كيف تستغل الصين التكنولوجيا في قمع مسلمي الأويجور؟

إبراهيم عبدالله | منذ ٦ أعوام

12

طباعة

مشاركة

كانت البداية عندما شرعت الحكومة الصينية مطلع 2012 ببناء شبكات هواتف تحوي تقنية الثري جي، الأمر الذي مكن الأقلية الإويجورية في مقاطعة سنجان بالصين من اقتناء هواتف ذكية واستخدام الإنترنت بكثافة.

عبر هذا الوسيط الإلكتروني بدأ الإويجور في التعرف على تراثهم الديني فيما يمكن وصفه بموجة "تدين إلكتروني" مثل أكبر تجلياتها الرسائل الدينية المسموعة عبر تطبيق الوي شات ومشاركة صور الشعائر الإسلامية بين المجموعات.

هذه الموجة الإلكترونية تلتها موجة واقعية بلغت ذروتها عام 2014 بامتلاء ساحات المساجد في مدن أورومشي وكشغر بمئات المصلين المتعطشين لأداء شعائرهم الدينية، وهو الأمر الذي أدى لدق نواقيس الخطر لدى السلطات في بكين مما أسموه موجة "الطلبنة" للإويجور.

وكما كانت البداية عبر التقنية جاءت بدايات النهاية التي خططت لها سلطات بكين عبر استهداف المنظومات الإلكترونية بسلسة إجراءات صادمة، بدأت باجتذاب شركات صينية تقنية للدخول في مجال الرصد والمتابعة الإلكترونية المكثفة.

ووصل عدد الشركات العاملة في هذا المجال عام 2019 لأكثر من 1400 شركة في مقاطعة سنجان وحدها، وتشمل أعمال هذه الشركات تطوير برمجيات لتحليل الأصوات وإدارة نقاط التفتيش الإلكترونية حيث يتم إجراء مسوحات عشوائية لهواتف الإويجور والكازاخ، عدا عمليات أرشفة المعلومات الشخصية بأخذ عينات الدم والحامض النووي "دي إن إيه" وتسجيل بصمة الصوت لأكثر من 36 مليون من قاطني مقاطعة تشنجان وما جاورها.

لم تتوقف إجراءات "الأخ الأكبر" الصيني عند هذا بل امتدت كما يؤكد الباحث المتخصص في شئون الإويجور د.دارين بيلر لتعبئة استمارات تحوي 100 نقطة تتناقص في حال قام الشخص محل البحث بأعمال "غير صينية" كأداء الصلاة أو ارتداء الحجاب أو حتى تعلم اللغة العربية أو الامتناع عن مشاهدة التلفزيون المحلي.

صراع حتمي

الضخ الإعلامي الغربي الملحوظ في أزمة الإويجور في الأعوام الأخيرة والذي يبدو أنه يتأثر بأجواء علاقات واشنطن وبكين عاد للاشتعال في ظل تأزم العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، والتي ظهرت في شكل فرض مزيد من الرسوم الجمركية على صادرات الصين للولايات المتحدة وفرض عقوبات على عملاق الاتصالات الصيني (هواوي) والذي تتهمه واشنطن بالتجسس على العملاء.

فالشبهات التي تحوم حول الشركة الصينية بالاتصال الوثيق بمجهز الشبكة قد لا تختلف من حيث الحجم بالاتصال بالمخابرات الصينية، وهو ما تنفيه الشركة على لسان رين تشينغ، الرئيس التنفيذي لهواوي مؤكدا أمام صحفيين أمريكيين أن الحكومة الصينية لم تطلب من شركته العملاقة يوماً "الحصول على معلومات مخالفة للقوانين".

أضف لذلك الروح الجديدة التي بعثتها إصلاحات الرئيس (تشي) والتي تسمح له بالبقاء على سدة الحزب الشيوعي لفترات طويلة ونيته بناء صين جديدة أقل فساداً وأقوى اقتصاداً وأكثر اتصالا مع محيطها القريب والبعيد.

هذا عدا مشاريع التسلح الكبيرة لكل من البحرية والجيش الشعبي والتي من المفترض أن تنتهي بحلول عام 2030، هذه المشاريع نقلت الصين من بناء الجزر الإصطناعية في بحر الصين الجنوبي إلى الشروع في بناء حاملة طائرات ثالثة في مدة قياسية، بوادر كلها توصل لحتمية الصراع المباشر بين الصين والولايات المتحدة في الفترة القادمة.

