"تجنب التنازلات".. لماذا يسعى لبنان إلى تحسين علاقاته مع الجزائر؟

"تشترط كثير من الدول تقديم بيروت تنازلات للمساعدة في إعادة الإعمار"
يسعى لبنان الجديد إلى توسيع قاعدة علاقاته العربية، متجها نحو دول خارج دائرة حلفائه التقليديين الذين اعتاد تلقي الدعم منهم، وعلى رأسهم دول الخليج.
وفي هذا السياق، برزت الجزائر كلاعب داعم أبدى مرونة كبيرة واستعدادا لتقديم المساعدة، في وقت يواجه فيه لبنان أزمة اقتصادية خانقة تطال مختلف القطاعات.
وفي زيارة رسمية هي الأولى لرئيس لبناني منذ أكثر من 25 عاما، وصل الرئيس جوزيف عون في 29 يوليو/تموز 2025 إلى الجزائر تلبية لدعوة من نظيره عبد المجيد تبون.

زيارة لافتة
وعقد تبون وعون مؤتمرا مشتركا، أكد فيه الرئيس الجزائري "الإسراع بعقد الدورة الأولى للجنة المشتركة الجزائرية - اللبنانية، لتكون منطلقا جديدا، وإطارا دافعا لتعاون مثمر ومستدام، يندمج فيه رجال الأعمال والمتعاملون الاقتصاديون من خلال تفعيل مجلس رجال الأعمال المشترك".
ولفت الرئيس الجزائري إلى أنه "من أجل ضمان ديمومة التشاور والتنسيق السياسي بين البلدين، إزاء كل هذه الملفات الحساسة، وجهنا إلى تفعيل آلية التشاور السياسي، التي لم تعقد منذ تأسيسها عام 2002، إلا مرة واحدة".
أما عون، فشدد على أن لبنان "لا ينسى مواقف الجزائر الداعمة له دوما؛ فهي لم تغب مرة عن المساعي العربية الحميدة، لخروجه من أزماته وإنهاء حروبه المركبة بين الداخل والخارج".
وعد التضامن العربي ”ضرورة لقوة لبنان، يصلب وحدته، ويحصن سيادته واستقلاله".
وأسفرت الزيارة عن قرار تفعيل آلية التشاور السياسي بين لبنان والجزائر التي عقدت مرة واحدة منذ عام 2002، والإعلان عن المساعدة في مجال الطاقات المتجددة وبناء محطات الطاقة الشمسية وغيرها.
وأشار الرئيس تبون إلى "اتفاقيات سيتم توقيعها في القريب العاجل تشمل تعاونا ماليا واقتصاديا وثقافيا".
وكشف عن هدية هي عبارة عن "مساعدة مبدئية من الجزائريين إلى أشقائهم اللبنانيين"، معلنا أن "المياه ستعود إلى مجاريها بين البلدين".
وأعلن الرئيس الجزائري عن توجيهات أعطاها لعودة الطيران الجزائري إلى لبنان خلال الأسبوعين المقبلين.
كما أعلنت الخطوط الجوية الجزائرية تسيير رحلات إلى بيروت ابتداء من 14 أغسطس/آب 2025.
وخلال المحادثات، جرى التركيز أيضا على مسألة إعادة الإعمار بعد الأضرار الكبيرة التي خلفتها الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، حيث قدم الوفد اللبناني مذكرة مفصلة عن هذا الملف.
وقد كان مستشار رئيس الجمهورية اللبنانية لشؤون إعادة الإعمار علي حمية، من ضمن الوفد الذي زار الجزائر.
وكان عون قال في تصريح للصحفيين بالمطار، إن زيارته تأتي تعبيرا عن عمق العلاقات الأخوية التي تربط بين لبنان والجزائر، وتأكيدا على أهمية تعزيز التعاون في شتى المجالات.
وأضاف: "الجزائر قدمت للبنان على مدى العقود الماضية الدعم السخي، والمساندة الثابتة في أصعب الظروف، وكانت حاضرة وسباقة في مساعدتنا".
