26 عاما على المجزرة.. لماذا لم تعتذر هولندا عن دعمها للصرب في سربرنيتسا؟

إسماعيل يوسف | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

على الرغم من مرور 26 عاما على المذبحة الأبشع في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، ما زالت هولندا تتنكر لمسؤوليتها إلى جانب قوات الصرب عن قتل آلاف المسلمين في مدينة سربرنيتسا البوسنية عام 1995.

أسر ضحايا مجزرة "سربرنيتسا" أحيت يوم 11 يوليو/ تموز 2021، كعادتها كل عام، الذكرى الـ26 لفقدان أكثر من 8 آلاف مسلم بوسني، قتلتهم القوات الصربية عام 1995، بتواطؤ من القوات الهولندية.

ففي عام 1995 دخلت القوات الصربية مدينة سربرنيتسا في جمهورية البوسنة والهرسك، وارتكبت أبشع مجزرة جماعية، رغم إعلان المدينة منطقة آمنة بقرار الأمم المتحدة، الذي وضعها تحت حماية القوات الهولندية.

المنظمة الأممية، وصفت المذبحة التي ارتكبتها كتيبة "العقارب" بقيادة مجرم الحرب "راتكو ميلاديتش"، بأنها "أسوأ جريمة ارتكبت على الأراضي الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية عام 1945".

لكن الأمم المتحدة لم تحاكم القوات الأممية التابعة للجيش الهولندي لتسهيلها المجزرة، وإجبار من لجأ من الأهالي إلى قاعدتها العسكرية لحمايتهم من القتل على الرحيل، ليلقوا مصيرهم، فضلا عن مشاركة ضباط وجنود هولنديين في عمليات القتل ذاتها.

استجواب وزير الدفاع

في تلك الذكرى الأليمة، دعا صحفيان هولندي بريطاني، محرر "الاستقلال" للاتصال بوزير الدفاع الهولندي لاستجوابه عن المجزرة.

ولأن المساءلة للمسؤولين متاحة صحفيا في أوروبا، عكس العالم العربي، كان السؤال الموجه للوزير الهولندي "جان كريستوفيل جميليتش ميلينج" Jan Gmelich Meijling: لماذا لم تدافع عن المسلمين الذين كانوا في حمايتك وتركتهم للقتل؟

الوزير الهولندي كان يتبع "حزب الشعب من أجل الحرية" اليميني المتطرف المعادي للمسلمين والذي أسسه خيرت فيلدرز المتطرف صاحب فيلم "فتنة" المعادي للمسلمين.

حاولنا الوصول لـ "ميلينج" حينئذ، أو الحصول على تصريح من وزارته حول تواطؤهم في الجريمة، إلا أن مكتبه رفض الرد متعللا بأن الوزير ينتظر معرفة تفاصيل ما جرى.

مصدر هولندي قال لـ"الاستقلال": حينئذ تجرى تحقيقات بوزارة الدفاع لمساءلة قائد الكتيبة الهولندية لكن ظل الأمر محاطا بالسرية، ولم توجه التهم رسميا للكتيبة ولا للجيش الهولندي.

بعد 7 سنوات من المجزرة، قدم رئيس الوزراء الهولندي فيم كوك استقالة حكومته، إثر صدور تقرير رسمي صدر في 10 أبريل/ نيسان 2002، ينتقد أداء الحكومة الهولندية أثناء حرب البوسنة.

التقرير، ألقى باللوم على الساسة وكبار القادة العسكريين الهولنديين لفشل وحدة حفظ السلام الهولندية التابعة للأمم المتحدة في منع مذبحة سربرنيتسا أثناء الحرب.

سعت الحكومة الهولندية المستقيلة تبرير تقاعسها عن حماية اللاجئين المسلمين، بأن "قواتها كانت قليلة العدد، ضعيفة التسليح، وفي مهمة مستحيلة".

على صعيد مجرمي الحرب، صادقت المحكمة الجنائية الدولية 8 يونيو/ حزيران 2021، على حكم نهائي بالسجن مدى الحياة لقائد الجيش الصربي راتكو ميلاديتش "جزار البوسنة"، بتهمة ارتكاب إبادة وجرائم حرب بين 1992 و1995.