وإذا كان التاريخ يروي كيف قاد تحالف عضو الكونجرس تشارلي ولسون مع مستشار الأمن القومي زيبغينو بيرجنسكي إلى بعث الروح في مشروع "المجاهدين" الأفغان لحرب الدب الروسي مطلع الثمانينات، فإن أيامنا الحالية قد تنتظر صقراً أمريكياً جديداً يأخذ راية الحرب على "إمبراطورية الشر" الصينية وحكومتها "الملحدة".

فهل يتصدر جون بولتون أو مايك بومبيو للمهمة التي يبدو أنها ستكون أصعب بمراحل لوجود العديد من المصالح الأمريكية المباشرة في الصين وحيازة بنوك الصين ومؤسساتها المالية لنسبة كبيرة من سندات الخزينة الأمريكية.

شكل الصراع المتوقع ربما يكون أصغر من "الحرب الشاملة" وأشبه بدعم "حرب عصابات" تحمل طابع التنغيص المستمر للصين والحد من النجاح الكامل لمشروعها في الهيمنة على جيرانها عبر مشاريع الحزام والطريق.

حلم الاستقلال

عرقياً يعتبر الإويجور والكازاخ أحد 56 قومية معترف بها من قبل الحكومة، والإويجور هم أقرب للأتراك منهم لأغلبية (الهان) العرقية، ورغم أنهم لا يشكلون سوى نصف عدد مسلمي الصين البالغ تعدادهم 21 مليون صيني (تشكل البقية أقلية الهوي المندمجة بنجاح مع الثقافة الصينية)، إلا أنهم يختلفون عن عموم مواطني الصين في كل شيء، اللغة والثقافة والفن والطعام وحتى المظهر الخارجي هو أقرب للشعوب التركية في أواسط آسيا منه لسكان شرق وجنوب الصين.

موطن الإويجور في مقاطعة سنجان والتي تعني حرفياً (الحدود الجديدة) لم يكن على الدوام أرضاً صينية، حيث شهدت ثلاثينيات القرن الماضي وتحديداً عام 1930 نشوء (الجمهورية الإسلامية لتركستان الشرقية) وعاصمتها كشغر والتي تم إلغاؤها بعد عام واحد فقط.

وحاول السوفييت بعد عقد من سقوط الجمهورية السابقة بدعم محاولة جديدة لإنشاء (جمهورية تركستان الشرقية) والتي تم ضمها للصين فيما بعد عقب سحب الدعم السوفييتي لها عندما سيطر ماو ورفاقه على الحكم عام 1949.

ويرى المتخصص في الشأن الصيني د.شين روبرتس بأن إشكالية الإويجور هي نموذج كلاسيكي للاستعمار من قبل حكومة أجنبية ورفضها المستمر للتسليم بأحقية أهل المنطقة بأرضهم ومواردهم مع تشجيع الهجرات من قبل الأغلبية الهان لدرجة انخفضت فيها نسبة الإويجور في إجمالي سكان المقاطعة من 80% عام 1945 إلى 46% عام 2008. هذا الإنخفاض تبعه حرمان الإويجور من الوظائف العمومية وفرص التطور الاقتصادي.

مصانع أو مستودعات

في صحراء الصين الشرقية مجمعات ضخمة بدأت في البزوغ مطلع عام 2017، تبدو لمتتبعيها من الفضاء وكأنها مصانع أو مستودعات أو حتى مدارس، هذه المجمعات التي تضم في داخلها أكثر من مليون من أقليات الإويجور والكازاخ المسلمين أثارت غضب العالم وفضوله في آن واحد.

المثير في تجربة المعسكرات الصينية الجديدة أنها تكرار كامل لتجارب سابقة في محاولات حل مشاكل متوهمة بحلول جذرية، فالمشكلة اليهودية التي تخيلها أدولف هتلر ونخبته القيادية في الحزب النازي، الأمر ذاته يبدو أنه يتكرر في الحالة الصينية، وإن غابت عنه الأفران إلى حين.