وشدد عون على أن اللبنانيين لن ينسوا مواقف الجزائر في مجلس الأمن الدولي خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان، إضافة إلى المساعدات العاجلة التي أرسلت إلى بيروت بعد انفجار مرفأ المدينة عام 2020، ناهيك عن الدعم النفطي وغيره، واحتضان مئات الطلاب اللبنانيين.
وتعرض لبنان لخسائر اقتصادية كبيرة منذ اندلاع المعارك بين حزب الله وإسرائيل في أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
وتقدّر احتياجات إعادة الإعمار والتعافي في لبنان بنحو 11 مليار دولار أميركي، وذلك وفقا لتقرير التقييم السريع للأضرار والاحتياجات في هذا البلد لعام 2025 (RDNA) الصادر عن البنك الدولي.

"تجاوز التنازلات"
وتتمتع العلاقات بين الجزائر ولبنان بتاريخ طويل من التعاون والتضامن، إذ وقفت الدولة المغاربية إلى جانب بيروت في محطات مفصلية، لا سيما خلال الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي عام 1982، كما احتضنت الأراضي الجزائرية عدة لقاءات سياسية لبنانية في مراحل مختلفة.
وبالعودة إلى الوراء، فإنه منذ اندلاع ثورة الجزائر في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1954، كانت بيروت، العاصمة الثقافية والفكرية للعالم العربي، من أبرز المنابر التي احتضنت صوت المقاومة الجزائرية.
وقد لعبت الصحافة اللبنانية آنذاك دورا محوريا في نشر أخبار الثورة والترويج لمطالب الاستقلال.
وأمام ذلك، تحمل زيارة عون بعدا سياسيا، فكثيرا ما أعربت الجزائر عن وقوفها إلى جانب لبنان من أجل تعزيز الاستقرار وتحقيق النمو الاقتصادي.
لا سيما أن الجزائر تسعى في هذه المرحلة وفق المراقبين للعب دور محوري في جنوب البحر الأبيض المتوسط.
كما أنها تأتي في ظل تعقيدات يمر بها لبنان، بعد العدوان الإسرائيلي الأخير عليه، فضلا على الوضع الاقتصادي الداخلي المتردي منذ عام 2019.
وبحسب بعض المراقبين، هناك مصلحة كبرى للجزائر في أن يكون لبنان ركيزة لها بالمنطقة، ولا سيما بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا الذي كان على علاقة كبيرة مع الجزائر.
وهناك من يرى أن الجزائر تسعى لمساعدة لبنان ومنع انهياره لتجنيبه اتباع مسار التطبيع مع إسرائيل مقابل تلقي الدعم الدولي للنهوض من جديد.
ويبحث لبنان عن أسعار مميزة في مجال النفط ومشتقاته، حيث ينظر إلى الجزائر كأحد الدول التي يمكن أن تساعده في هذا المجال، إضافة إلى الفنيين في مجال الكهرباء.
وضمن هذا السياق، رأى الصحفي اللبناني سمير عاصي أن "الأمن والطاقة والسياسة الخارجية هي محور زيارة الرئيس عون؛ لأن الجزائر تمثل وزنا سياسيا مهما في المنطقة".
وأضاف عاصي لـ “الاستقلال”: "الجزائر وعدت لبنان بالمساعدة في إعادة الإعمار بعد العدوان الإسرائيلي الأخير، خاصة أنه في هذا الملف تشترط كثير من الدول تقديم بيروت تنازلات، أما هذه (الدولة المغاربية) فلم تضع أي شرط".
ونوه إلى أن "هناك احتمالية تعاون عسكري يمكن أن ينشأ مع الجزائر من ناحية مساعدة لبنان عسكريا بالمعدات والذخيرة كي يقوم الجيش اللبناني بدوره في مرحلة ضبط السلاح".
