معبر مغلق وسمعة مهدورة.. ماذا كسب السيسي من قمع "قافلة الصمود"؟

داود علي | منذ ٤ ساعات

12

طباعة

مشاركة

في لحظة نادرة كان يمكن للقاهرة أن تستعيد فيها شيئا من دورها الإقليمي ورصيدها الأخلاقي المتآكل، اختار نظام عبد الفتاح السيسي أن يدير ظهره لقضية إنسانية عادلة، ويغلق أبواب بلاده في وجه قافلة تضامن سلمية انطلقت نحو معبر رفح لكسر الحصار عن غزة.

فبدلا من استقبال "قافلة الصمود" التي انطلقت من تونس في 12 يونيو/ حزيران 2025، اختارت السلطات المصرية إغلاق الأبواب، ثم أطلقت حملة تشويه إعلامية ضد المشاركين، قبل أن تنتقل إلى إجراءات قمعية.

وتضمنت تلك الإجراءات احتجاز المشاركين في مطار القاهرة، وترحيلا فوريا لحاملي تأشيرات سليمة، وملاحقة بالعصي والبلطجية لمن رفض أن يتراجع عن محاولة الوصول إلى معبر رفح.

وكانت القافلة تضم من 1500 - 2000 شخص من تونس والجزائر والمغرب، وبعض دول العالم، كتركيا وبريطانيا وهولندا وغيرهم، تحركوا بحوالي 350 مركبة و20 حافلة سعيا لكسر الحصار عن القطاع. 

وكان يفترض أن ينضم إليهم عدد آخر كان قادما برا عبر ليبيا لكن سلطات الشرق الليبي برئاسة خليفة حفتر اللواء الانقلابي المدعوم من مصر، منعتهم من ذلك واحتجزت بعضهم قبل الإفراج عنهم وترحيلهم.

ولم يكن أصحاب القافلة مجهولي الهوية ولا منتمين لفصيل مسلح، بل معظمهم سياسيون وناشطون أرادوا إدخال المساعدات إلى غزة.

ومع ذلك، أُعلنت على الشاشات رواية رسمية تزعم أنهم "أداة لإحراج مصر" رغم نفيهم ذلك. وبرزت تساؤلات عن أسباب اختيار النظام الحل الأمني واستخدام يد البطش في التعامل مع القافلة. 

اعتداء وحشي

وقد وثقت مقاطع مصورة جرى تداولها على نطاق واسع، اعتداء مجموعات منظمة من البلطجية، على مرأى ومسمع من قوات الأمن المصرية، بالضرب على الناشطين المشاركين في قافلة الصمود والمطالبين بفتح معبر رفح ورفع الحصار عن غزة. 

وأسفر الاعتداء الأبرز الذي جرى على طريق الإسماعيلية (شرقي مصر، تبعد عن القاهرة 110 كم) عن سقوط عدد من المصابين، بينهم فاروق دينتش، نائب البرلمان التركي عن حزب "هدى بار". 

وقد أعلن الحزب أن حالته مستقرة، محذرا من تعرض بقية الناشطين، وبينهم مواطنون أتراك، لاعتداءات خطيرة تهدد سلامتهم، وداعيا أنقرة إلى تحرك دبلوماسي عاجل لمساءلة القاهرة.

التوتر امتد إلى العاصمة التركية؛ حيث نظم مئات المتظاهرين مساء 14 يونيو وقفة أمام السفارة المصرية في أنقرة للمطالبة بإطلاق سراح المواطنين الأتراك الذين احتجزتهم السلطات المصرية أثناء محاولتهم الانضمام إلى القافلة.

في السياق نفسه، واصلت أجهزة الأمن المصرية سياسة الاحتجاز والترحيل الفوري للرعايا الأجانب. 

فبعد ساعات من توقيف القافلة عند أبواب مدينة سرت الليبية بذريعة انتظار الموافقة الأمنية، أوقفت السلطات مزيدا من المشاركين القادمين جوا إلى مطار القاهرة، ورحلت العشرات منهم، دون مراعاة لحيازتهم تأشيرات دخول سارية.

توقيفات ومصادرات

وذكر بيان صادر عن منظمي القافلة أن أربعين مشاركا أوقفوا على الطريق الصحراوي على بعد 45 كيلومترا شرق القاهرة؛ حيث صودرت جوازات سفرهم ومنعوا من متابعة السير، رغم تأكيدهم التزامهم بالقوانين المصرية.

