دعوى الإبادة ضد إسرائيل.. كيف تحولت إلى نقطة اشتباك بين ترامب وجنوب إفريقيا؟

داود علي | منذ ٥ ساعات

12

طباعة

مشاركة

مع انطلاق قمة مجموعة العشرين في مدينة جوهانسبرغ بجنوب إفريقيا يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، كانت الصورة الأكثر تعبيرًا عن التوتر العالمي المتصاعد هي الكرسي الأميركي الفارغ.

فقد أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قبل أسبوعين من انعقاد القمة، أن واشنطن لن ترسل أي مسؤول رسمي إلى جنوب إفريقيا، مستندًا في ذلك إلى ما وصفه بـ"انتهاكات حقوق الإنسان" التي تُرتكب هناك.

وبشكل محدد، أشار ترامب إلى ما سماه "اضطهادًا عنصريًا" يتعرض له المزارعون البيض في البلاد. وفي رأيه، فإن عقد قمة دولية بهذا الحجم على أرض جنوب إفريقيا يمثل "عارًا أخلاقيًا"، كما جاء في منشور له عبر منصة "تروث سوشال".

إلا أن قراءة أعمق لهذا الموقف تكشف أن الغضب الأميركي لا ينبع فعليًا من هذه المزاعم الحقوقية، بل هو مرتبط بالسياسة الدولية، وبشكل خاص بالقضية الفلسطينية وتصاعد التوترات في غزة.

خطوة غير مسبوقة

جنوب إفريقيا، الدولة المستضيفة لقمة مجموعة العشرين هذا العام، ليست دولة عادية، بل هي التي قادت واحدة من أبرز المعارك القانونية ضد إسرائيل خلال العقود الماضية، عندما رفعت أمام محكمة العدل الدولية دعوى تتهم فيها إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

هذه الخطوة غير المسبوقة التي وضعت إسرائيل تحت مجهر المساءلة القانونية الدولية، أثارت غضب واشنطن بشدة التي رأت فيها تحديًا مباشرًا لدورها التقليدي كحارسة للشرعية الدولية.

ورغم أن وزارة الخارجية الجنوب إفريقية وصفت قرار ترامب بمقاطعة القمة بأنه "مؤسف"، فإن المسؤولين في بريتوريا يدركون جيدًا أن الأمر يتجاوز حدود المجاملات الدبلوماسية.

فالضغوط والهجوم الأميركي المتصاعد على دولتهم يعيد إلى الذاكرة أساليب غربية قديمة في معاقبة الدول الإفريقية التي تخرج عن المسار المتوقع.

فمنذ عقود، كان تعامل الغرب مع إفريقيا مبنيًا على منطق الهيمنة والتأديب، حتى وصل الأمر إلى تصنيف الزعيم الجنوب إفريقي الراحل نيلسون مانديلا كإرهابي خلال سنوات نضاله ضد نظام الفصل العنصري.

واليوم، يعاد تكرار هذا السيناريو بطريقة جديدة، عبر استهداف دولة قررت أن تقف في وجه إسرائيل على المنصة القانونية الدولية، متخذة موقفًا يعكس رغبتها في الدفاع عن العدالة والشرعية.

ومنذ أن بدأت جنوب إفريقيا تتحرك في ملف غزة، تصاعدت حملات أميركية إعلامية وسياسية تهدف إلى تشويه صورتها.

فقد انشغلت شبكات اليمين المسيحي المحافظ في الولايات المتحدة، من قناة فوكس نيوز إلى شبكة البث المسيحية CBN، بإعادة إنتاج سرديات حول "الاضطهاد العرقي" في جنوب إفريقيا، و"اضطهاد المسيحيين البيض"، و"فشل الدولة".

وقد بدا واضحًا أن هذه السرديات لا تهدف إلى الدفاع عن حقوق الإنسان، بل إلى خلق بيئة ثقافية وسياسية تبرر الهجوم على بريتوريا بسبب موقفها من قضية غزة.

