شعيرة تحولت إلى قضية سياسية.. لماذا تهتم تركيا بالأذان؟

أنقرة - الاستقلال | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

رأى الصحابي عبد الله بن زيد بن عبد ربه رؤيا الأذان وعندها رواها للرسول صلى الله عليه وسلم قائلا له: "إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألْق عليه ما رأيت فليُؤذن به فإنه أندى صوتا منك".

قول الرسول يؤكد على أن جمال الصوت شرط للأذان في الناس بالصلاة. وما قوله عليه الصلاة والسلام كلما أهمه أمر أو أصابه كرب "أرحنا بها يا بلال" إلا دليل آخر على أن صوت المؤذن ينبغي أن يكون مريحا.

لكن الدنيا قامت ولم تقعد عندما تحدثت الممثلة شيرين رضا في وقت سابق عن توحيد الأذان وانتقدت أصوات بعض المؤذنين الذين لا يبذلون أي مجهود بجعل سماع الأذان شيئا محببا إلى قلوب الناس. الأمر نفسه حصل في المغرب عندما قالت إحدى الوزيرات إن صوت المؤذن في أذان الفجر يزعج السياح غير المتعودين عليه. 

من جهتها لا تعطي تركيا فرصة لأي من هذه التعليقات إذ تشترط أن يتمتع المؤذن بصوت عذب قبل أن يتلقى تكوينا تصل مدته إلى 3 سنوات، لإتقان مقامات أذان الصلوات الخمس، قبل أن يخوضوا مباراة نهائية للتأكد من البحة التي صقلوها على مدار 3 سنوات.

قضية سياسية

"قبابنا خوذاتنا، مآذننا حرابنا، والمصلون جنودنا وهذا الجيش المقدس يحرس ديننا".. هذه الأبيات الشعرية تسببت في سجن رجب طيب أردوغان عام 1998، بتهمة التحريض على الكراهية الدينية، ومنع إثرها من العمل في الوظائف الحكومية والترشيح للانتخابات العامة. 

ما يظهر اهتمام الرجل بالمساجد قبل تولي منصب رئاسة البلاد ليحدث 86 ألف و762 جامعا، منها 3 آلاف و317 في إسطنبول.

ويعتبر الأتراك أن المسجد يبنى أولا ثم تبنى المدينة حوله ليكون في المركز، لكن هذا الاهتمام لا يقتصر على المساجد كمعالم تخلد تاريخ الدولة الإسلامية إذ يتعدى الاهتمام بالمعمار إلى أذان الصلوات التي تؤدى داخل هذه الجوامع. 

لم يستحدث هذا الاهتمام مع تولي حزب العدالة والتنمية للحكم، بل بدأ بعد عام 1950، عندما هاجر عدد من الأتراك إلى العراق وسوريا لتعلم قواعد الأذان وضبط مخارج الحروف، لكن ذلك سبقته صراعات بين الإسلاميين والعلمانيين، حتى تحول الأذان من شعيرة دينية إلى قضية سياسية.  

فقد أمر مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك، بمنع الأذان باللغة العربية، وفي عام 1932 منعت العربية أثناء الصلاة وقراءة القرآن والأذان، وألقي القبض على من أصر على ذلك.

في عام 1950 سمح  رئيس الوزراء الأسبق، عدنان مندريس، بالأذان باللغة العربية مجددا، كما أنهى سياسات عديدة لم تكن مقبولة لدى الشعب التركي.

فقد أعاد مندريس مادة التربية الدينية إلى المناهج التعليمية، بعد منعها بدعوى علمانية المؤسسات التعليمية. وبدأ تدريس مادة التربية الدينية اعتبارا من السنة الرابعة للمرحلة الابتدائية، بشرط أن يطلب ذلك أولياء أمور الطلاب.

وفي 1960 أعلنت لجنة الاتحاد الوطنية، التي تشكلت من 38 جنرالا وضابطا من القوات المسلحة التركية، وضع يدها على السلطة في البلاد، وفي 1961 صدر حكم بإعدامه وسمي ب ـ"شهيد الأذان"

وعن الاهتمام بالأذان كانت مجلة "فورين أفيرز" قد اعتبرت أن تركيا عبر بناء المساجد وتمويل التعليم الديني وترميم التراث العثماني، تروج لنسختها الفريدة من القيادة الإسلامية في خضم ذلك.

وأشارت المجلة إلى أن تركيا ليست القوة الإقليمية الوحيدة التي تستعين بالإسلام لبسط هيمنتها، إذ تنشر كل من إيران والسعودية أيضا نسخا خاصة بهما من الإسلام عبر تمويل المنظمات والمساجد.

لكن تركيا، بحسب التقرير، تحاول تقديم نسختها بوصفها بديلا سنيا أكثر تسامحا، وأقل تطرفا من "الوهابية السعودية"، وبالتالي أكثر ملاءمة للقيادة الإقليمية. 