وكانت الخطة الأصلية تقضي بعبور الحافلات شبه جزيرة سيناء إلى العريش، قبل أن يواصل المتضامنون سيرا على الأقدام لمسافة 50 كيلومترا وصولا إلى الجانب المصري من رفح. 

وقدمت الناشطة التونسية المدافعة عن حقوق الإنسان، نورس الزغبي الدروزي، شهادتها عبر صفحتها بـ "فيسبوك" عن الانتهاكات التي تعرضت لها خلال مشاركتها في "قافلة الصمود".

وقالت: "تعرضنا للضرب، أهنا، ونقلنا كالمجرمات في حافلة حديدية مغلقة، كل ذلك فقط لأننا طالبنا بفتح معبر رفح ورفع الحصار عن غزة".

وتابعت نورس أنه بعد أكثر من ست ساعات من الاحتجاز القسري داخل مديرية أمن القاهرة، في حضور أكثر من 60 ضابطا مصريا بينهم عناصر من فرقة الصاعقة، رفضت برفقة زميلتها تسليم هاتفيهما الشخصيين وطالبتا بحقهما في التواصل مع السفير التونسي. 

لكن أحد كبار الضباط، الذي عرف نفسه بأنه رئيس المنطقة، أبلغهما صراحة بأن "سفير تونس في مصر على علم تام وموافق على احتجازهما"، في تصريح عدته نورس "تبريرا مستفزا للتنكيل".

وأثناء التحقيق، تعرضت نورس ومرافقتها للشتائم والإهانات، ووصفتا بـ"الجواسيس" و"نساء بلا رجال". 

ثم جرى نقلهما في حافلة معدنية ضيقة ومغلقة بالسلاسل إلى مكان يعرف بـ"الحجز"، حيث خيرتا بين البقاء قيد الاحتجاز إلى أجل غير مسمى، أو دفع ثمن تذكرة ترحيل على نفقتهما الخاصة.

تضيف الناشطة: "قبلت أمي دفع ثمن التذكرة حتى يسمحوا لنا بالخروج من ذلك المكان، ونقلنا لاحقا إلى حجز مطار القاهرة؛ حيث كانت المعاملة أهدأ قليلا، وهناك التقيت ببعض رفاقي".

ورغم مشاعر الانكسار، تؤكد نورس أن الناشطين لم يفقدوا عزيمتهم داخل الزنازين المؤقتة، فهتفوا "الحرية لفلسطين" وكتبوا على جدران الحجز عبارة "قافلة الصمود"، كرسالة رمزية لمنع إسكات أصواتهم.

ثم أنهت شهادتها بالقول: "التهمة الوحيدة التي وجهت لي كانت: السفر إلى مصر والإيمان بأن بوصلتي الأخلاقية تشير إلى فلسطين".

رسالة مؤثرة 

وفي مشهد مؤثر تداولته مواقع التواصل الاجتماعي، ظهر ناشط بريطاني وهو يبكي بحرقة أمام عناصر من الجنود المصريين على إحدى بوابات مدينة الإسماعيلية.

وكان الناشط البريطاني يتوسل إلى الجنود، للسماح بمرور "قافلة الصمود" إلى قطاع غزة، حيث تتفاقم الكارثة الإنسانية وسط حرب الإبادة والتجويع التي يتعرض لها الفلسطينيون.

وفي المقطع المصور، خاطب الناشط الجنود المصريين بلهجة تنم عن ألم إنساني صادق، قائلا: "أعتقد أن أبناء الأمة العربية يملكون قلوبا بيضاء، وأنتم رجال طيبون". 

ثم تابع باكيا: "من أجل إسلامكم والحب والإنسانية، قفوا مع شعوبكم"، في محاولة لاستنهاض الضمير الإنساني والقومي أمام مشهد الإبادة الصامتة خلف الجدران الحدودية.

الناشط لم يكتف بالحديث السياسي أو الحقوقي، بل لجأ إلى استدرار المشاعر، مستشهدا بمعاناة النساء في غزة اللواتي لا يجدن ما يُطْعِمن به أطفالهن، ولا حتى حليبا لإرضاعهم.

وإلى جانبه، وقف ناشط آخر متحدثا باللغة العربية، سائلا الجنود بنبرة ممزوجة بالاستنكار: “كيف يقتل الأطفال في غزة ويجوعون؟ وأنتم أصحاب شهامة وشجاعة؟”

وجاءت هذه المشاهد التي انتشرت على نطاق واسع، لتكشف حجم الهوة بين خطاب السلطة الرسمي عن "دعم القضية الفلسطينية" والممارسات الفعلية التي قمعت قافلة إنسانية، وتجاهلت نداءات أصحاب الضمائر الحية من مختلف جنسيات العالم.