ولم تقتصر هذه الحملات على الإعلام فقط، بل سرعان ما انتقلت إلى صلب صنع القرار السياسي.

ففي فبراير/شباط 2025، وبعد شهر واحد فقط من تولي ترامب رئاسة البيت الأبيض، أصدر أمرًا تنفيذيًا بوقف جميع المساعدات الأميركية إلى جنوب إفريقيا، مستندًا في ذلك إلى اتهامات بمصادرة أراضي البيض دون تعويض.

وقد تجاهل ترامب حقيقة أن الدستور الجنوب إفريقي لا يسمح بنزع الملكية إلا وفق إجراءات قانونية صارمة وتعويض عادل، مع استثناءات نادرة تحكمها المحكمة الدستورية.

لكن هذا التجاهل لم يكن خطأ عفوياً أو سهوًا، بل كان جزءًا من حملة سياسية ممنهجة تهدف إلى تصوير جنوب إفريقيا كدولة معادية للغرب وللرجل الأبيض، وبالتالي لا تستحق الدعم الأميركي.

مسمار الأفريكانرز

وبعد أيام قليلة من قرار وقف المساعدات، أعلنت إدارة ترامب توسيع برامج استقبال اللاجئين في الولايات المتحدة، مع منح أولوية خاصة للأفريكانرز، وهم مجموعة عرقية في جنوب إفريقيا تنحدر أساسًا من المستوطنين الهولنديين الذين استقروا في البلاد في القرن السابع عشر.

وينضم إلى هذه المجموعة بعض المستوطنين الفرنسيين والألمان الذين اندمجوا معهم لاحقًا، وتشكل هذه الفئة ما بين 5 إلى 7 بالمئة من إجمالي سكان جنوب إفريقيا.

وجاء هذا القرار استنادًا إلى مزاعم الاضطهاد الحكومي، ليكون رسالة واضحة من واشنطن بأنها تبحث عن أي ذريعة لتقديم صورة مشوهة ومعاكسة للواقع.

وخاصة أن جنوب إفريقيا تمثل نموذجًا للدولة الإفريقية التي يحكمها نظام ديمقراطي دستوري قوي، والتي تجرأت على مواجهة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، ورفعت قضايا تثبت ارتكابها مجازر بحق المدنيين الفلسطينيين.

رغم كل الهجوم الأميركي بقيادة ترامب، لم ينجح في عزل جنوب إفريقيا على الساحة الدولية. بل على العكس، استغلت بريتوريا موقعها كرئيس لمجموعة العشرين لعام 2025 للدفع بقوة نحو أجندة عالمية جديدة.

تركزت هذه الأجندة على العدالة الاقتصادية، وإصلاح مؤسسات التمويل الدولية، ووضع حد للهيمنة الغربية على القرار الاقتصادي العالمي.

وفي خطوة لافتة، كلف الرئيس الجنوب إفريقي سيريل رامافوزا الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، جوزيف ستيغليتز، بإعداد تقرير شامل حول اللامساواة العالمية لصالح قمة العشرين.

وجاءت نتائج التقرير صادمة، حيث أظهرت أن أغنى واحد في المئة من سكان العالم يملك أكثر من 40 بالمئة من الثروة الجديدة التي تراكمت منذ عام 2000، بينما يعيش أكثر من 80 بالمئة من البشر في ظروف تصنفها البنك الدولي على أنها تعاني من مستوى عالٍ من اللا مساواة.

هذه الأرقام ليست مجرد بيانات اقتصادية، بل تعكس خلفية سياسية عميقة تصوّر الصراع الأكبر؛ صراع الجنوب العالمي لإنهاء الهياكل الاقتصادية التي تعيد إنتاج الفقر والتهميش، مقابل صراع القوى المحافظة في الغرب للدفاع عن نظام عالمي أثبت فشله.