حملة هتلر ارتكزت حول دور هذه الأقلية المبالغ فيه في هزيمة ألمانيا وفي التضخم المالي الذي فرضته تبعات الحرب العالمية الأولى على البلاد، ما أدى بهذه النخبة إلى التوجه لـ "الحل النهائي" للمشكلة اليهودية متمثلاً في معسكرات الاعتقال بأوشويتز وأخواتها وما تلاها من أعمال شاقة بنظام السخرة وإعدامات جماعية بغرف الغاز.

بدورها تصف الحكومة الصينية هذه المجمعات الضخمة بأنها مراكز "إعادة تعليم" للأقليات الإويجورية والكازاخية والتي تم التأثير عليها من الخارج وغسيل أدمغتها جماعياً بأفكار "متطرفة" جنحت ببعض أفرادها لتبني العنف ضد الدولة.

أعداد مهولة تضمها هذه المجمعات تترواح ما بين 800 ألف في أقل التقديرات وصولاً إلى 2 مليون في تقديرات أخرى يعاني نزلاؤها من غياب المحاكمات والاتهام الفضفاض بـ "الولاء المزدوج"، والخضوع لبرامج هستيرية تتمثل في الغناء المتواصل بمآثر الزعيم (تشي) وحلقات النقاش المتواصلة لمقررات الحزب الشيوعي الصيني.

الثروات والحزام

ويرجع الباحثون اهتمام الحكومة الصينية بالمنطقة وسعيها الدائم لضمها رغم محاولات الاستقلال إلى تركز كميات كبيرة من الثروات الطبيعية في باطنها، فسنجان تحتوي على 40% من احتياطي الفحم المستخدم على نطاق واسع لتوليد الطاقة في الصين.

كما أن حقول نفطها تضم 20% من الاحتياطي المكتشف حتى الآن، وحتى في مجال الطاقة النظيفة -التي تتوجه لها الصين بقوة- تحوي صحاريها الشاسعة (1.5 مليون كم مربع) على 20% من إجمالي توربينات طاقة الرياح التي تنتجها الصين.

سوء الحظ الذي هبط على تشنجان ربما يعزى إلى موقعها الذي يشكل مفصلاً مهماً في مشروع (الطريق والحزام) الصيني للقرن الجديد، وتنظر بكين لاستقرار المقاطعة كدعامة ضرورية لانطلاق المشروع واستمراريته، ومن شأن أي اضطرابات في المنطقة إعاقة وصول المنتجات الصينية إلى منتهاها في الأسواق الأوروبية عبر الطريق البري المزمع تنفيذه.

ويعزو كثير من المتابعين الصمت الذي يلف موقف كازاخستان من الاضطهاد الذي يواجهه مواطنوها (الذين يحملون الجنسية الكازاخية والصينية) والذين ألقي البعض منهم في معسكرات إعادة التعليم بسنجان دون أن توجه أستانا أي اعتراضات تجاه ذلك، إلى الاستثمارات الضخمة التي تقدمها الصين لكازخستان في مجال بناء الطرق واستكمال البنى التحتية في أجزائها الشرقية المتاخمة لها.

توترات دامية

لم تخلو الـ 70 عاماً التي عاشتها تشنجان في إطار الانتماء للصين من توترات دامية على شكل موجات عنف لا تلبث أن تنحسر، وكان الفارق في أحداث ثمانينات القرن الماضي وجود النهايات السعيدة التي مثّلها سقوط الاتحاد السوفيتي واستقلال جمهوريات الجوار التي أوحت للإويجور باحتمال تكرار التجربة دون أن يتمكنوا في نهاية المطاف من ذلك.

شهد عام 2009 اضطرابات دموية عنيفة شملت حرق مقار للشرطة واعتداءات متبادلة، صنفت فيما بعد بأنها عرقية (بين الإويجور والهان) وليست دينية الطابع.

على أن الأحداث انعطفت بشدة مع تصاعد حدة القتال في سوريا وتوافد أعداد غير قليلة من المتطوعين الإويجور للمشاركة في فعالياته في أعقاب حملة حكومية للسماح للإويجور باستصدار جوازات سفر عام 2014.

وبلغت الاضطرابات ذروتها باعتبار الحكومة الصينية عام 2016 الاعتزاز بالهوية الإويجورية "فيروساً يضر بالمجتمع الصيني المتجانس" واستخدام مسمى (تركستان الشرقية) للإشارة لسنجان تهمة تستحق المحاكمة.