فلسفة المقامات

يرفع الأذان في تركيا بخمس مقامات مختلفة لكل منها دلالة فلسفية يشرحها الأستاذ بجامعة العلوم الاجتماعية، أنقرة كلية العلوم الإسلامية محمد فاتح كيليتش بالقول: "هذه واحدة من التقاليد المنحدرة من العثمانيين، حيث يستمر هذا التقليد إلى الآن".

ويتابع في حديث لـ"الاستقلال": "لأذان الفجر مقام صبا، وللظهر حجاز، وللعصر مقام رست، وللمغرب سيكا، والعشاء مقام عشاق الحسيني".

ويعتمد اختيار مقام معين في جميع الأوقات على فكرة أن هذه المقامات لها تأثير معين على النفس البشرية، وترتبط هذه الفكرة بالسياق الفلكي الموسيقي.

ويعتقد بعض المفكرين العثمانيين مثل صدف كار محمد آغا أن لكل أذان مقام معين مرتبط به فلكيا، على سبيل المثال ربط مقام رست مع المريخ ومقام حجاز الفلكي هو المشتري، وكل من هذا الأفلاك له تأثير أكبر على الأرض في أوقات معينة من اليوم، فتم تحديد مقامات الأذان وفقا للتأثير الزمني للفلك الذي ينتمي إليه المقام. 

أما أذان الظهر فيؤذن على مقام عشاق بالنظر إلى وقت الظهر الذي دخلت فيه الأرض تحت تأثير المريخ وبالتالي تزداد قوة الدعوة إلى الصلاة على الناس.

وذهب العلماء العثمانيين إلى حد تفاعلات جسم الإنسان، وعن ذلك يقول: إن اختيار المقامات أثرت فيه نظرية الأخلاط -نظام طبي مفصل لتركيب وعمل الجسم البشري- الأربعة في التقاليد الطبية الكلاسيكية.

وبالنسبة إلى هذه النظرية، يتكون جسم الأنسان من الأخلاط الأربعة من الصفراء والصفراء السوداء والدم والبلغم، فالإنسان جسديا وروحيا يعتمد على هذه الأخلاط، ففي أوقات معينة من اليوم تزيد بعض هذه الأخلاط وتقل بعضها، وهذا يخلق مختلف الحالات البدنية والروحية طوال اليوم. 

تؤثر الموسيقى أيضا على هذه الأخلاط وبالتالي فإن المقامات تؤثر على جسم الإنسان والروح. يؤخذ في الاعتبار الوقت من اليوم ووضع الأخلاط الأربعة في جسم الإنسان عند اختيار مقامات الأذان وهكذا يزداد تأثير قوة الأذان على الناس.

خمس دلالات

وعن دلالات كل مقام، أشار الباحثون إلى أذان الفجر على مقام الصبا لما يتميز به من هدوء وخشوع. والظهر حجاز لإيقاعه السريع والحركي الذي يوافق حركة الناس في أسواقهم وأعمالهم. 

وأذان العصر على مقام رست الذي يعبر عن الفخامة والوقار. في عهد الدولة العثمانية كان يستخدم مقام نهاوند في يوم الخميس ليدل على البهجة والسرور باقتراب يوم الجمعة، لذلك سمي "أبو المقامات". 

أما أذان المغرب فجاء على مقام السيكا الذي يتوافق في سرعته وقصره مع طبيعة وقت المغرب السريع والقصير، ويظهر فيه شيء من الندب والشجون، وعندما يتلى به القرآن فإنه يساعد على التفكر والتأمل.

والعشاء على مقام عشاق ويعتقد أن هدوء نغمته يتوافق مع الليل وسكونه كما أنها تساعد الناس في التخفيف عن تعبهم طوال اليوم.

تونس على الخطى

على خطى التجربة التركية خصصت الحكومة التونسية في عام 2018 دورات تكوينية للمؤذنين لتطوير أدائهم ليكون الأذان دعوة للفرح والهدوء النفسي عبر تعلم تقنيات موسيقية تحافظ على هويته التونسية.

التجربة كانت الأولى من نوعها في تونس. وبحسب مصادر صحفية، يولي التونسيون أهمية كبيرة للأذان، إذ حُكم في عام 2017 غيابيا بالسجن لسنة واحدة على منسق موسيقي بريطاني بث الأذان خلال سهرة صاخبة داخل ملهى ليلي في مدينة الحمامات السياحية. 

وهدفت الحكومة التونسية من خلال خطوتها إلى إبراز أصول المدرسة التونسية وهويتها الإسلامية الحقيقية والصحيحة، محاولة التوضيح أن الدين لا يرتبط بالإرهاب.

يتعلم المؤذنون المقامات نفسها إلا أن طريقة الأداء تختلف، فهناك أنغام أطول وأخرى يتم التركيز عليها أكثر في تونس خلافا لما هو موجود في الشرق الأوسط.

 ويعتمد الأذان في تونس على تركيز الصوت أكثر وإبطاء النسق في مقاطع معينة.