"مكتب الإيمان ولجنة الدين" .. هل يحول ترامب أميركا لدولة مسيحية؟

إسماعيل يوسف | منذ يومين

12

طباعة

مشاركة

رغم أنه ليس متدينا، إلا أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يغازل التيارات الدينية الإنجيلية المسيحية بسياساته المحافظة، ويصور نفسه منذ فترة طويلة زعيما للمسيحيين اليمينيين.

ومع أن ترامب ليس من رواد الكنائس، لكنه يرى المحافظين المتدينين قاعدة لحركته السياسية، وسعى منذ محاولة اغتياله في 13 يوليو/تموز 2024 للضرب على وتر الدين أكثر، وزعم أنه شعر أن الله نجاه "لأنني أؤمن بالله".

خلال رئاسته الأولى والثانية، أحاط نفسه بعشرات من الرموز الدينية من التيار الإنجيلي وتيار "ماجا" الديني (لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى)، وظهر يصلي معهم في المكتب البيضاوي عدة مرات، حتى إنهم صوروه كأنه "المخلص".

وأصدر أوامر رئاسية بإنشاء ما يسمى "مكتب الإيمان" في البيت الأبيض، لدعم المسيحيين، و"لجنة الحريات الدينية" لحمايتهم من "الاضطهاد"، وقال بوضوح إنه يرفض الفصل بين الدين والدولة.

من جانبهم، يؤكد محللون أميركيون أن ما يفعله ترامب خرق للدستور الأميركي الذي، وإن لم ينص صراحة على الفصل بين الدين والدولة، إلا أن مواده تشير لذلك ضمنا.

قالوا إنه مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وسيطرة الجمهوريين على العديد من المجالس التشريعية للولايات وحكامها، أحاط نفسه بمتعصبين مسيحيين إنجيليين، وأن هؤلاء يسعون لإنهاء الفصل الدستوري بين الكنيسة والدولة.

مكتب إيمان ولجنة للدين

يوم 7 فبراير/شباط 2025، أمر الرئيس ترامب بإنشاء "مكتب الإيمان"، أو Faith Office في البيت الأبيض، وهو مكتب جديد، بدلا من مكاتب ومبادرات دينية ومجتمعية سابقة.

ورغم أن القرار لم يتحدث عن "المسيحية" تحديدا، وأشار إلى أن دوره هو "مساعدة الكيانات القائمة على الإيمان والمنظمات المجتمعية، ودور العبادة وحماية الأسر الأميركية، والحريات الدينية"، قال أميركيون إن هدفه "تعزيز المسيحية".

لكن ترامب قال بوضوح: إن الهدف من إنشاء “مكتب الإيمان” تشكيل فريق عمل "لاستئصال التحيز ضد المسيحيين" في الوكالات الحكومية، وفق وكالتي الأنباء (أسوشيتدبرس) والفرنسية.

وقال: إنه عين المدعية العامة الجديدة "بام بوندي"، على رأس فريق مكتب الإيمان "لإنهاء اضطهاد المسيحيين الغالبية في الولايات المتحدة"، ولـ"وقف أشكال الاستهداف والتمييز ضد المسيحيين على الفور، في وزارة العدل والدوائر الداخلية ومكتب التحقيقات الفيدرالي وغيرها من الوكالات الحكومية، ولفت إلى أنها ستلاحق "العنف والتخريب ضد المسيحية في مجتمعنا".

وألغى "مكتب إيمان ترامب" في البيت الأبيض، مكاتب سابقة أطلقها رؤساء أميركيون سابقون، مثل "مكتب المبادرات الدينية والمجتمعية" الذي أسسه الرئيس الأسبق جورج بوش الابن عام 2001، و"مكتب الشراكات القائمة على الإيمان والجوار"، في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما.

وعاد ترامب مطلع مايو/أيار 2025 ليوقع أمرا تنفيذيا آخر بإنشاء "لجنة الحرية الدينية"، RELIGIOUS LIBERTY COMMISSION، المعنية بحماية حرية المسيحيين الدينية، ضمن الحماس المتزايد في البيت الأبيض للمسيحية.

وفي نفس اليوم، وخلال مناسبة “اليوم الوطني للصلاة” في أحد فنادق واشنطن، قال: "سنحمي المسيحيين في مدارسنا وفي جيشنا وحكومتنا وأماكن عملنا ومستشفياتنا وساحاتنا العامة".

