قتل وانتحار وصدمات.. هكذا سحقت “طوفان الأقصى” نفسية الإسرائيليين

داود علي | منذ ٤ أشهر

12

طباعة

مشاركة

مقطع فيديو وكأنه مشهد من فيلم رعب، جرى تداوله بكثافة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في 16 يوليو/ تموز 2024، لامرأة إسرائيلية، شعرها منسدل، حافية القدمين، ملطخة بالدماء، تتجول في الطرقات وهي تحمل فأسا وتهاجم المارة. 

وعندما وصلت إلى مدخل مركز تجاري بمدينة هرتسليا التابعة لـ "تل أبيب" بالأراضي المحتلة حاولت الاعتداء على حارس الأمن، لكنه تمكن من انتزاع الفأس منها بعد إصابته بجروح.

وأعلن الإعلام العبري، أن الشرطة اعتقلت المرأة، ثم توجهت بعد ذلك إلى شقتها، لتكتشف الجانب المروع من القصة، إذ عثرت على جثة صبي صغير، تبين أنه ابنها الذي قتلته بالفأس.

المعلومات الأولية أفادت بأن السيدة الإسرائيلية الجانية، مضطربة نفسيا، وأنها كانت من الفارين من مهرجان موسيقي "نوفا" بمستوطنة "ريعيم" في "غلاف غزة"، يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

وكان هذا المهرجان منعقدا في وقت تنفيذ حركة المقاومة الإسلامية حماس عملية طوفان الأقصى، ما اضطر الطيران الإسرائيلي لشن هجمات عشوائية أدت إلى مقتل مستوطنين في ذلك المكان.

وأضافت وسائل إعلام عبرية أن زوج الجانية من جنود الاحتياط بجيش الاحتلال، الذين يقاتلون داخل قطاع غزة.

وعبرت الحادثة الأخيرة عن حجم المعاناة والصدمة التي يعيشها الإسرائيليون جراء الحرب، ونتيجة صمود غزة والمقاومة على مدار أشهر طويلة، رغم قسوة العدوان وكثرة الضحايا. 

تسونامي غزة

ومنذ بداية العدوان، كشفت تقارير منظمة الصحة النفسية الإسرائيلية أن عدد الأشخاص الذين يعانون من اكتئاب وشعور بالصدمة والقلق ارتفع بين الإسرائيليين بشكل كبير.

وجاء ذلك بالتزامن مع إقبال غير مسبوق بين الإسرائيليين على تناول العقاقير خاصة المهدئات التي تساعد على النوم.

والمثير أن الأطباء النفسيين الإسرائيليين ذكروا للمنظمة تكرار الأعراض بين كثير من المرضى.

ومنها الشكوى من التعرض المستمر لكوابيس وأحلام تتكرر فيها مشاهد مثل الوجود داخل نفق مظلم وضيق، وثقل مع اختناق.

أو سيارات عسكرية مصفحة يعتليها مسلحون وملثمون وأن الشخص معرض للخطف أو أنهم في الاعتقال مع مجموعة من الرهائن (الأسرى). 

وفي 3 فبراير/ شباط 2024، أطلق موقع "ذا ماركر" العبري، تعبير "تسونامي" لوصف الأعداد الكبيرة من المستوطنين، الذين يتوجهون لعيادات الطب النفسي، وانتشار أعراض مثل اضطراب الأكل، منذ بداية العدوان على غزة.

كما تحدثت صحيفة “إسرائيل هيوم” عن ارتفاع في عدد الأعراض النفسية" لدى الإسرائيليين.

وبينت أن منظومة الصحة النفسية "غير قادرة على استيعاب الأعداد الكبيرة من المراجعين.

ونشرت أن التقديرات تفيد بأن ما بين 20 إلى 30 بالمئة من الإسرائيليين، سيعيشون مع هذه الصدمة النفسية طوال حياتهم، وأنهم لن ينجحوا في التخلص من أعراضها.

