"إما اختيار مرشحنا أو الفراغ الرئاسي".. حزب الله يختطف لبنان مجددا

مصطفى العويك | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

مع انقضاء الدقيقة الأخيرة من 31 أكتوبر/تشرين الأول 2022، أصبح موقع رئاسة الجمهورية اللبنانية شاغرا، إثر انتهاء الولاية الدستورية للرئيس ميشال عون، وهي ست سنوات غير قابلة للتمديد. 

هذا الشغور مرشح لأن يطول أمده في ظل عجز البرلمان الجديد، المنتخب في مايو/أيار 2022، عن اختيار رئيس جديد، بسبب عدم امتلاك أي حزب أو ائتلاف سياسي الأكثرية اللازمة التي تخول له انتخاب مرشحه.

ترافق الشغور مع جدل سياسي طائفي، حول انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية الى الحكومة كما ينص الدستور. 

فالمسيحيون، وبخاصة الموارنة، شديدو الحساسية تجاه موقع رئاسة الجمهورية، وهو من حصتهم حسب الأعراف السارية منذ عقود. 

ومراعاة لهذه الحساسية، نص الدستور على أنه في حال خلو المنصب لأي سبب كان، تنتقل الصلاحيات إلى الحكومة مجتمعة، وليس إلى رئيس الحكومة المسلم السني، وهذا ما حصل في عدة محطات سابقة.

بيد أن الشغور الحالي للرئاسة يترافق مع وجود حكومة مستقيلة بحكم الدستور أيضا، والذي ينص على عدة حالات تعد فيها الحكومة مستقيلة، منها عقب انتخاب برلمان جديد. 

من هذا المنطلق، رأى التيار الوطني الحر، وهو حزب مسيحي يميني، يمتلك ثاني أكبر كتلة برلمانية (17 نائبا أغلبهم من المسيحيين) أن حكومة تصريف أعمال، مقيدة الصلاحيات، لا يحق لها الاجتماع إلا لأسباب استثنائية، ولا يمكنها الحلول مكان رئيس الجمهورية.

أيده في ذلك حزب القوات اللبنانية (مسيحي يميني)، وإلى حد ما البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، وهو الزعيم الروحي للموارنة. 

فهل يحق لحكومة مستقيلة بحكم الدستور أن ترث صلاحيات رئيس الجمهورية؟ وكيف يمكن إدارة الدولة من دون رئيس وحكومة؟ وهل سيطول الشغور الرئاسي كما حصل عام 2016؟

فتنة طائفية

في 30 أكتوبر 2022، وقبل يوم واحد من انتهاء ولايته الدستورية، غادر رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون قصر بعبدا، مقر رئاسة الجمهورية إلى منزله الخاص.

وختم ولايته بقبول استقالة الحكومة، وهو إجراء شكلي لأنها تعد مستقيلة بموجب الدستور بعد الانتخابات النيابية. 

أتبع ذلك بتوجيه رسالة إلى البرلمان، يقول فيها إن حكومة تصريف الأعمال لا تستطيع الحلول مكان الرئيس، في ظل عدم انتخاب خلف له، وبأن رئيسها والرئيس المكلف بتشكيل حكومة جديدة نجيب ميقاتي، امتنع عمدا عن تأليفها. 

لذلك طالب عون المجلس النيابي بسحب التكليف من ميقاتي، وهو أمر لم يرد في الدستور، ولم يحصل سابقا. 

وهذا ما أشعل جدلا على الساحة اللبنانية شديدة الحساسية تجاه هذه الأمور التي تختلط فيها العوامل السياسية بالطائفية والمذهبية، والمحلية بالإقليمية. 

فحسب العرف السائد منذ استقلال البلاد عام 1943، رئاسة الجمهورية من حصة المسيحيين الموارنة، ورئاسة الحكومة من حصة السنة، ورئاسة البرلمان من حصة الشيعة.

