لماذا تبنى محمد عبده نظرية "المستبد العادل" لحل مشكلات المشرق؟

محمد ثابت | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

رأى في نهاية حياته أن مستبدا عادلا هو الحل لمشكلات المشرق "إنما ينهض بالشرق مستبد عادل"، وهو المستبد الذي يُعرّفه بأنه: "يتمكن به العدل أن يصنع في خمس عشرة سنة ما لا يصنع العقل وحده في خمسة عشر قرناً"، وحدد أول مهام المستبد العادل في "حمل قومه وتدريبهم على طرائق الحكم العصرية والبرلمانية".

تلك كانت أبرز وأشهر مقولات الإمام محمد عبده (1849م – 1905م) في نهاية حياته، أو محمد بن عبده بن حسن خير الله، الذي مرت الذكرى 114 لوفاته أمس الخميس 11 يوليو/تموز.

مهما اختلفت الآراء سلبا وإيجابا حول الإمام الراحل يبقى أن أولى مواجهات الدولة المصرية واستبدادها مع رجال الأزهر بدأت من لديه.

كانت المواجهة الأولى بين السلطة المصرية الغاشمة ورجل الأزهر محمد عبده حينما تم نفي الأخير خارج مصر لقرابة  6 سنوات، بسبب مواقفه ضد الخديوي توفيق آنذاك، ودعوته للتصدي لدخول الإنجليز مصر، ودعمه ثورة الراحل أحمد عرابي، وتوالت المواجهات من بعد محمد عبده بين السلطة والأزهر حتى يومنا هذا.

حلم الإمام

بعد زيادة عن قرن على مقولة محمد عبده عن المستبد العادل ما زالت المقولة تحفز الكثيرين على التصدي لها إما بالموافقة أو المعارضة الشديدة، ومن ذلك ما قاله أحد المعاصرين: "كيف يكون مستبدا وعادلا؟ لكن ما مرت به المجتمعات جعلتها تتمنى وتحلم، كما حلم الشيخ عبده وما نحلم به مستبد عادل خير من ديمقراطية عوراء استبدادية أهلكت الحرث والنسل".

في حين يرد الأديب جبران خليل جبران (1931 – 1883 م): "هل لطاغية أن يحكم الأحرار والأعزة إلا إذا شابَ حريَتهم الاستبداد، وخالط عزتهم العار؟".

وتبقى لمحمد عبده محاولاته للتجديد في الفكر الإسلامي وأن وفاته، ورأيه الأخير في وجوب وجود مستبد عادل، جاءت عقب مواجهة عاصفة مع الخديوي عباس حلمي، وهي المواجهة التي كلفت محمد عبده حياته دون أن يلين.

بعد أن أعاده إلى مصر عيّن حلمي محمد عبده مفتيا للديار المصرية، في أول فصل للمنصب عن شيخ الأزهر، وذلك بمرسوم نصه: "صدر أمر عال من المعية السنية بتاريخ 3 يونيو/حزيران 1899م - 24 محرم 1317 هـ نمرة 2 سايرة، صورته. فضيلة حضرة الشيخ محمد عبده، مفتي الديار المصرية: بناء على ما هو معهود في حضرتكم من العلامية وكمال الدراية، قد وجهنا لعهدكم وظيفة إفتاء الديار المصرية، وأصدرنا أمرنا هذا لفضيلتكم للمعلومية، والقيام بمهام هذه الوظيفة وقد أخطرنا الباشا رئيس مجلس النظار بذلك".

ربما ظن الخديوي الجديد أنه بالمنصب استحوذ على محمد عبده، خاصة عقب مواجهة الأخير العاصفة مع الخديوي توفيق ونفيه من مصر، وهنا رأى الخديوي الجديد ضرورة قبض الثمن بطلب موافقة الإمام على استبدال قطعة أرض خاصة بالأوقاف في موقع مميز بأخرى للخديوي في موقع خامل، ولكن محمد عبده طالب الخديوي بدفع 20 ألف جنيه لوزراة الأوقاف كفارق لسعر قطعتي الأرض.

رفض الخديوي الدفع، فرفض عبده التبديل، فاستشاط الخديوي غضبا، فقد قدّم ما يراه خيرا لمحمد عبده فكيف يرفض طلبه؟ ورأى الأخير أنه يدافع عن حق الأوقاف بالفقراء واليتامى والمعوزين الذين تنفق عليهم الوزارة.

وفي رد فعل مندفع من الخديوي أحضر محمد عبده على مرأى ومسمع من الحاشية وعلية القوم لديه، فجهز محمد عبده الأوراق التي تفيد بفارق السعر بين قطعتي الأرض، لكن الخديوي عباس حلمي اندفع قائلا: "ما بال بعض الفلاحين يدخلون علينا، فلا يكفيهم هذا الشرف، لكنهم يريدون أن يعلموننا ماذا نفعل وما ينبغي ألا نفعل؟!"

