64 ألف وثيقة داخلية و33 ألف صورة.. توثيق صادم لجرائم الأسد بحق السوريين

"فتح السجون كان اللحظة التي أدركت فيها عشرات الآلاف من العائلات أن أحباءها قد لا يعودون أبدا"
كشف تحقيق دولي شاركت فيه صحيفة "إلباييس عن آلة الموت داخل سجون النظام السوري السابق عن اعتقالات وعمليات قتل جماعية جرت على مدار سنين حتى سقوط الديكتاتور بشار الأسد.
وفي 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 تمكن الثوار السوريون من دخول العاصمة دمشق معلنين الإطاحة بنظام بشار الأسد (2000-2024) الذي ورث الحكم عن أبيه حافظ (1970-2000).
وخلال الحقبتين فرض نظام البعث قبضة أمنية خانقة، مما جعل السوريين يعدون يوم خلاصهم من حكم هذه العائلة عيدا وطنيا في البلاد.

صور مؤلمة
وقد صوّرت ملفات دمشق السرية فظائع آلة القمع في نظام بشار الأسد.
وفي إحدى هذه الصور، يظهر رجل يرقد على سطح معدني كان يبدو هزيلا وميتا. كان الرقم 3659 يظهر بأسنان صفراء بارزة، وبعينين غائمتين، مجردا من ملابسه.
وفي صورة أخرى، رجل آخر، رقمه 4038، يرقد في خلف شاحنة، عار، وجلده مجعد، بينما كان جسده ملطخا بالدماء ومغطى بالذباب.
وعلى الرقم 1174، ظهرت ملامح الناشط المعارض المعروف مازن الحمادة، وهو يرقد بزي السجن على أرضية رخامية، مقيدا من معصميه.
أما قدماه فكانتا عاريتين مصابتين بكدمات، وتظهر علامة على الضرب الذي تعرض له بوضوح. وعلى رقم 2389، يظهر طفل حديث الولادة.
تُظهر صور أخرى جثثا متراكمة كالحطب؛ أذرعهم وأرجلهم هزيلة، وأفواههم مفتوحة، وأعينهم نصف مغمضة، وعليها آثار تعذيب واضحة… جاهزة للتخلص منها.
وأشارت الصحيفة إلى أن هذه البقايا العظمية هي النتيجة المروعة لآلة القتل التي استخدمها الرئيس السوري السابق، بشار الأسد، لسنوات.

حقائق يجب أن يعرفها الناس
وبينما فر الديكتاتور إلى روسيا وانهار حكمه، فتح العقيد محمد، وهو ضابط رفيع المستوى في الشرطة العسكرية، خزنة في مكتبه، وأخرج قرصا صلبا، وهرب من دمشق.
وعبر اتصالات متعددة، نجح في تهريب هذا الأرشيف إلى خارج البلاد مع محتوياتها الحساسة: عشرات الآلاف من ملفات النظام الداخلية وصور عالية الجودة لأشخاص جميعهم تقريبا رجال، لقوا حتفهم في سجون النظام، معظمهم بين عامي 2015 و2024.
يوضح العقيد محمد الذي تم تغيير اسمه لأسباب أمنية: "هناك حقائق يجب أن يعرفها الناس. هناك أشخاص تحتاج عائلاتهم إلى معرفة مكانهم أو ما حدث لهم".
وأفادت الصحيفة الإسبانية بأن هذه الصور التقطها مصورون عسكريون سوريون، ووصلت إلى شبكة "إن دي آر" الإذاعية والتلفزيونية الألمانية؛ التي شاركتها مع الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين و25 وسيلة إعلامية في 20 دولة، بما في ذلك الباييس.
وتنشر هذه الصور في إطار تحقيق "ملف دمشق"، والذي يتضمن أكثر من 64 ألف وثيقة داخلية من الحكومة السورية وأجهزة مخابراتها، وأكثر من 33 ألف صورة لمعتقلين داخل سجون الأسد.
كما وصلت الصور إلى مكتب المدعي العام الاتحادي الألماني، الذي يقود التحقيقات في جرائم الأسد منذ سنوات وإلى منظمة سورية غير حكومية مقرها ألمانيا.
وتظهر الصور ما لا يقل عن 10.212 شخص مختلف، جميعهم مرّوا بالسجون السورية بعد سنة 2011.
وتجدر الإشارة إلى أنه في بعض الأيام، التقطت ما يصل إلى 177 صورة. ويعدّ هذا الأرشيف أكبر قاعدة بيانات تنشر صور السجناء السوريين المقتولين.
كما أنها دليل على هول ما تحتويه الأرشيفات وسياسة الأسد في تدمير حتى أدنى بصيص أمل للمعارضة.
ونقلت الصحيفة أن منظمات غير حكومية مختلفة وثّقت مقتل ما لا يقل عن 157 ألف مدني على أيدي قوات الأسد خلال الحرب، كما سجّلت الشبكة السورية لحقوق الإنسان اختفاء 177 ألف شخص خلال حكم الأسد؛ مما يجعل سوريا واحدة من أكثر الأنظمة دموية في القرن الحادي والعشرين.
وأضافت الصحيفة أن وراء كل صورة، تكمن منهجية وبيروقراطية. وترافق كل جريمة في حق السجناء نقل وتصوير وتسجيل في الملفات.
فبعد أن تصل الجثث في شاحنات صغيرة، توضع في ثلاجات أو ببساطة على أرضية مستشفى حرستا العسكري، أو بدرجة أقل، مستشفى تشرين العسكري، وكلاهما في دمشق.
فيما بعد، يأتي دور المصوّر العسكري ليلتقط صورا للجثة من زوايا متعددة في ثوانٍ معدودة، قبل الانتقال إلى الجثة التالية.
في أغلب الحالات، كان رقم المعتقل مكتوبا على بطاقة بيضاء تلصق على جسده، أو تكتب على ذراعه أو ساقه أو جبهته، أو يلصق على الصورة. وتحفظ الصور في مجلدات رقمية منظّمة بدقة.
وتحمل كل صورة رقم سجين، واسم المصور، وتاريخ التقاطها، والقطاع العسكري السوري الذي كان المعتقل محتجزا فيه، وفي معظم الحالات، شهادة الوفاة.
وتُرفق نسخة مطبوعة من كل صورة بملف السجين لدى القضاء العسكري، وهو ما كان يهدف إلى "إضفاء الشرعية" على الوفيات، وفقا للعقيد محمد.

