الخوف من تركيا يقرب المسافات بين اليونان وإسرائيل وقبرص الرومية.. كيف؟

"لا يقتصر المشروع على شراء منظومات دفاعية جديدة فقط، بل يشمل إعادة هندسة شبكة الدفاع الجوي على امتداد خط واسع"
بصورة لافتة، يجعل التقدم السريع في الصناعات الدفاعية، تركيا، القوة العسكرية الأكثر تأثيرا في شرق البحر المتوسط. بحسب صحيفة "يني شفق" التركية.
وهذا الأمر يدفع اليونان والكيان الإسرائيلي وقبرص الرومية إلى تعزيز تعاونهما، وإطلاق مشروع “درع أخيل” لتحديث منظومات الدفاع الجوي لمواجهة القدرات التركية.
قوة متصاعدة
وفي مقال للكاتب التركي "بولانت أوراك أوغلو"، ذكرت الصحيفة أن تركيا أعادت تشكيل هيكلية قدرتها الدفاعية الوطنية.
فلم تعد التطورات مقتصرة على إدخال منصات جديدة إلى الجيوش، بل شملت بناء سلسلة إنتاجية وتصميمية متكاملة، تضم البحث والتطوير والتصنيع والاختبار والتصدير.
وهذا التكامل الصناعي منح أنقرة قدرة على خفض الاعتماد الخارجي، وتسريع دورات الابتكار، والاحتفاظ بحرية مناورة سياسية وعسكرية أكبر عند اتخاذ قرارات النشر والتسليح.
ووجود منصات محلية متقدمة؛ مثل الطائرات المسيّرة المتحوّلة من أدوات استطلاع إلى أنظمة هجومية دقيقة، وأنظمة دفاع جوي مؤسسية، ومقاتلة وطنية قادرة على أداء مهام متقدمة، وسفن بحرية مصممة لعمليات متعددة الأدوار، لم ينجز فقط كفاءة تشغيلية جديدة بل أعاد تعريف مفهوم الردع في سياق شرق المتوسط.
وهذا التقدم التقني والإنتاجي أثر مباشرة في معادلات التخطيط الدفاعي لدى الخصوم، فمستوى التهديد صار أكثر استدامة وأقل عرضة للقيود السياسية المفروضة على مورّد خارجي.
لذا فإن أثينا وتل أبيب، اللتين اعتادتا في مراحل سابقة على هيمنة نسبية لتوازن القوة أو على تقاسم موارد تكنولوجية محددة بين قوى دولية، باتتا أمام واقع جديد.
يتطلب أدوات ومقاربات مختلفة، تبدأ من إعادة تقييم المخاطر وتمتد إلى إعادة التفكير في الاستثمارات في الصناعات المحلية والنواظم القتالية الشبكية.
فقد أدركتا أن تركيا لم تصبح مجرد قوة عسكرية إقليمية أقوى، بل باتت نموذجا لبلد قادر على تحويل التقدم التقني إلى استقلالية إستراتيجية.