وفي هذا السياق، تصبح دعوى الإبادة التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أكثر من مجرد خطوة قانونية، بل إعلان سياسي واضح بأن إفريقيا لم تعد تقبل بالدور الهامشي الذي فُرض عليها لعقود.

إنها محاولة لاستعادة أخلاقية القانون الدولي، وتأكيد أن حماية المدنيين ليست امتيازًا تمنحه القوى الكبرى متى شاءت، بل هي التزام عالمي يجب احترامه، حتى وإن تعلق الأمر بحلفاء واشنطن.

رؤية أيديولوجية

قال تافي مهاكا، المعلق الاجتماعي والسياسي الحاصل على درجة البكالوريوس مع مرتبة الشرف من جامعة كيب تاون: "إن رد فعل ترامب على هذا المسار القانوني يتجاوز السياسة التقليدية".

وفي منشور له عبر "فيسبوك" بتاريخ 2 نوفمبر 2025، أضاف: "إنه يعكس رؤية أيديولوجية متجذرة في تيارات قومية مسيحية داخل الحزب الجمهوري، ترى أن الهيمنة الأميركية ليست مجرد خيار إستراتيجي، بل قدرًا أخلاقيًا، وأن أي محاولة من دولة مثل جنوب إفريقيا لمساءلة إسرائيل أمام القضاء الدولي تُعد تحديًا لهذا القدر".

وتابع قائلا: "عندما تتصدى دولة إفريقية لمفهوم الاستثناء الأميركي، فإنها تدفع ثمن ذلك مباشرة".

وأكد: "الولايات المتحدة في عهد ترامب لم تكتف بمعاقبة بريتوريا، بل انسحبت من هيئات أممية رئيسة، وهاجمت المحكمة الجنائية الدولية، ورفضت الخضوع لأي رقابة من خبراء الأمم المتحدة في حقوق الإنسان".

وعلق: "كانت تلك إشارات واضحة إلى أن واشنطن، تحت قيادة ترامب، لم تعد تؤمن بقواعد القانون الدولي إذا لم تكن تخدم مصالحها".

وأضاف الباحث الجنوب إفريقي: "في المقابل، قدمت جنوب إفريقيا رؤية مختلفة للنظام الدولي، رؤية ترتكز على التعاون متعدد الأطراف، واحترام القانون الدولي، وإعادة توزيع السلطة الاقتصادية والسياسية بما يعكس الواقع العالمي الجديد الذي لم يعد حكرا على الغرب".

واختتم مهاكا قائلا: "هذه الرؤية بطبيعة الحال تقلق القوى التي اعتادت احتكار القرار الدولي لعقود طويلة".

وهكذا، تبدو هجمات ترامب على جنوب إفريقيا جزءًا من محاولة أوسع لمعاقبة دولة تحدّت المنظومة الغربية في أكثر الملفات حساسية على الساحة الدولية، وهو ملف غزة. فالدعوى التي رفعتها بريتوريا أمام محكمة العدل الدولية لم تزعزع استقرار إسرائيل فحسب، بل هزّت كذلك أسس الخطاب الأميركي ذاته، وأظهرت أن دولة من الجنوب قادرة على تغيير قواعد اللعبة عبر أدوات القانون الدولي، لا من خلال التبعية السياسية التقليدية.

ومع أن التاريخ يثبت أن الغرب نجح في كثير من الأحيان بمعاقبة دول خرجت عن صفّه، كما حدث في حالة إيران على سبيل المثال، إلا أن المشهد اليوم يبدو مختلفًا. فالعالم يشهد تحولات عميقة، ودول الجنوب أصبحت تملك كتلة سياسية واقتصادية متماسكة قادرة على تحدي الهيمنة القديمة.

وجنوب إفريقيا، التي تقع في قلب هذه الكتلة، لا تبدو مستعدة للتراجع. في النهاية، تكشف حرب ترامب على جنوب إفريقيا أن الصراع ليس فقط حول ادعاءات اضطهاد المزارعين البيض، ولا حول قمة العشرين، ولا حتى حول سياسات داخلية بحتة.