أكد: "بصفتي رئيسا، أنشأت بكل فخر فرق عمل للقضاء على التحيز الديني من خلال مكافحة التحيز المعادي للسامية والمسيحية، وأشكال أخرى من التحيز المعادي للدين"، دون ذكر الإسلام.

وسبق في عام 2017 أن ألغى ترامب "تعديل جونسون" الذي قيد حق القساوسة في التعبير عن آرائهم، وهو تعديل قانوني قدمه السناتور الأميركي ليندون جونسون عام 1954.

ثم في عام 2018 أطلق "مبادرة الإيمان والفرص"، التي عززت دور المنظمات الدينية وأكدت أهميتها، كما قرر في العام نفسه التراجع عن سياسة الرئيس السابق باراك أوباما التي منعت تقديم مساعدات الإغاثة من الكوارث للمنظمات الدينية.

وفي عام 2020، أصدر إرشادات جديدة هدفت إلى ضمان حماية الحرية الدينية وحرية التعبير في المدارس العامة.

وسبق أن طلبت "باولا وايت"، كبيرة مستشاري ترامب الدينيين والمشرفة على مكتب الإيمان: في إحدى صلواتها، من الله أن يمنح ترامب "حكمة تفوق الفهم والقدرة البشرية، وأحلاما إلهية".

ودعت إلى "إعادة ضبط روحية في أمتنا، والعودة إلى ما هو صحيح، واحترام ما هو مقدس، والتوافق الحقيقي مع هدفكم الإلهي".

وبعد هجوم صحف أميركية على ترامب، صدرت قرارات بتعيين بعض غير المسيحيين في "لجنة حرية الدين".

وهي تضم 22 عضوا في المجلس الاستشاري الذي يضم قادة دينيين وخبراء قانونيين من مختلف أنحاء البلاد، وسيرأس المجلس دان باتريك نائب حاكم ولاية تكساس.

وكان أشهر المعينين هو الداعية حمزة يوسف، أحد أبرز القادة الدينيين في الولايات المتحدة.

وأشارت اللجنة في بيان إلى أن يوسف اختير على مدى 10 سنوات ضمن "أكثر 500 مسلم تأثيرا في العالم" بصفته "أحد أكثر علماء الإسلام تأثيراً في العالم الغربي".

وعمل "يوسف" لفترة في ولاية ترامب الرئاسية الأولى مستشاراً لحقوق الإنسان في لجنة الحقوق غير القابلة للتصرف التابعة لوزارة الخارجية الأميركية.

وتعرض آنذاك لانتقادات من جمعيات وتيارات إسلامية، رأت أنه "سيكون أداة لتبرير سياسات إدارة الرئيس دونالد ترامب".

علمانية الدستور

يبدو نص الدستور الأميركي كوثيقة علمانية واضحة تبدأ بعبارة "نحن الشعب" ولا تحتوي على أي ذكر لكلمة "الرب" أو "المسيحية".

بل إن الإشارة إلى كلمة "دين" في الدستور استخدمت على نحو معاكس تماما للتأكيد على عدم التمييز بين المواطنين والمواطنات على أساس عقائدهم، حسبما يرى مؤرخون أميركيون.

ونص أول تعديل أدخل على الدستور على أن "الكونجرس لن يقوم بأي حال من الأحوال بتشريع قانون قائم على أساس ديني"، كما تنص الفقرة السادسة من الدستور على أنه "ليس من الوارد إجراء اختبار ديني لأي شخص يرغب في شغل أي وظيفة حكومية".

ولكن حين أشار صحفيون لخرق ترامب الفصل بين الدين والدولة، رد عليهم قائلا في "يوم الصلاة": "يقولون فصل الدين عن الدولة... لكني قلت لهم حسنا.. لننس هذا الأمر ولو لمرة واحدة".

أضاف: "قالوا إن هناك فصلا فعليا، لا أدري، هل هذا أمر جيد أم سيئ؟ لست متأكداً، ولكن سواء وُجد فصل أم لا، فأنتم الآن في البيت الأبيض، حيث يجب أن تكونوا، وتمثلون بلدنا، ونحن نُعيد الدين إلى بلادنا، وهذا أمر كبير".