وقادت المسوحات الإلكترونية التي تم إجراؤها على هواتف الإويجور من سكان سنجان إلى قناعة باستفحال المشكلة وعدم إمكانية حلها دون اللجوء لإجراءات عقابية شاملة كانت أبرزها المعسكرات التي شرع في بنائها عام 2017.

كل شيء في سنجان يوحي بانفجار حتمي قريب، هذا الإنفجار سبقته موجات هجرة من المقاطعة للدول المجاورة والتي بدأت عام 2017، ثم تسرب النخب المتعلمة من الإويجور لإسطنبول وواشنطن وعدد من العواصم الغربية مشكلين طلائع التجمعات السياسية المعارضة للنظام، وتم إبلاغ العديد منهم بأن من تبقى من عوائلهم هم في عداد الرهائن الذين تم اعتقالهم ونقلهم للمعسكرات كذلك.

الانفجار قد يتشكل على موجة تمرد وعصيان مسلحة بطابع قومي أو ديني، وكان قد سبق لثمانية أفراد من عائلة واحدة من الإويجور القيام بعملية دهس لعدد من المواطنين الصينيين في ساحة عامة ببكين عام 2013 نتج عنها مقتل 5 من المارة وانتهت بإعدام الثمانية.

ويبقى السؤال هل سيحظى تمرد كهذا، في حال اندلاعه، على دعم غربي لتحويله لحرب استنزاف طويلة الأمد للصين؟

أضلاع المثلث

ولمقاربة الأوضاع في سنجان بتجربة أفغانستان في الثمانينات من حيث تمكن المعسكر الغربي وفي القلب منه حلف الناتو في تشكيل "الفخ" الاستنزافي للتنين الصيني الصاعد يصر إستراتيجيون على ضرورة توفر أضلاع مثلث الحريق المثالي:  تكوينات محلية مسلحة - دولة إسناد مجاورة - دعاية وتحشيد خارجية واسعة.

ورغم أن الظروف لم تتهيأ بالكامل حتى الآن، إلا أن بوادرها تبدو جلية في الأفق فالتكوينات السياسية للإويجور تنشط بشكل كبير في العاصمة الأمريكية واشنطون وفي مدينة اسطنبول القريبة نسبيا من نطاق الصراع، والتي تشترك مع الإويجور في الهوية اللغوية والإثنية.

أما المنظمات المسلحة، فيعيبها غربياً، تماثلها الكبير مع أطروحات جماعات التطرف العنيف، والتي قد تمنع تبنيها الصريح من قبل المنظومة الغربية كطرف في الصراع الإستراتيجي مع (الصديق اللدود) الصيني.

فعلى عكس مجاميع "المجاهدين" الأفغان في الثمانيات والذين استقبلوا بحفاوة من قبل الرئيس الأمريكي الأسبق ريجان وسمح لهم بالتجول في طول أمريكا وعرضها بغرض الدعاية وجمع الأموال، لا يمكن تصور فتح واشنطن المجال لمنظمات من قبيل (الحركة الإسلامية في تركستان الشرقية) أو (مجموعة عبد الحق) واللتان تنشطان في الشريط القبلي المشترك بين باكستان وأفغانستان واللذان شكلا تهديدهما لفعاليات أولمبياد بكين عام 2008 خطراً أخذته الصين في وقتها على محمل الجد.

ويبدو أن بكين قد فطنت لمحاولات واشنطن الحثيثة في نسج علاقات مع محيطها الحيوي عبر الزيارات والترحيب التي قام بها الرئيسان الأسبقان جورج بوش لمنغوليا وباراك أوباما لماينمار، فاستقبته بحوافز اقتصادية ضخمة تتضمن قروضا وهبات لبناء طرق سريعة وشبكات قطارات وموانئ بتسهيلات كبيرة.

وتبقى الدعاية والتحشيد سهم واشنطن الذهبي في توجيه أنظار الناشطين وحركات الإسلام السياسي للترويج لقضية الإويجور على نطاق واسع وبدء حملات التبرع للمستضعفين في (تركستان) وهو الأمر الذي تدل التجارب أنه لا ينتهي دوماً حسب ما تشتهيه واشنطن.