ملاديتش وكاريمنز

حين بدأت المذبحة، تركت القوة الهولندية الصرب يدخلون سربرنيتسا ويقتلون المسلمين، وحين فر مئات اللاجئين لمقر الكتيبة الهولندية هربا من الذبح، سلموهم للصرب، وفق شهادات بعض الناجين من المجازر.

ونشرت صحف الغرب حينها صورة قائد القوات الهولندية في سربرنيتسا "توم كاريمانز" Thom Karremans، يقف خاضعا أمام مجرم الحرب الصربي راتكو ملاديتش عقب احتلاله سربرنيتسا في 11 يوليو/ تموز 1995.

ملاديتش، استجوب يومئذ كاريمانز، بسبب إطلاق قواته النار على الجنود الصرب، واعتذر له القائد الهولندي، وأبلغه أنه "مجرد عازف بيانو متواضع يؤدي دورا ابتكره له الآخرون"، بحسب فورين بوليسي 28 مارس/ آذار 2012.

بعد ذلك قدم كاريمنز، السجائر وكؤوس الخمر لملاديتش، والتقطا معا صورا وهما يرفعان كؤوس الخمر على جثث المسلمين.

بل وتبادلت عائلتا ملاديتش وكاريمنز الهدايا، قبل رحيل القوات الهولندية من سربرنيتسا، وهي المشاهد الحاضرة في أذهان شعب البوسنة والهرسك حتى اليوم.

لم تتم محاكمة "كاريمانز" في أي وقت بخصوص ما حدث، إلا أن محكمة هولندية اعتبرت حكومة بلادها آنذاك مسؤولة "جزئيا" عما حدث.

أمهات سربرنيتسا

سعى أهالي ضحايا الأسر البوسنية لمقاضاة هولندا وجيشها أمام محاكم لاهاي، متهمين الجيش الهولندي بالمسؤولية عن قتل المسلمين مثل الصرب.

تسلحوا بتقصير عناصر الكتيبة الهولندية "دوتش بات 3" Dutch Bat III في الدفاع عن أهل البلدة، لرفع دعوى قضائية ضد أمستردام، فيما عرف بقضية "أمهات سربرنيتسا".

صدر أول حكم في ذكرى المذبحة الـ 19، يوم 16 يوليو/ تموز 2014، حين قضت محكمة هولندية بمسؤولية أمستردام عن قتل قرابة 350 شخصا فقط من المسلمين البوسنيين في بلدة سربرنيتسا.

قالت المحكمة: إن كتيبة قوات حفظ السلام الهولندية "لم تقم بما يكفي من المهام لحماية البوسنيين، وكان ينبغي أن تدرك هذه القوات احتمال وقوع إبادة جماعية".

أكدت القاضية جيبكه دوليك شيرميرز إن الجنود الهولنديين "كان لديهم علم بأن هؤلاء المسلمين (الذين طردوا من القاعدة بعد اللجوء إليها) كانوا يواجهون خطرا حقيقيا يتمثل في التعرض للتعذيب أو الإعدام".

وقالت: "لو كانت الكتيبة الهولندية سمحت ببقائهم في المجمع، لظل هؤلاء الرجال أحياء، لكن بتعاون الكتيبة في تسليم هؤلاء المسلمين للصرب، تكون الكتيبة الهولندية قد أدت عملها على نحو غير قانوني".

مع هذا برأت المحكمة، هولندا كدولة من قتل ما يزيد على 7 آلاف مسلم آخرين في سربرنيتسا وحولها.

استأنفت الحكومة الهولندية الحكم، فأيدت محكمة في لاهاي الحكم للمرة الثانية 27 يونيو/ حزيران 2017، وأعادت إلقاء اللوم على هولندا في مقتل نحو 350 مسلما على يد قوات صرب البوسنة.

على الرغم من الحكم القضائي بمسؤولية أمستردام وتأكيده في الاستئناف، فإن المحكمة العليا الهولندية خفضت في يوليو/ تموز 2019، نسبة مسؤولية الجنود الهولنديين في مجزرة سربرنيتسا من 30 بالمئة إلى 10 بالمئة.

كان الغرض على ما يبدو تخفيض مقدار التعويضات التي ألزمت هولندا بدفعها لأسر الضحايا، وفق بعض التقديرات.

جمعية أمهات سربرنيتسا، اعترضت لدى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، على قرار القضاء الهولندي.