تحليل دقيق
وأفادت الصحيفة بأن فريقا من المراسلين المشاركين في التحقيق في المواد المسربة، والذي بدأ قبل أكثر من ثمانية أشهر، عمل على تحليل دقيق لحوالي 540 صورة تظهر ما لا يقل عن 565 جثة.
وفي 75 بالمئة من الحالات، ظهرت على الضحايا علامات واضحة للجوع، وفي 65 بالمئة منها، اتّضح إصابات جسدية. وكان أكثر من نصفهم مصابين بجروح في الرأس أو الوجه أو الرقبة، وكثيرون منهم عراة.
ومع ذلك، فإن "السكتة القلبية التنفسية" كانت السبب الرسمي للوفاة في معظم شهادات الوفاة التي وقعها الأطباء في مستشفى حرستا، والتي تهدف إلى "إخفاء الظروف الدقيقة" لوفاة السجناء، على حد تعبير المدعي العام الألماني، ينس روميل.
وقد سبق للأمم المتحدة أن أدانت هذا التعاون من قبل العديد من الأطباء داخل الجهاز القمعي السوري.
وتجدر الإشارة إلى أن نظام الأسد بذل جهدا ممنهجا لإخفاء تعذيب وقتل مواطنيه عن العالم.
وقد حلل الصحفيون المشاركون في هذا التحقيق صورا ملتقطة عبر الأقمار الصناعية، وتحدثوا مع مصادر تثبت أنه في مستشفى حرستا، وبعد تصويرها، وضعت الجثث في أكياس سوداء وحملت على شاحنات مبردة.
وأوضح مصدر عسكري، يدّعي أنه شهد العملية، أن الشاحنات تنطلق ليلا، وتوضع الجثث في مقابر جماعية على حدود دمشق، مثل تلك التي عُثر عليها في القطيفة.
وقد كشف تحقيق أجرته وكالة رويترز أخيرا أن هذه المقبرة الجماعية كانت تفتح بشكل دوري ويتم إزالة ما تبقى من الهياكل العظمية ونقلها إلى مقبرة أخرى أكبر في وسط الصحراء.
وأضافت الصحيفة أن انهيار نظام الأسد أحدث "زلزالا نفسيا وعاطفيا هائلا" لدى عائلات القتلى والمعتقلين، مثلما يوضح حبيب نصار، المسؤول البارز في مجال حقوق الإنسان في الهيئة الدولية المستقلة للأمم المتحدة المعنية بالمفقودين في سوريا.
وأضاف أن "فتح السجون كان اللحظة التي أدركت فيها عشرات الآلاف من العائلات أن أحباءها قد لا يعودون أبدا".















