرسال مساعدات عسكرية مباشرة إلى البرازيل.

وبعد أن انتقدت وزارة الخارجية في حكومة كارتر البرازيل بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان في عام 1977، ردت الحكومة البرازيلية بتعليق اللجنة العسكرية المشتركة مع الولايات المتحدة، ومهمتها البحرية، والاتفاق العسكري الثنائي طويل الأمد بين الطرفين.

ووفق تعبير سفير واشنطن في برازيليا آنذاك، روبرت ساير، فإن "العلاقات بين الولايات المتحدة والبرازيل تمزقت".

وقالت المجلة: "على الرغم من التقارب قصير الأمد الذي صحب انتخاب، رونالد ريغان، رئيسا للولايات المتحدة في عام 1980، أصبحت البرازيل تنتقد إحياء واشنطن لسياسات أكثر تدخلية في ظل إدارته".

"كما أن القرار الذي اتخذته واشنطن بالوقوف إلى جانب بريطانيا ضد الأرجنتين -جارة البرازيل- خلال حرب فوكلاند/مالفيناس في عام 1982، أكد الشكوك البرازيلية في أن الولايات المتحدة لم تكن شريكا يمكن الاعتماد عليه".

ولأول مرة على الإطلاق، "أصبحت فرضية الحرب مع الولايات المتحدة موضوعا للدراسة لدى القوات المسلحة البرازيلية"، كما أوضح بانديرا في كتابه.

علاوة على ذلك، عارضت البرازيل ما يسمى بـ"عقيدة ريغان" (Reagan Doctrine)، الذي سعى إلى الإطاحة بالحكومات اليسارية في أميركا الوسطى والجنوب الإفريقي.

"وبذلك، لم تصبح الولايات المتحدة مجرد شريك بعيد الأمد، بل أصبحت شيئا جديدا تماما: منافسا ناشئا"، كما تقول مجلة ريسبونسيبل ستيتكرافت.

وقد ظل العديد من هذه الخلافات بين البلدين قائمة حتى فترة التحول الديمقراطي التي بدأت في عام 1985.

وأشارت المجلة إلى أنه "لا يزال هناك الكثير مما لا نعرفه عن هذا الفصل من تاريخ البرازيل، وعلاقة الولايات المتحدة بالنظام العسكري".

ويقدر بيتر كورنبلوه، أحد كبار المحللين في أرشيف الأمن القومي الأميركي والذي عمل أيضا كحلقة وصل بين الحكومتين الأميركية والبرازيلية بخصوص "لجنة الحقيقة"، أن آلاف السجلات لا تزال سرية.

بما في ذلك العديد من السجلات الحساسة من وكالة المخابرات المركزية ووزارة الدفاع.

وأضاف كورنبلوه أن "الولايات المتحدة عندما تماطل في الكشف عن توثيقها للقمع في البرازيل في تلك الفترة، فإنها في الوقت نفسه وبالدرجة ذاتها، تساعد المجتمع البرازيلي على ألا يستذكر أهوال ما حدث خلف الأبواب المغلقة في مراكز الاعتقال السرية".

وقالت المجلة: "بدايةً، يمكن للرئيس بايدن تلبية مناشدات 16 منظمة مجتمع مدني برازيلية لرفع السرية عن هذه الوثائق".

وتنص المناشدة التي أطلقتها هذه المنظمات على أن رفع السرية من شأنه أن "يوفر معلومات قيمة حول انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت خلال فترة الدكتاتورية البرازيلية، ويوضح درجة تورط الولايات المتحدة في هذه الأحداث أو معرفتها بها".

وأردفت تلك المنظمات أن "من شأن هذا الإجراء -الذي يدلل على الشفافية- أن يعزز أسس العلاقة بين الولايات المتحدة والقارة الأميركية ويعزز الثقة والتعاون في القضايا المهمة مثل حقوق الإنسان والديمقراطية والاستقرار الإقليمي".

وتستبعد المجلة الأميركية أن تطلب حكومة الرئيس البرازيلي، لولا دا سيلفا، هذه الوثائق رسميا من بايدن نفسه.

ولفتت إلى أنه "وفي محاولة لاسترضاء قادة القوات المسلحة البرازيلية -الذين مازالوا يكنون احتراما كبيرا للديكتاتورية التي دامت 21 عاما- ألغى "لولا" بشكل مثير للجدل جميع الفعاليات الرسمية المتعلقة بالذكرى الستين للانقلاب".

وختمت: "لكن حتى من دون فعاليات رسمية، فإن ملايين البرازيليين، من ماناوس في منطقة الأمازون إلى فلوريانوبوليس في أقصى الجنوب، ينظمون مظاهرات لإرسال رسالة مفادها أن "الدكتاتورية لن تعود أبدا مرة أخرى".