وقالت رئيسة الجمعية منيرة سوباسيتش في يناير/ كانون الثاني 2020: إن أمهات الضحايا "غير راضيات عن قرار المحكمة العليا الهولندية".

وشددت على أن "الجنود الهولنديين العاملين ضمن القوات الأممية، سلموا المدنيين البوسنيين للقتلة".

وأضافت "لكن هولندا وجيشها ظلوا بعيدين عن العقاب، واقتصر الأمر على تعويض بعض الأسر البوسنية القليلة".

قائمة شندلر المسلمة

في حوارات أجراها موقع "Balkan Transitional Justice" (العدالة الانتقالية في البلقان) 8 أغسطس/ آب 2019، مع بعض المحاربين الهولنديين القدامى الذين حضروا مجزرة سربرنيتسا، تحدث بعضهم عن أن ما فعله الصرب كان على غرار "قائمة شندلر" اليهودية.

في شهادته قال الجندي الهولندي "آن مولدر": إن الجنود الصرب كانوا يقومون بتصنيف المسلمين ويفصلون النساء والأطفال عن الرجال على طريقة "قائمة شندلر".

أضاف: كان ما يجري مثل قائمة شندلر اليهودية، حيث تم فصل الأمهات والأطفال وكبار السن أمامي عن حوالي 240 رجلا، حاول بعض زملائي حمايتهم بالذهاب مع الحافلات ولكن بمجرد أن يكونوا بعيدا عن الأنظار، نسمع طلقات رصاص.

"لم أكن أعلم أنه تم القبض على الرجال لقتلهم، لم أستطع حتى تخيل هذا، كيف قتلوا 8 آلاف رجلا؟ لماذا لم يأخذوهم أسرى حرب بدل القتل المنظم بهذا الحجم؟"، تساءل الجندي الهولندي.

 

وتحدث عن "فوضى خلقتها وزارة الدفاع الهولندية"، و"أخطاء ارتكبت في مثل هذا الوقت القصير"، وأكد التقاط بعض زملائه صورا "للأعمال الوحشية"، لكنها اختفت، مؤكدا: "يبدو أنه كان لدينا شيء نخفيه".

وتحدث زميله "ريمكو دي بروين"، أيضا عن قائمة شندلر: "يقول الجميع إننا ساعدنا في الإبادة الجماعية لأننا ساعدناهم على فصل الرجال عن عائلاتهم، لكنني شخصيا لم أختر القيام بذلك".

أكد أن قائده الهولندي الكولونيل توماس كاريمان، اتفق مع قائد جيش الصرب ملاديتش على إخراج اللاجئين المسلمين من قاعدتنا، و"ساعدنا في ركوبهم الحافلات، وفي تلك المرحلة كان الصرب يفصلون الرجال عن الأولاد".

وأضاف: "أخذوا الجميع من سن الـ10 فصاعدا لاستجوابهم، هذا ما قالوه لنا، لم أصدقهم ولكن لم يكن هناك شيء يمكننا القيام به لأننا كنا أقل عددا".

و"قائمة شندلر" يقصد بها سعي رجل الأعمال الألماني أوسكار شندلر بحماية بعض اللاجئين اليهود والبولنديين من بطش النازيين في ذلك الوقت، وجرى إنقاذ أكثر من 1000 يهودي بإخفائهم في مصانعه وقت المحرقة.

شاركوا في القتل

لم يشارك ضباط وجنود هولندا فقط في تسليم مسلمي سربرنيتسا لمجرمي الحرب الصرب، بل تم كشف معلومات أخطر عن دورهم في المشاركة بقتل المسلمين أثناء المذبحة.

اضطر وزير الدفاع الهولندي لإجراء تحقيقين منفصلين بشأن تورط جنود وضباط الوحدة العسكرية الهولندية (المعروفة باسم الخوذات الزرقاء) في المذبحة، بعد الضغوط الدولية.

تقارير نشرتها الصحف البوسنية ورصدتها وكالة الأنباء المصرية حينئذ أكدت أن هؤلاء الجنود الذين كانوا يعملون في إطار قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في البوسنة قاموا بمساعدة القوات الصربية على تنفيذ هذه المذابح".