في كلمته عقب أداء اليمين الدستورية استخدم ترامب جملا ومصطلحات دينية مثل "لقد أنقذني الرب من محاولة اغتيال كي أجعل من أميركا أمة عظيمة"، وخاطب الحضور قائلا: "علينا أن لا ننسى الرب أبدا".

وتشير مجلة "بوليتيكو" الأميركية، مطلع مايو 2025، إلى أنه "عادة ما يتم تفسير حظر الدستور الأميركي لوجود دين وطنى على أنه فصل إلزامى بين الدين والدولة".

لكن، ورغم أن الدستور الأميركي يفصل بين الكنيسة والدولة، وأول شيء يتعلمه طلاب المدارس الأميركية هو أن "الفصل بين الكنيسة والدولة" مبدأ أساسي في الدستور الأميركي، إلا أنه لا يتم فصل الدين عن السياسة الأميركية فعليا.

ومن دلائل تأثير المسيحية في الأميركيين عبارة "أمة واحدة بأمر الرب" الموجودة في قسم الولاء للدولة، وعبارة "نثق في الرب" المنقوشة على عملة الدولار.

لذا تشير دراسات أميركية إلى أن تجربة أميركا تمثل نقيضا للحالة الأوروبية في الفصل التام بين الدولة والكنيسة، حيث يغلب على الشعب الأميركي التدين ولو ظاهريا.

وتشير شبكة "MSNBC" الأميركية، في 20 مايو، إلى أن "لجنة الحريات الدينية الجديدة التي أنشأها دونالد ترامب مليئة بالمتعصبين الذين يستعدون لإنهاء الفصل الدستوري بين الكنيسة والدولة".

وأوضحت أن "الرئيس أمر بتشكيل فرق استشارية من المتعصبين الدينيين المعروفين بقدرتهم على طمس الخط الفاصل بين السياسة والدين".

وكشفت أن اللجنة تضم خليطا من المؤثرين المحافظين والناشطين وقادة دينيين من اليمين المتطرف من مختلف الطوائف، وهم موزعون على ثلاثة مجالس استشارية، رغم قول البيت الأبيض إن مناصبهم "مخصصة للقادة العلمانيين والقادة الدينيين والخبراء القانونيين"!

وقد رصد موقع Baptist News Global، في 15 مايو، أعضاء مجلس الإدارة، وخلص إلى أن "هذه اللجنة قد تم تصميمها أكثر لفرض الالتزام الصارم بالعقائد الدينية اليمينية المتطرفة بدلا من حماية الحريات الدينية".

وقال: إن "هؤلاء لا يبدو أنهم أشخاص تم وضعهم في هذا المكان لدعم الحرية الدينية".

ويضم المجلس الاستشاري للزعماء الدينيين رئيس الأساقفة سالفاتوري كورديليوني، الذي منع رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي من تناول القربان المقدس بسبب دعمها لحقوق الإجهاض. 

والأسقف توماس بابروكي، الذي أيد حظرًا على السيناتور ديك دوربين الديمقراطي عن ولاية إلينوي، من تناول القربان المقدس لأسباب مماثلة.

والأسقف كيفن رودس، الذي ترأس لجنة سعت إلى منع الرئيس السابق جو بايدن من تناول القربان المقدس بسبب دعمه لحقوق الإنجاب.

والناشط الإنجيلي رايان تاكر، المستشار القانوني الأول لتحالف الدفاع عن الحرية، والناشطة المؤيدة لترامب ألفيدا كينغ، التي قللت من أهمية فصل الدين عن الدولة، وأشارت إلى أن الحكم القائم على الدين مُبرر.

وتضم حكومة ترامب العديد من الأعضاء الذين لديهم صلات بالقوميين المسيحيين، بمن فيهم نائب الرئيس جاي دي فانس ووزير الدفاع بيت هيغسيث.

ويقول الدكتور "توبين ميلر شيرر"، أستاذ التاريخ بجامعة مونتانا، في تقرير بمجلة "ذا كونفرزيشن"، 3 يناير/كانون ثان 2024، إن الدين والكنيسة لعبا دورا مهما في الانتخابات الأميركية.

وقال: في سباق عام 2016 أسهم الناخبون الإنجيليون جزئيًا في فوز ترامب؛ حيث أيد أكثر من 55 بالمئة من "رواد الكنيسة الأسبوعيين" ترامب، واستحوذ هو على 66 بالمئة من أصوات الإنجيليين البيض في ترجيح كفته.