نوبات هلع 

وفي ذات السياق، كشف تقرير "كلاليت" (Clalit health services)، وهي أكبر مؤسسة خدمات صحية في دولة الاحتلال، وتختص بمعالجة أكثر من نصف الإسرائيليين، أن عدد وصفات الطب النفسي ارتفع بنسبة 11 بالمئة داخل المجتمع الإسرائيلي المضطرب في أعقاب الحرب.

وقالت المؤسسة في 3 ديسمبر/ كانون الأول 2023، إن الزيادة تظهر أوضح ما يكون في مضادات الاكتئاب ونوبات الهلع والقلق.

وخصت بالذكر إفراط الإسرائيليين في تناول أدوية بعينها مثل: سيتالوبرام وسرترالين وفلوكسيتين.

وجميعها من الأدوية المنتمية إلى عائلة "مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية" (SSRI)، فضلا عن أدوية من مجموعة البنزوديازيبين مثل: ألبرازولام وكلونازيبام.

وتطرقت إلى نفس الأمر صحيفة "هآرتس" العبرية في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، عند تطرقها إلى مشاهد إطلاق عدد من الأسرى الإسرائيليين خلال صفقة التبادل بين المقاومة الفلسطينية ودولة الاحتلال، أو الأخبار الناجمة عن تساقط الجنود صرعى في الحرب الدائرة.

ووصفت الوضع بـ"التعذيب النفسي"، وأتبعت أن إسرائيل باتت تنقسم كل مساء بين أولئك الذين يقضون ليلتهم يبكون على الأريكة، وآخرين يواسون هؤلاء، قبل أن تتبدل الأدوار في المساء التالي.

انتحار وجنون 

وفي مطلع يناير/ كانون الثاني 2024، طلبت مجموعة من مديري مستشفيات الصحة العقلية في تل أبيب، خلال رسالة خاصة بعثوها إلى "هيئة التفتيش"، بضرورة إعلان حالة الطوارئ جراء تدهور كبير في الصحة العقلية للإسرائيليين، على وقع انتشار الأمراض النفسية. 

وجاء في الرسالة أن أحداث 7 أكتوبر ستضيف لمن يحتاجون إلى العلاج النفسي 300 ألف شخص جديد.

وأتبعت أن هناك جانبا مظلما آخر يتعلق بمن سيعودون من القتال في غزة، فلا يعرف حتى الآن عدد الذين سيعانون منهم من المشاكل النفسية منهم.

لكن الرسالة حذرت بوضوح من آثار ذلك التدهور، حيث قالت: "من فضلكم، استخدموا قوتكم وسلطتكم لإنقاذ الصحة العقلية لمواطني إسرائيل". 

وذكر موقع "واي نت" العبري، في 30 ديسمبر 2023، أن حالات الجنون والانتحار زادت خلال مرحلة ما بعد الحرب.

وبين أن الحرب في غزة تكلف في الحاضر ثمنا باهظا في الأرواح البشرية والإصابات الجسدية، وستكلف في المستقبل أيضا ثمنا باهظا على المستوى النفسي، خاصة بين الجنود المصابين.

وقال الموقع إنه منذ بداية معركة "طوفان الأقصى" جرى تحويل أكثر من 2800 جندي من جيش الاحتلال إلى قسم إعادة التأهيل في وزارة الجيش، بينهم 3 بالمئة من الجرحى في حالة خطيرة، و18 بالمئة ممن يعانون من مشاكل عقلية بسبب إجهاد ما بعد الصدمة.

جيش مهزوم  

وفي 4 ديسمبر 2023، أعلنت هيئة البث الإسرائيلية، أن نحو ألفين من جنود جيش الاحتلال صنفوا بأنهم مصابون ومتضررون منذ عملية "طوفان الأقصى".

وكان بين هؤلاء 200 خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من الاقتحام البري، ما استدعى عرضهم جميعا على الطبيب النفسي.

وبحسب الهيئة، يجري تعريف المصاب في أرض المعركة على أنه جندي تعرض لحدث مثل إطلاق نار أو مواجهة أو إصابة أو كان شاهدا على إصابات ومشاهد خطيرة لآخرين، مما أدى إلى تراجع في مستوى أدائه.