وأشار عاصي إلى أن “الجزائر تستطيع دعم لبنان بالطاقة وإنتاج الكهرباء خاصة لامتلاكها مشتقات النفط”.
وتوقع أن تنفذ الجزائر استثمارات معينة في مجال الطاقة داخل لبنان “كونها لها باع طويل في هذا القطاع”.
وتمتلك الجزائر احتياطيات ضخمة من الغاز الطبيعي (تقدر بنحو 4.5 تريليون متر مكعب)، وهي ثالث أكبر مصدر للغاز في المنطقة بعد قطر وإيران، ما يجعلها شريكًا مثاليًا للبنان في معالجة أزمة الكهرباء المزمنة.
وسبق أن وضعت وزارة الطاقة اللبنانية خطة طوارئ أشارت فيها إلى أن لبنان يحتاج إلى نحو 3,000 ميغاواط من الكهرباء لتغطية حاجاته.
وقد عبرت الجزائر سابقا عن استعدادها لدراسة تزويد لبنان بالفيول أو الغاز بأسعار مدروسة أو ضمن تسهيلات دفع، خصوصًا في إطار اتفاقيات تضامن عربي شاملة.
فبعد توقف وصول الوقود من العراق إلى لبنان لأسباب لوجستية كما تقول بيروت، دخلت الجزائر على الخط بشكل عاجل لإبقاء محطات الطاقة في هذا البلد قيد التشغيل.
إذ اتخذ تبون قرار مساعدة لبنان بعد الإعلان عن توقف محطات توليد الكهرباء بهذا البلد في 17 أغسطس 2024.
وأبحرت آنذاك الناقلة الجزائرية "عين أكر" في 22 أغسطس 2024 إلى لبنان محمّلة بشحنة أولى تبلغ 30 ألف طن من مادة الفيول بهدف إعادة تشغيل محطات الطاقة في البلاد.

"وسيط نزيه"
ولطالما كانت الجزائر تدعم لبنان داخل أروقة مجلس الأمن الدولي في مواجهة الضغوطات الإسرائيلية.
ففي فبراير/شباط 2025 أشاد الرئيس اللبناني جوزيف عون بالمواقف التي اتخذتها الجزائر في مجلس الأمن الدولي في دعم لبنان والوقوف إلى جانبه لا سيما خلال عدوان الاحتلال الإسرائيلي عليه.
وهنا يشير الكاتب اللبناني داوود رمال خلال مقال له نشر في 30 يوليو 2025 إلى أن “الجزائر تحتفظ بثقلها العربي والإقليمي كدولة ذات موقف مستقل”.
وأردف: "تجلى ذلك في استضافتها للقمة العربية في تشرين الثاني 2022، حيث دعت إلى إعادة الاهتمام للقضية الفلسطينية وإلى دعم لبنان في مواجهة التحديات الاقتصادية والسيادية".
وأضاف أنه “في سياق المحافل الدولية، لطالما صوتت الجزائر لصالح القرارات التي تدعم لبنان في مجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة للأمم المتحدة، وكانت من الدول القليلة التي لم تنخرط في الاستقطاب السياسي اللبناني الداخلي”.
وبين أن هذه المواقف تجعل الجزائر “وسيطا نزيها” في حال تطلبت المرحلة مبادرات لحل الأزمات المستعصية.
واليوم تشكل زيارة الرئيس عون إلى الجزائر فرصة لإعادة بناء علاقة إستراتيجية تقوم على المصالح المشتركة لا على العواطف فقط، وفق رمال.
وواصل القول: "يحتاج لبنان في هذه المرحلة الدقيقة إلى دول صديقة صادقة، تُقدّر موقعه التاريخي، وتملك الإرادة والقدرة على مساعدته من دون شروط سياسية أو رهانات إقليمية".
ولفت إلى أن "الجزائر تُعدّ من الدول القليلة التي تستطيع أن تلعب هذا الدور، إن حظيت العلاقة بين البلدين بالمتابعة الحثيثة والتخطيط الإستراتيجي".