وتتمثل جميع الطوائف والمذاهب التي يفوق عددها 18 في لبنان بالمجلس النيابي وكذلك في الحكومة. 

وأي اختلال في هذه التوازنات الدقيقة يفضي غالبا إلى توترات وانقسامات طائفية ينتج عنها أحيانا فتن أهلية تتراوح بين الحرب والمعارك المحدودة. 

والأمثلة على ذلك كثيرة، من الحرب الأهلية سنة 1975 والتي استمرت 15 عاما بين المسلمين والمسيحيين، وصولا الى اجتياح حزب الله لشوارع العاصمة بيروت في 7 مايو 2008. 

فقد أوحى عون من خلال رسالته، بأن ميقاتي المسلم السني، يريد الهيمنة على صلاحيات الرئيس الماروني وحده، بسبب عدم قدرة الحكومة دستوريا على الاجتماع.

وهو ما يجعل القرار في يد رئيس الحكومة السني، لكن ذلك من الناحية النظرية فقط. أما من الناحية الفعلية، فلا يوجد طرف سياسي يستطيع اتخاذ القرارات بمفرده. 

فالصلاحيات موزعة حسب اتفاق الطائف، الذي أنهى الحرب الأهلية في البلاد، بشكل دقيق، يمنع أي طائفة أو مذهب أو فريق سياسي من الاستئثار بقرار البلاد. 

أضف إلى ذلك أن حزب الله يعد الحاكم الفعلي للبلاد بفضل سلاحه، ويتزعم ائتلافا سياسيا عريضا ومتنوعا، يضم التيار الوطني الحر نفسه، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يحكم بمعزل عنه ولا أن يتخذ قرارا لا يريده الحزب. 

لذلك، رأى عدد من النواب أن ما فعله به رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، محاولة لتأجيج الفتنة الطائفية، يهدف إلى كسب تعاطف الشارع المسيحي من باب  المظلومية. 

وهذا ما أظهرته مداخلاتهم ضمن الجلسة التي عقدها البرلمان لتلاوة رسالة رئيس الجمهورية في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2022. إذ أبدوا خشيتهم من أن يكون الهدف من هذه الرسالة إثارة النعرات الطائفية. 

النائب سامي الجميل، رئيس حزب الكتائب المسيحي اليميني (4 نواب) عد أن "الهدف من الجلسة خلق إشكالا طائفيا بين اللبنانيين، لأن المطلوب أخذ البلد إلى توترات، لذلك انسحبنا منها اعتراضا على عقدها، وسنواصل سعينا لانتخاب رئيس في أسرع وقت ممكن". 

كذلك فعلت كتلة نواب "التغيير" (13 نائبا)، والتي عدّت الجلسة بمثابة "لزوم ما لا يلزم"، فالدستور واضح والأولوية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية.

التزام دستوري

شهدت الجلسة عينها مشادات بين عدد من النواب، عكست مستوى التشنج فيما بينهم، خاصة رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، الذي بدا واضحا أنه يتعمد إثارة الجدل والاشتباك الكلامي. 

وكان باسيل، صهر رئيس الجمهورية السابق، قد حاول في الأيام الأخيرة من الولاية الرئاسية الضغط على الوزراء المحسوبين على فريقهما السياسي من أجل الاعتكاف في منازلهم والامتناع عن تأدية واجباتهم الوزارية. 

فرد ميقاتي بصورة حاسمة بتصاريح إعلامية قال فيها إنه "يمكن للوزير الرديف أن يؤدي مهام الوزير الأصيل بالوكالة في حال اعتكافه"، وهو ما قلل من قيمة خطوة باسيل وأفقدها جدواها.

فعندما يجرى تشكيل الحكومة، يوضع لكل وزارة وزير أصيل، وآخر بالوكالة من بين أعضاء الحكومة نفسها، كي يتولى مهام الوزارة في بعض الحالات الاستثنائية مثل السفر والمرض.