وتابعت أنه "يمكن أن يتجلى الضرر على المستوى الوظيفي في ردود الفعل لديه، مثل الانزواء أو الصمت أو القلق أو التوتر أو الشعور العام الصعب الذي يلازم الجندي في مثل هذه الحالات".

وبينت أنه كجزء من إجراءات التعامل مع الأمر ومبدأ العلاج النفسي التي حددتها هيئة الأطباء في الجيش، يستحسن إعادة الجندي المصاب إلى النشاط والمشاركة في أسرع وقت.

وذكرت الهيئة أنه منذ 7 أكتوبر، افتتح الجيش مركزين للصحة النفسية، بالإضافة إلى مركز اتصال هاتفي يعمل فيه علماء نفس وأطباء نفسيون وهم في خدمة الاحتياط.

وضمن هذه الجزئية، نقلت صحيفة "هآرتس" العبرية في تقرير لها نشر في 22 أكتوبر 2023 عن أحد الخبراء قوله إن الجيش الإسرائيلي "لا يتخذ أي خطوات فعالة لمنع الصدمات، وينتظر أن يطلب الجنود المساعدة".

وأضاف التقرير: "يحذر المحترفون من أن العديد من الجنود الإسرائيليين سيجدون صعوبة في العودة إلى الخدمة في غياب خطوات فعالة لتزويدهم بالدعم العاطفي".

وفي الوقت الحالي، ينخرط جنود الاحتلال في مناقشات جماعية مع المعالجين، ويتحدثون عن مخاوفهم وافتقارهم لحافز القتال مرة أخرى في غزة.

قصص وكوابيس

ويقول خبراء الصحة النفسية الإسرائيليين، إن الجنود العائدين من غزة قد يواجهون مجموعة من التأثيرات النفسية متعددة الطبقات.

ويشمل ذلك القلق والاكتئاب والارتباك والحزن سواء بعد تعرضهم لإصابات أو مقتل زملائهم أمامهم وتحول بعضهم لأشلاء بفعل الانفجارات المفاجئة التي تعرضوا لها جراء الكمائن في الأحياء التي يجهلون طبيعتها.

ونقلت صحيفة "جيروزاليم بوست" في 4 نوفمبر 2023، عن تقرير طبي تأكيده أنه استخدم واحد من كل أربعة جنود خدمات الصحة العقلية التابعة للجيش والتقى إما بطبيب نفسي أو ضابط صحة عقلية.

وتفيد تقارير صحفية أن إسرائيل تحاول التعتيم على الظواهر السلبية الآخذة بالازدياد بين صفوف المشاركين في اقتحام غزة؛ لأسباب تتعلق "بسمعة الجيش وهيبته". 

وبحسب ما قال رئيس الصحة العقلية في الجيش، العقيد لوسيان تاتسا لور، فإن "مسؤولي الصحة العقلية الآن يذهبون إلى الميدان ليكونوا مع الأفراد العسكريين".

وأضاف تاتسا لور لـ"جيروزاليم بوست" أن "النظام لا يفهم هؤلاء الجنود المقاتلين الذين عادوا بقصص وكوابيس".

وفي 3 فبراير 2024، نشرت مجلة "ذي لانسيت" الطبية البريطانية، دراسة كشفت خلالها أن كل "سكان إسرائيل" تعرضوا بطريقة أو بأخرى لتداعيات عملية طوفان الأقصى غير المسبوقة من حيث النطاق وهول الصدمة النفسية.

وعبرت الدراسة عن الصدمة النفسية الجسيمة، نظرا لعدد الأعراض التالية لها وحالات الاكتئاب.

وقالت إنه منذ أن نفذت حماس هجومها، تضاعفت الاتصالات التي يتلقاها خط الطوارئ "عران" للإسعافات النفسية.

وبحسب الدراسة تشكلت "دوائر هشاشة واسعة جدا"، منها عناصر مهمة، مثل الإسعاف والشرطة وعائلات القتلى والأسرى.

واستعانت الدراسة بما كشفه المدير العام لوزارة الصحة الإسرائيلية موشيه بار سيمان، بأنه من أصل السكان المقدر عددهم بـ 9.7 ملايين، تعرض 100 ألف لحوادث قد تسبب صدمة نفسية مستمرة.