التقارب اليوناني الإسرائيلي
وأثارت خطوات تركيا في مجال الصناعات الدفاعية حالة من الذعر في خطة تحالف الثلاثي اليونان–قبرص الرومية–إسرائيل في تل أبيب.
وفي ظل التحوّل الكبير الذي أحدثته القدرات الدفاعية التركية في موازين القوى الإقليمية، اندفعت اليونان نحو تعزيز تعاونها العسكري مع إسرائيل بوتيرة غير مسبوقة، في محاولة لإعادة بناء مظلة دفاعية قادرة على مواجهة ما تعده تحديا متسارعا.
فقد أعلنت أثينا عن مشروع “درع أخيل”، الذي يُعد واحدا من أكبر برامج التحديث العسكري في تاريخها الحديث، بميزانية تصل إلى ثلاثة مليارات يورو؛ حيث يستهدف إعادة صياغة النظام الدفاعي الجوي للبلاد من الأساس.
ولا يقتصر المشروع على شراء منظومات جديدة فقط، بل يشمل إعادة هندسة شبكة الدفاع الجوي على امتداد خط واسع يمتد من تراقيا الغربية إلى الجزر المنتشرة في شرق بحر إيجة، وهي مناطق ذات حساسية إستراتيجية عالية في الحسابات اليونانية– التركية.
وفي إطار هذا البرنامج، تخلت أثينا عن مجموعات من الأنظمة الروسية والأميركية القديمة لتعوضها بمنظومات إسرائيلية أحدث وأكثر مرونة.
ورغم أن هذا التغيير يعكس سعيا تقنيا لتحسين الأداء، إلا أن توقيته وطبيعته يوحيان بأن الخطوة تتجاوز البعد العسكري البحت؛ إذ فسرت الصحافة الإسرائيلية هذا التحول بوصفه ردا مباشرا على التصاعد المستمر في قوة الصناعات الدفاعية التركية، التي باتت تنتج منصات قادرة على تغيير قواعد الاشتباك في المنطقة.
وبالتوازي مع التحديثات التقنية، تحوّلت المناورات المشتركة بين إسرائيل واليونان إلى عنصر ثابت في العلاقة بين البلدين؛ حيث تطورت من تدريبات روتينية إلى تعاون عملياتي يحمل رسائل سياسية وعسكرية واضحة لأنقرة.
فمشاركة طائرات تزويد الوقود الإسرائيلية في دعم المقاتلات اليونانية، على سبيل المثال، لا يُنظر إليه كمجرد تدريب، بل كرسالة بأن تل أبيب مستعدة للعب دور مباشر في دعم أثينا في حال تصاعد التوترات.
مع ذلك، يرى عدد من المحللين أن هذا التحالف، رغم ضخامته وحجمه المالي، يظل محدود التأثير عند مقارنته بالنموذج التركي.
فبينما تعتمد اليونان وإسرائيل في جانب كبير من تعاونهما على استيراد أنظمة جاهزة، تواصل تركيا تعزيز قدرتها على الإنتاج المحلي ضمن دورة صناعية متكاملة، تشمل التصميم والتطوير والتصنيع والاختبار.
وهذا الفارق البنيوي يعني أن التحالف اليوناني–الإسرائيلي يوفر دفعة دفاعية قصيرة إلى متوسطة الأمد.
لكنه لا يشكل تحولا إستراتيجيا طويل الأمد في مواجهة قوة تنمو من داخلها مثل القوة التركية، التي تمتلك القدرة على تحديث أنظمتها وإنتاج أجيال جديدة منها بوتيرة مستقلة وغير مقيدة بعوامل سياسية أو خارجية.
ويمثل التقارب اليوناني– الإسرائيلي ردة فعل منطقية أمام تهديد متنامٍ، لكنه تحرك تكميلي، لا بد من أن يصاحبه استثمار طويل الأجل في البحث والتطوير الوطني، وإعادة بناء سلاسل الإمداد المحلية، وذلك إذا كانت أثينا تطمح إلى تحويل هذا التقارب إلى عنصر تغيير إستراتيجي دائم.

موازين القوى
وشدد الكاتب التركي على أن البعد العسكري يتشابك مع المشهد السياسي في شرق المتوسط بشكل وثيق؛ إذ فجّرت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الداعية إلى اعتماد حل الدولتين في قبرص، موجة من ردود الفعل الحادة لدى الجانب القبرصي الرومي.
فقد سارع نيكوس خريستودوليديس زعيم الإدارة القبرصية الرومية إلى مهاجمة الموقف التركي، متجاوزا النقد الدبلوماسي المعتاد إلى حد اشتراط تراجع أنقرة عن رؤيتها للحل القبرصي مقابل أي تقدم في علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي.
وجاءت تصريحاته محمّلة بلغة تهديد غير مباشرة، تعكس حالة انزعاج سياسي عميق وإحساسا متزايدا بأن موازين القوى باتت تتغير لصالح تركيا في الملف القبرصي والمنطقة عموما.
إن هذا التصعيد يعكس، وفق محللين، ارتباكا سياسيا ناجما عن التغيّر في موازين القوى في شرق المتوسط؛ إذ باتت أنقرة طرفا لا يمكن تجاهله في أي معادلة تخص الأمن الإقليمي أو مستقبل الجزيرة.
وبينما تلجأ أثينا ونيقوسيا وتل أبيب إلى تحالفات جديدة لتثبيت توازنات قديمة، تشير الديناميكيات الحالية إلى أن القوة الحقيقية في المنطقة باتت تُحدد عبر التكنولوجيا والإنتاج والسياسة المتوازنة.
وهي عناصر تتفوق فيها تركيا بشكل واضح، ما يجعلها الفاعل الأكثر قدرة على التأثير في مستقبل شرق المتوسط خلال المرحلة المقبلة.