ولأن محمد عبده لم يعتد على هذه اللغة، فآثر وفضل مغادرة المجلس وفي نفسه جرح غائر من قول حلمي، ولم يمض وقت كثير حتى أصيب الراحل بسرطان في الفم ألهبه واستشرى في جسده، ولأن العلاج لم يكن ميسورا في مصر فطالبه بعض العلماء بكتابة التماس للخديوي للعلاج في الخارج فرفض الإمام وأصر على الرفض.

ويروى أن محمد عبده كان يتحدث بصعوبة حتى جاء يوم 8 من جمادى الأولى 1323 هـ الموافق 11 من يوليو/تموز 1905م، فبلغ المرض منه مداه ليلفظ أنفاسه وكان آخر ما نطق به: "الله أكبر".

إصلاح وتشكيك

ولد الراحل في قرية محلة نصر بمركز شبراخيت في محافظة البحيرة عام 1849م، وتلقى التعليم المعتاد في القرية، وحفظ القرآن الكريم، ثم انتقل إلى الجامع الأحمدي في طنطا قبل أن تعرف أقدامه الطريق إلى الأزهر، وهناك تعرف على الإصلاحي جمال الدين الأفغاني منذ عام 1871م، ليتتلمذ على يديه ثم تتحول العلاقة بينهما إلى صداقة وطيدة قبل أن يتخرج محمد عبده من الأزهر عام 1877م، ويعين مدرسا للتاريخ في مدرسة دار العلوم آنذاك.

الفترة التي نشأ فيها محمد عبده كانت فترة تحولات وأسئلة كبرى حول الأثر الذي تركه حاكم مصر محمد علي في محاولة تحديث مصر من ناحية، ووقوع عدد من الدول الإسلامية تحت نير الاحتلال من ناحية أخرى.

فقبل ولادة محمد عبده بتسع سنوات وقّعت بريطانيا وروسيا وبيلاروسيا والنمسا والدولة العثمانية على "اتفاقية لندن"، وبموجبها تم فصل مصر عن الشام، وكانت الأخيرتان تعدان وحدة إدارية واحدة في عهود كثيرة، هذا قبل أن تقع مصر فريسة للاحتلال الإنجليزي، ما مثّل ألما وحدثا مهما في حياة محمد عبده.

كانت من الأسئلة المريرة لدى عبده: كيفية الخروج من تخلف الأمة، وماذا عن علاقتها بالغرب؟ وكيف يمكن الموازنة بين الدين والسياسة؟ ومن هنا بدأت رحلة الراحل مع محاولة الإصلاح.

مع تولي الخديوي توفيق حكم مصر، تم تعيين رياض باشا لرئاسة النظار (رئيس الوزراء)، فاختار الأخير محمد عبده لإصلاح جريدة الوقائع المصرية، الجريدة الرسمية، وبدوره اختار محمد عبده أعيان عصره ليعاونوه على أداء المهمة من مثل: سعد زغلول، إبراهيم الهلباوي، محمد خليل وغيرهم.

أنشأ محمد عبده في الوقائع قسما للمواد الصحفية غير الرسمية المعتادة في الجريدة، ورأى أنه بذلك يبدأ مسيرته الإصلاحية من حيث أتاح له نظام الخديوي توفيق إصلاح الجريدة الرسمية للدولة، فتولى عبده تحرير المقالات الإصلاحية الأدبية الاجتماعية التي ينشرها القسم غير الرسمي بنفسه.

وعلى مدار عام ونصف العام استطاع الإمام جعل الجريدة الرسمية منبرا إصلاحيا في الحد المسموح للجريدة التحرك فيه ومخاطبة المثقفين والواعين من أبناء الشعب المصري.

تنبه محمد عبده آنذاك لوجود فريقين إصلاحيين في مصر، فانحاز للأول الذي يرى ضرورة أن يبدأ الإصلاح الحقيقي من نشر التعليم على نحو صحيح، ثم التدرج في الحكم النيابي، وكان معه في هذا التيار الزعيم سعد زغلول، أما التيار الآخر فكان يمثله مجموعة من المثقفين المتعلمين في أوروبا الذين يرون التأسي بالنموذج الغربي هو الحل وأن محمد عبده ورفاقه رجعيون. 

عندما قامت الثورة العرابية عام 1883م ومع مخالفتها لمذهب الإمام في التغيير التدريجي إلا أنه آثر الإنضمام إليها، رغم خلافه معها الذي قال عنه الأديب إبراهيم عبد القادر المازني (1890ـ 1949م) في مقاله "الثورة العرابية على ذكر الإمام الأستاذ محمد عبده" في ملحق جريدة "السياسة" في 19 من مارس/أذار 1932م.