إنه صراع أعمق حول من يملك الحق في تعريف الأخلاق الدولية، ومن يملك الحق في مساءلة إسرائيل، ومن يملك سلطة تحديد ما إذا كان الفلسطينيون شعبًا يستحق الحماية.

وقد قالت جنوب إفريقيا، من خلال دعوى الإبادة وقيادتها الدبلوماسية، بوضوح: إن هذا الحق لم يعد حكراً على أحد. ورأت واشنطن أن أثر هذه الدعوى كان سلبيًا للغاية على إسرائيل، حتى على الصعيد الداخلي في الولايات المتحدة نفسها.

فتح الباب

فتحت دعوى جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية الباب أمام موجة من الإجراءات القانونية التي تبنتها دول وهيئات متعددة ضد إسرائيل.

ففي 18 يناير/كانون الثاني 2024، أعلنت حكومتا المكسيك وتشيلي نيتهما التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة إسرائيل على الانتهاكات المرتكبة بحق الفلسطينيين، مشيرتين إلى أن التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة قد تشكل أساسًا لاتهامات بارتكاب جرائم تدخل ضمن اختصاص المحكمة.

وفي سويسرا، أكدت النيابة العامة بتاريخ 19 يناير 2024 تلقيها شكاوى جنائية ضد الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ خلال مشاركته في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس. وأوضح مكتب المدعي العام أنه سيفحص هذه الشكاوى وفق الإجراءات القانونية المعتادة، مع استمرار التنسيق مع وزارة الخارجية بشأن مسألة الحصانة التي يتمتع بها هرتسوغ كرئيس دولة.

وتزامن ذلك مع تصعيد خطاب المنظمات الحقوقية الدولية، حيث أعلنت منظمة العفو الدولية في 24 يناير 2024 أن هناك مؤشرات "تنذر بوقوع إبادة جماعية في قطاع غزة". مؤكدة أن ذلك يأتي في سياق منظومة طويلة من التمييز والقمع ضد الفلسطينيين في ظل نظام الفصل العنصري الإسرائيلي.

وفي الولايات المتحدة، شهدت ولاية كاليفورنيا تطورًا قضائيًا غير مسبوق، إذ عقدت محكمة فيدرالية جلسة في 26 يناير 2024 للنظر في دعوى أقامها مركز الحقوق الدستورية الأميركي تتهم الرئيس جو بايدن ووزيري الخارجية والدفاع بالتواطؤ في "جرائم الإبادة الجماعية" التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وبانتهاك اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948.

وفي موازاة ذلك، أطلقت محكمة العدل الدولية سلسلة جلسات استماع بناءً على طلب الأمم المتحدة لإصدار رأي استشاري بشأن التبعات القانونية المترتبة على سياسات إسرائيل وممارساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية. وبدأت جلسات الاستماع في 19 فبراير/شباط 2024، بمشاركة واسعة من الدول، من بينها الأردن وإندونيسيا وبنغلاديش وتونس وسلوفينيا وقطر ومصر.

وفي 21 فبراير 2024، قدمت مصر مرافعتها الرسمية أمام المحكمة في لاهاي عبر المستشارة ياسمين موسى، مسلطة الضوء على الآثار المتراكمة للاحتلال الإسرائيلي وانتهاكاته في الأراضي الفلسطينية.

وجاء كل هذا الحراك الدولي المتواصل عقب المبادرة التي بدأت بها جنوب إفريقيا بملاحقة إسرائيل قانونيا، من خلال دعواها الموثقة في 84 صفحة، التي قدمتها في 29 ديسمبر/كانون الأول 2023، والتي دفعت الدول الداعمة للاحتلال، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إلى السعي للانتقام من بريتوريا ومحاصرتها بالأزمات الدبلوماسية.