وفي تقرير حول "الأبعاد الدينية في معركة الانتخابات الأميركية"، قال الدكتور "كوبي باردا"، وهو باحث إسرائيلي في دراسة الأديان بجامعة حيفا: أن الدين يلعب دورا في الحياة السياسية خاصة معسكر الحزب الجمهوري الذي يؤمن بالانجيلية والصهيونية المسيحية.

وأوضح أن البيض الأنجلوساسكون (البروتستانت الإنجيليين) يعتقدون أنهم مظلومون، فهم أهل البلاد ومؤسسوها، لكنهم تعرضوا للتهميش، وبعد أن كان الرئيس منهم منذ التأسيس، جاء أوباما (الأسود) لدورتين، ثم تلاه الكاثوليكي (بايدن).

وهو ما يعني أنهم مهددون بمزيد من التهميش، ولذلك استخدموا الخطاب الديني (الإنجيلي) في دعم كائن غير متدين، ما يعني أن القضية عرقية أو فئوية، لكنها تلبس ثوب الدين، ومن خلالها تسيطر فئة لها مشروعها (الإنجيليون هنا).

الدين والسياسة “نعم”

ويقول المؤرخ الأميركي "غاري سميث"، في دراسة لأكاديمية "أوكسفورد"، أن "الدستور الأميركي يفصل بين الكنيسة والدولة، لكنه لم يفصل الدين عن السياسة، إذ إن الدين جزء لا يتجزأ من الحياة السياسية الأميركية".

وأوضح أن الفصل بين الدين والسياسة شبه معدوم عمليا في الولايات المتحدة.

وعلى الرغم من حظر "تعديل جونسون" عام 1954، مشاركة الكنائس والمؤسسات الدينية في الأنشطة السياسية أو القيام بحملات انتخابية لمرشحين سياسيين، إلا أنه لم يحظر عليهم المشاركة السياسية بصفتهم ممثلين لأنفسهم وليس لكنائسهم. 

والمثال على ذلك القس الإنجيلي "بيلي غراهام" الذي صبغ كل حروب أميركا- خاصة العراق- بصبغة دينية، وكان يتحدث عن "قوى روحية" في العراق و"بابل" تبرر العدوان وغزو العراق وغيره من الدول الإسلامية.

و"غراهام" ممن طبعوا بصمة واضحة على مسيرة أميركا السياسية، ومن أكثر الشخصيات الدينية الأميركية تأثيرا في القرن العشرين، في الساحة السياسية والدينية.

وحين دعا قضاة وسياسيون لمحاكمة ترامب وعزله، ادعى القس فرانكلين بيلي جراهام (الابن)، أن «القوى الشيطانية تضغط من أجل مساءلة شخص تعتقد نسبة كبيرة من الإنجيليين أنه الرئيس المبارك من الرب"!

وتشير مجلة "ذا بروجريسيف"، أو "التقدم" في 21 مايو، إلى أن قادة الحركة القومية المسيحية في إدارة ترامب يستغلون ما يقوله ترامب بسخرية عن فصل الدين عن الدولة، لمهاجمة الأسس العلمانية للولايات المتحدة. 

وأوضحت أنهم لم يُخفوا أجندتهم التي ظهرت في وثائق "مشروع 2025"، وهو أجندة سياسية تزيد عن 900 صفحة، تتضمن قائمة طويلة من بنود القومية المسيحية الصريحة.

وذكرت أن مشروع 2025، ونائب الرئيس جيه دي فانس، وغيرهما من أصحاب الأيديولوجيات، يدعون إلى تعريف "مستند إلى الكتاب المقدس" للزواج والأسرة، وتفكيك مجتمع الشواذ باسم "الحرية الدينية".

وأشارت دراسة سابقة بمجلة "فورين بوليسي"، 19 مارس/ آذار 2019، إلى أن السياسة الخارجية الأميركية في ظل إدارة ترامب (الأولى)، تتسم بطابع مسيحي أصولي معاد للتعددية الديمقراطية، على خلاف كل عهود الرؤساء السابقين.

وقال الباحث في الأديان والأستاذ بجامعة ساوث فلوريدا كريستوفر ستروب في مقاله: إن "من يرسمون السياسة الخارجية الأميركية هم من الأصوليين المسيحيين الذين يضمرون حقدا دفينا على الإسلام والمسلمين".