المازني قال في مقالته: "ولم يكن هناك خلاف في الغاية، وإنما كان الخلاف على الوسائل، فكان عرابي وزملاؤه يلهجون بالاستبداد والحرية والحكومات المطلقة والدستورية، وينادون بأن إنشاء حكومة مقيدة قد آن في مصر أوانه، ويسعون لذلك بقوة الجيش، وكان الأستاذ الإمام (محمد عبده) يُعارض في ذلك ويقول إن تربية الأمة أول ما يجب البدء به لإخراج رجال قادرين على الاضطلاع بأعباء الحكومة النيابية".

النهج الثوري

ذهب محمد عبده مع الوطنيين وأعيان وعلماء الأزهر، رغم خلافه في أهمية النهج الثوري لمعالجة أزمة مصر آنذاك، ربما في محاولة منه للخروج من الواقع المرير، وبعد فشل الثورة سجن الإمام لثلاثة أشهر، ثم حكم عليه بالنفي 3 سنوات.

 بدأ نفي الإمام في بيروت عام 1883م، ومن هناك كتب إليه الأفغاني من فرنسا ليأسسا مجلة "العروة الوثقى" بعد وصول الإمام لباريس في عام 1884م، وكانت الصحيفة تنادي برابطة إسلامية يتعاون من خلالها كل المسلمين لطرد الاحتلال من بلادهم.

أزعجت المجلة الإنجليز والفرنسيين، وكانت مقالات محمد عبده تتسم بالقوة والدعوة لمناهضة الاحتلال بكل صوره وأشكاله، إذ قادت النزعة الثورية الراحل لأبعد مدى، رغم رؤيته المختلفة عنها من قبل، لكن الإنجليز نجحوا في غلقها بعد 8 أشهر فحسب من صدورها.

بعض المتابعين لتلك الفترة يرون أن الإمام لم ينجح في دعم أي مشروع لطرد الاحتلال، وبذلك يفسرون تركه باريس في نهاية 1884م، وعدم استقراره في تونس من بعدها ثم عودته إلى بيروت عام 1885م، فقد فشلت الثورة العرابية وتعثرت "العروة الوثقى" وتهاوت أحلام ورؤية محمد عبده الثورية المجاهرة بعداوة النظام والإنجليز، ورحل الأفغاني إلى إيران.

شغل محمد عبده آنذاك بعيدا عن السياسة بشرح "نهج البلاغة" ومقامات "بديع الدين الهمذاني"، وتدريس تفسير "القرآن الكريم" في طرف من مساجد بيروت، ثم شارك في إصلاح "المدرسة السلطانية" ودرّس فيها، كما كتب في جريدة "ثمرات الفنون" مقالات تشبه مقالاته في "الوقائع المصرية" في فترة الإصلاح الأولى التي لم تكن تحتوي مواجهة مع السلطة.

طالت فترة نفي محمد عبده لست سنوات، ومع تعدد جهود العفو عنه استطاع العودة لمصر في عام 1889م، ورأى المعتمد البريطاني إمكانية التفاهم مع محمد عبده، وبالفعل أصبح الأخير أقرب للإنجليز من الخديوي ومن النخبة العثمانية المعتادة، وقيل إنه تخلى عن مشروعه الإصلاحي مناديا بإصلاح التعليم أولا.

رأى آخرون أن محمد عبده كان يهدف لإصلاح العقيدة أولا، ومن ثم المؤسسات كالأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية، ومن أجل ذلك سالم الخديوي، واستعان بالإنجليز لأنهم القوة الحاكمة في مصر بالفعل، وهو التوجه الأصيل للراحل قبل أحداث "ثورة عرابي"، ولذلك ذهب البعض إلى أن الراحل لم يهادن أي الطرفين (الخديوي والإنجليز)، بدليل رفضهما معا أن يكون ناظرا لدار العلوم كما أراد أو حتى معلما فيها، وتعيينه قاضيا عام 1892م.

وفاة الخديوي توفيق في نفس العام ووصول عباس حلمي لحكم مصر، وحماسة الأخير لتحرير مصر، ثبّتا مسار محمد عبده الإصلاحي، واستطاع الأخير إقناع توفيق بخطة لإصلاح الأزهر.

شارك محمد عبده في مجلس إدارة الأزهر بناء على الخطة، ثم تم تعيينه مفتيا للبلاد، لكن هجمة شرسة شنت ضده من معارضيه والصحف بالإضافة لخلافه مع الخديوي كل هذا تسبب في مرضه ثم وفاته بعد استقالته من الأزهر، ولم يكن عمره آنذاك تجاوز 56 عاما.