وفي رده على رسالة عون، عدّ ميقاتي أن "تصريف الأعمال يمسي من واجبات الحكومة المستقيلة أو التي تعد بحكم المستقيلة دونما حاجة لقرار يصدر عن رئيس الجمهورية". 

وأضاف أن "تصريف الأعمال ارتقى إلى مرتبة الالتزام والموجب الدستوري وكرسته وفرضته المادة 64 من الدستور باعتقاد أن الفراغ في المؤسسات الدستورية يتعارض والغاية التي وجد من أجلها الدستور ويهدد النظام بالسقوط ويضع البلاد في المجهول". واستند في كلامه على اجتهاد فقهي سابق للمجلس الدستوري في 28 نوفمبر 2014. 

وشدد ميقاتي على أن "امتناع حكومتنا عن القيام بمهامها وواجباتها الدستورية، ومن ضمنها متابعة تصريف الأعمال، تحت أي ذريعة كانت، يشكل إخلالا بالواجبات المترتبة عليها ويعرضها رئيسا وأعضاء للمساءلة الدستورية" حسبما نصت المادة 70 من الدستور. 

وبعد النقاشات الحامية، أوصى مجلس النواب بمضي حكومة تصريف الأعمال قدما بمهامها وفق الأصول الدستورية بالنطاق الضيق. 

في المقابل، فإن الفرقاء السياسيين المسلمين، وخاصة رئيسي الحكومة والبرلمان نجيب ميقاتي ونبيه بري، اتفقا على عدم دعوة مجلس الوزراء للالتئام إلا في الظروف القاهرة والاستثنائية.

على أن يسبقها مشاورات بين مختلف الأحزاب وممثلي الطوائف، وذلك مراعاة لمشاعر الشارع المسيحي ولنزع دابر أي فتنة طائفية. 

يقول الكاتب السياسي نقولا ناصيف في مقالة له بصحيفة "الأخبار" المحلية، إن "الصيغة المبسطة المتوافق عليها أخيرا لضمان استقرار سياسي مقبول وانتظام ما تبقى من مؤسسات دستورية، أن لا يجتمع مجلس الوزراء، إلا أن الحكومة تبقى عاملة في السرايا (مقر رئاسة الحكومة) ومقار الوزارات". 

ويبين ناصيف بأن ما اتفق عليه بين الأحزاب والكتل النيابية هو "أن يسيّر الوزراء أعمال حقائبهم على نحو طبيعي من ضمن النطاق الضيق لتصريف الأعمال، بغية تسهيل عمل المرافق العامة والإدارات الرسمية" طيلة فترة الشغور الرئاسي.

ويضيف بأن القوى السياسية توافقت على أن "لا يجتمع مجلس الوزراء أبدا تفاديا لاضطراره الى استخدام جزء من صلاحيات رئيس الجمهورية". 

ويشير ناصيف الى "التعهد الأخلاقي الذي قطعه رئيس حكومة تصريف الأعمال للبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي بعدم انعقاد المجلس إلا في الظروف الاستثنائية". 

واستنادا إلى ذلك، يخلص إلى أن "حكومة ميقاتي أعفت نفسها من هم التئام مجلس الوزراء، وبذا يتضح أن لا مراسيم يؤمل صدورها" ما خلا المراسيم العادية التي تنظم حياة اللبنانيين وشؤون البلاد. 

إستراتيجية الفراغ

ليست المرة الأولى التي يعاني فيها لبنان من شغور في مقام رئاسة الجمهورية. إذ سبق أن حصل ذلك في العام 2007.

وقتها، شغر المقام الرئاسي لستة أشهر بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود دون انتخاب خلف له بفعل تطيير (إفشال) حزب الله وحليفه التيار الوطني الحر النصاب القانوني للبرلمان. 

إلى أن اجتاح الحزب إياه شوارع بيروت في مايو 2008 وأجبر خصومه على إبرام اتفاق الدوحة الذي منحه حق الفيتو في النظام. 