مداهمات أمنية

وتفيد بيانات صادرة عن منظمات مغربية وتونسية مشاركة في "قافلة الصمود" بأن سلطات مطار القاهرة أعادت عشرات الناشطين على متن الرحلات ذاتها التي قدموا بها، بينما احتجز آخرون لساعات داخل صالات الترحيل قبل اتخاذ قرار بإبعادهم.

 ولم يقتصر الأمر على المطارات، فبعد ساعات من وصول عدد من المتطوعين الأجانب إلى وسط العاصمة، داهمت قوة أمنية فندقهم وأوقفتهم تمهيدا لترحيلهم، في حين واجه مشاركون آخرون موجة توقيف مماثلة عند بوابات الإسماعيلية في طريقهم إلى سيناء.

هذا النهج دفع أستاذ القانون الدولي ومساعد وزير الخارجية الأسبق، عبد الله الأشعل إلى وصف الموقف المصري بأنه "مرتبك وغير معلن". 

ففي حديثه لوسائل إعلام عدة أشار الأشعل إلى أن القاهرة لم تصدر قرارا رسميا بحظر دخول القافلة، لكنها تعتمد إجراءات ميدانية كفيلة بمنع وصولها فعليا إلى رفح.

ويرى أن الدوافع الأمنية، لا سيما نشاط الجماعات المسلحة في سيناء، تتداخل مع حسابات سياسية تتعلق بالعلاقات مع إسرائيل والولايات المتحدة.

الأشعل شدد على أن السيناريو البديل كان واضحا ومتاحا: السماح للقافلة بالعبور تحت إشراف أمني مصري محكم، ما كان سيعزز صورة القاهرة كوسيط إنساني لا غنى عنه بدل أن تكتسب سمعة "المعطل". 

وحذر من أن أسلوب الترحيل والمضايقة يوفر لإسرائيل مادة دعائية جاهزة لتصوير التضامن مع غزة بصفته "فوضى سياسية" تهدد الاستقرار الإقليمي، بينما تخسر مصر فرصة أخرى لتأكيد دورها القيادي على جبهة إنقاذ المحاصرين.

انتظار مذل

وروى عادل عمار، الناشط الهولندي من أصل مغربي وأحد المشاركين في قافلة الصمود، شهادته لـ "الاستقلال" قائلا: "غادرنا مطار سخيبول في أمستردام يوم 11 يونيو وسط توديع حاشد رفع معنوياتنا، كان الهتاف لفلسطين يملأ الصالة فشعرنا أننا ذاهبون لمهمة كبرى". 

وتابع: "بعد توقف قصير في إسطنبول حطت طائرتنا في القاهرة حوالي الثانية فجرا، ودخلنا دفعة واحدة، فلفتنا أنظار الأمن فورا بسبب تنوع جنسياتنا وملامحنا".

وأكمل: "عند منصة الجوازات بدأ الضباط يطرحون عليّ أسئلة تفصيلية بالعربية، ولاحظت مهارة مسبقة في تمييز لهجتي". 

وأضاف: "سحبوا جوازاتنا وأبقونا واقفين أكثر من ست ساعات بلا طعام أو ماء، ثم وجهنا إلى مكتب إدارة الجوازات قبل أن يطلبوا منا توقيعا روتينيا ويضعونا في طابور الترحيل".

واستطرد: "أثناء ذلك داهم ضباط آخرون مجموعة من رفاقنا داخل المطار لأن إحدى الناشطات رفعت علم فلسطين، فحاصرهم جنود شبان يحملون عصيا وأجبروهم على الجلوس أرضا".

وأوضح: "أدركنا عندها أن الجميع سيرحل، الضابط كان يحصي آخر 23 جوازا، كنا نحن". 

وقال بلهجة حزينة: "دفعونا إلى حافلة مغلقة بالعنف والسباب، ثم إلى الطائرة مباشرة، ولم نستعد جوازاتنا إلا ونحن على مقاعدنا استعدادا للإقلاع".

واختتم الناشط الهولندي حديثه: “هذه المعاملة، من الانتظار المذل إلى العنف البدني وحرماننا من أبسط الحقوق، لم تكن سوى رسالة بأن التضامن السلمي مع غزة يقابل في مصر بالقمع”.

واستدرك: "لكننا، رغم ذلك، لن نتراجع عن المطالبة بفتح معبر رفح وإيصال المساعدات إلى الفلسطينيين".