وذكرت أن ضابطا هولنديا من الذين كانوا يعملون في الوحدة اعترف في حديث للتليفزيون الهولندي بقيام زملائه بمساعدة القوات الصربية.

التحقيقان اللذان أمر وزير الدفاع الهولندي بإجرائهما يتعلق أولهما بقيام المسؤولين في وزارة الدفاع السابقة بتدمير فيلم تليفزيوني وثائقي عن تورط الهولنديين في المجزرة.

والثاني عن تسبب إحدى الدبابات الهولندية في قتل نحو 30 مسلما في سربرنيتسا، تجمعوا حولها طلبا للحماية من القوات الصربية إلا أن قائدها حاول الفرار مما تسبب عن سقوط الضحايا تحت جنازيرها.

الضابط الهولندي "رون ريتن" الذي شارك ضمن قوات بلاده في العمل في منطقة سربرنيتسا سلم الفيلم الوثائقي للتليفزيون الهولندي الذي أذاعه بعدما تدخلت وزارة الدفاع وحذفت مشاهد تورط الضباط الهولنديين في المجزرة ثم قامت بعد ذلك بتدمير هذه المشاهد.

آثار مستمرة

رغم مرور 26 عاما على ارتكاب المذبحة، إلا أن آثارها مستمرة حتى اليوم، فالسلطات البوسنية تعمل على مدار العام، على استخراج جثث الضحايا ورفاتهم من المقابر الجماعية، والتحقق من هويتها ثم دفنها في مراسم شعبية.

ذوو الضحايا يواصلون استخراج وإعادة دفن رفات أقربائهم من الضحايا، الذين توصلوا إلى هوياتهم، في مقبرة "بوتوتشاري" التابعة لبلدة سربرنيتسا.

بحسب السلطات البوسنية وصل عدد المدفونين في المقبرة حتى 11 يوليو/ تموز 2021، إلى 6671 ضحية.

مجزرة سربرنيتسا بدأت بقصف قوات صرب البوسنة لها منذ يوم 6 إلى 8 يوليو/ تموز 1995، وبدء فرار الضحايا من منازلهم في اليوم التالي.

ويوم 10 يوليو/ تموز 1995، تجمع عدد كبير من سكان البلدة الهاربين عند المواقع العسكرية الهولندية، التي طلبت دعما جويا من الأمم المتحدة بعد قصف صرب البوسنة مواقعهم.

يوم المجزرة 11 يوليو/ تموز 1995، فر أكثر من 20 ألف لاجئ إلى قاعدة هولندية رئيسة في منطقة "بوتوكاري"، وهدد الصرب بقتل الهولنديين بعد قصف مقاتلين هولنديين بطائرات طراز إف-16 مواقع صربية. 

في نفس اليوم دخل جزار صرب البوسنة راتكو ملاديتش سربرنيتسا وطالب الهولنديين بتسليم المسلمين. 

بدأ الصرب يوم 12 يوليو/ تموز 1995، بنقل المسلمين في شاحنات ضخمة عددهم نحو 23 ألف سيدة وطفل بدعوى استجوابهم وحجزوهم داخل شاحنات ومستودعات، ثم بدأت تظهر المقابر الجماعية لهم.

يوم 13 يوليو/ تموز 1995، سلمت قوات حفظ السلام الهولندية نحو 5 آلاف مسلم يحتمون في إحدى قواعدها للصرب مقابل الإفراج عن 14 جنديا من قوات حفظ السلام الهولندية المحتجزين لدى صرب البوسنة، تبين قتلهم لاحقا.

ثم سمحت القوات الهولندية للجنود الصرب بدخول القاعدة والتحقق من هويات المدنيين ثم احتجزوا الرجال منهم وقاموا بقتلهم ودفنهم في مقابر جماعية.

بعد سقوط سربرنيتسا في أيدي الصرب رفض بعض المدنيين اللجوء للقوات الهولندية وفضلوا السير عبر طريق الغابة للوصول إلى المنطقة التي يسيطر عليها الجيش البوسني.

إلا أن مصير أغلبهم لم يكن مختلفا عن مصير من لجؤوا للجنود الهولنديين في قاعدة الأمم المتحدة، إذ تم قتل الآلاف منهم على يد الجنود الصرب أثناء عبورهم من طريق الغابة، الذي أصبح يعرف بـ"طريق الموت".