تكرر الشغور مرة ثانية غداة انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان في مايو 2013، حينما امتنع حزب الله وحركة أمل اللذان يهيمنان على التمثيل البرلماني للشيعة، ومعهما التيار الوطني الحر المسيحي عن الحضور الى البرلمان لمنعه من الانعقاد. 

وذلك من أجل فرض انتخاب رئيس الثاني ميشال عون رئيسا للجمهورية. وهو ما حصل في أكتوبر 2016، بعد سنتين ونصف من الفراغ. 

وهذه هي المرة الثالثة التي يعيش لبنان فراغا رئاسيا وللسبب عينه. إذ إن حزب الله مع حلفائه، ولا سيما التيار الوطني الحر، يسارعون إلى الانسحاب من البرلمان لإفقاده النصاب المطلوب، وهو ثلثا النواب، من أجل فرض مرشحه للمرة الثالثة. 

وحسب التسريبات والتقارير الإعلامية، فإن مرشح حزب الله هو النائب السابق سليمان فرنجية.

لكنه يمتنع حتى اللحظة عن إعلان ذلك رسميا، ويكتفي نوابه بالاقتراع بورقة بيضاء، ريثما تنضج الظروف المؤاتية لفرض "رئيس لا يطعن المقاومة ولا يبيعها" وفق كلام أمينه العام حسن نصر الله في 11 نوفمبر. 

وبالتالي يصبح الشغور الرئاسي إستراتيجية يتوخى حزب الله من خلالها شل عجلة الحكم في الدولة، رافضا كل مرشحي الأطراف السياسية، ما يدفعهم في النهاية إلى الرضوخ له وانتخاب مرشحه.

لذلك، يرى الكاتب السياسي منير الربيع أن "لبنان أمام فراغ طويل". ويضيف في حديث لـ"الاستقلال" أن "حزب الله يدعم سليمان فرنجية، ويفضل الانتظار إلى لحظة استسلام الآخرين لتبني ترشحيه".

وأردف: "حزب الله اتخذ قراره، مرشحه الأوحد سليمان فرنجية. وهو مستعد لدفع ثمن مقبول لقاء ذلك من ضمنه التفاوض على رئيس الحكومة المقبل". 

وتبقى العقدة الأساسية في موقف جبران باسيل (رئيس التيار الوطني الحر)، التي سيكون الوقت كفيلا بحلها أو تجاوزها بشروط قد يفرضها الأخير، بحسب تقديره.

هذه الفترة يقدرها الكاتب السياسي محمد بركات في مقالته بموقع "أساس ميديا" بـ"ستة أسابيع وستة شهور".

ويبين أن الأسابيع الستة هي "الفترة التي تفصلنا عن رأس السنة الميلادية". ويضيف "خلالها سيكمل الساسة لعبتهم المفضلة وهي حرق الأسماء في الإعلام لاستبعادها". 

ويتابع بركات "في الأشهر الستة اللاحقة، بين 9 يناير/كانون الثاني و9 يوليو/تموز، أي بين موعد انتهاء عطلة الأعياد، وقبل أيام من انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان، سيكون المشهد قد انجلى في المنطقة والإقليم دوليا، وسيكون اللاعبون أمام خطر الخسارة الكاملة إذا لم يكشفوا أوراقهم". 

ويقصد بذلك أنه مع انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان، وتعذر تعيين خلف له بسبب شغور رئاسة الجمهورية، وصعوبة اجتماع مجلس الوزراء، سيمسي لبنان أمام سيناريوهات كارثية. 

وذلك عائد إلى أن حاكم المصرف هو الذي يتولى إدارة الأزمة الاقتصادية التاريخية في البلاد، وبرحيله ستصبح أمام سيناريوهات مخيفة، وستنهار العملة المحلية بشكل مخيف أكثر مما حاصل حاليا، وهذا سيجبر القوى السياسية على الاتفاق على رئيس جديد قبل بلوغ الهاوية.