من وحي السودان.. كيف يحول العسكر الثورات إلى انقلابات؟

أحمد يحيى | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

في 30 يونيو/ حزيران 1989، أعلن التلفزيون الرسمي السوداني استيلاء ضباط من الجيش على الحكم، بقيادة العميد عمر البشير، الذي نجح في تنفيذ انقلاب عسكري، أطلق عليه "ثورة الإنقاذ الوطني"، وأطاح بحكومة الصادق المهدي.

وكما جاء البشير إلى الحكم بانقلاب، ترك الحكم أيضا بانقلاب في 11 أبريل/ نيسان 2019، عبر وزير الدفاع الفريق أول عوض بن عوف، الذي تلى بيانا على شاشة التلفزيون الرسمي يؤكد فيه "اقتلاع النظام ورأسه والتحفظ عليه في مكان آمن".

عوف أعلن أيضا عن "تشكيل مجلس عسكري انتقالي يتولى إدارة حكم البلاد لفترة انتقالية مدتها عامان"، وقال إن "المجلس سوف يلتزم تهيئة المناخ للانتقال السلمي للسلطة، وبناء الأحزاب السياسية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة بنهاية الفترة الانتقالية".

المحتجون الذين جابوا شوارع المدن لنحو 4 أشهر، رفضوا أن يستبدلوا البشير، بحكم عسكري، ووصفوا ما حدث باستيلاء ممنهج من الجيش على السلطة، وشبهوا الحدث الجلل، بسيناريو مصر، وثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، عندما تم استبدال مبارك بالمجلس العسكري خلال الفترة الانتقالية.

موجة الرفض العاتية، جعلت بن عوف يتنازل عن منصبه المستجد في رئاسة المجلس العسكري، لصالح المفتش العام للجيش الفريق أول عبد الفتاح برهان، ومع ذلك لم يهدأ الشارع الغاضب، في ظل صراع أعمق من تولي الرئاسة، إلى معركة تغيير كبرى، بين نظام عسكري عتيق ومتجذر، وبين إرادة شعبية تحاول انتزاع شرعيتها وإثبات إرادتها.

نهاية سريعة

الفريق أول عوض بن عوف، الذي قاد الانقلاب على البشير، ولد في مستهل الخمسينيات بقلعة ود مالك بقرية "قري"، والتحق بالكلية الحربية، وتلقى تدريبه العسكري في مصر، وتخرج في الدفعة 23 مدفعية، وعمل معلما بكلية القادة والأركان، كما عمل مديرا للاستخبارات العسكرية والأمن الإيجابي، ونائبا لرئيس أركان القوات المسلحة.

وفي أغسطس/آب عام 2015، أصدر البشير مرسوما جمهوريا بتعيين بن عوف وزيرا لوزارة الدفاع الوطني، علما بأنه من المدرجين على القائمة السوداء التي وضعتها واشنطن، بسبب دوره كقائد للاستخبارات العسكرية والأمن بالجيش خلال الصراع في دارفور، وفي 23 فبراير/ شباط 2019، عين البشير بن عوف نائبا أولا للرئيس، مع احتفاظه بمنصبه كوزير للدفاع.

بيان بن عوف لم يرق لجموع  السودانيين المتظاهرين في شوارع الخرطوم، ورفضوا بيان الجيش، وبعد أن كانوا يهتفون "تسقط بس" ضد البشير، صاروا يرددون "تسقط تاني"، ضد بن عوف واللجنة الأمنية العليا التي شكلها.

وفي 12 أبريل/ نيسان 2019، قال بن عوف في خطاب بثه التلفزيون السوداني: "أعلن أنا رئيس المجلس العسكري الانتقالي التنازل عن هذا المنصب واختيار من أثق في خبرته وكفاءته وجدارته لهذا المنصب، وأنا على ثقة بأنه سيصل بالسفينة التي أبحرت إلى بر الأمان. وعليه فقد اخترت بعد التفكر والتشاور والتمحيص الأخ الكريم الفريق أول عبد الفتاح برهان عبد الرحمن رئيسا للمجلس العسكري الانتقالي خلفا لي".

الرجل المبهم

برهان، الذي خلف بن عوف في رئاسة المجلس العسكري، قام البشير بترقيته من رتبة الفريق الركن إلى رتبة الفريق أول في فبراير/ شباط 2019، وعينه مفتشا عاما للقوات المسلحة، إثر حركة تعيينات وتعديلات، أتمها البشير في رئاسة الأركان والجيش السوداني.

كان برهان قائدا سابقا، للقوات البرية السودانية في اليمن، وشارك في المعارك القتالية بمنطقة جنوب السودان ودارفور، وحصل على دورات تدريبية عسكرية في كل من مصر والأردن، وفي الآونة الأخيرة كثيرا ما تنقل بين اليمن والإمارات، ويعد من المقربين للمحور الإماراتي السعودي في المنطقة.

وينتمي رئيس المجلس العسكري الجديد إلى أسرة تدين بالولاء للطريقة الختمية، إحدى الطرق الصوفية المنتشرة في السودان، وتعد الذراع الدينية للحزب الاتحادي الديمقراطي الذي تزعمه محمد عثمان الميرغني.

ومع تولي برهان القيادة الحالية، استمرت الاحتجاجات، وواصل "تجمع المهنيين السودانيين" الذي يقود الحراك وتحالفات المعارضة دعوتهم المواطنين للتوجه إلى أماكن الاعتصام للمحافظة على مكتسبات الثورة.

وفي 13 أبريل/ نيسان 2019، قال تجمع المهنيين في بيان "اليوم نواصل المشوار لاستكمال النصر لثورتنا، ونحتفي بما حققناه من انتصارات، ونؤكد أن ثورتنا مستمرة، ولن تتراجع إلا بالتحقيق الكامل لمطالب الشعب المشروعة بتسليم السلطة لحكومة انتقالية مدنية".

اللجنة الأمنية العليا

تلك الهيئة التي أعلن عنها الفريق أول بن عوف، إبان الإطاحة بنظام البشير، تتألف من عدة تشكيلات، تعد الركائز الأساسية للقوى العسكرية والأمنية السودانية، ومن أبرزها:

  • جهاز المخابرات:

تم تأسيسه عام 2004، من خلال دمج جهاز الأمن الوطني، بجهاز المخابرات، وذلك تحت قيادة الرجل الأمني القوي صلاح عبد الله قوش، الذي ترأس الجهاز، ولعب دورا بارزا في حقب متعددة من ولاية البشير، وفي عهده تعزز التعاون بين المخابرات السودانية ووكالة الاستخبارات الأمريكية فيما يعرف بمكافحة الإرهاب.

ومن أبرز الأحداث المتعلقة بالجهاز، القبض على قوش بتهمة محاولة الانقلاب والتآمر على الدولة عام 2011، ثم خرج بعفو رئاسي عام 2013، وتوارى عن الأنظار قبل أن يعين في 11 فبراير/ شباط 2019، مجددا على رأس جهاز الأمن والمخابرات.

  • الجيش:

الولاء الذي أبداه الجيش للرئيس المخلوع عمر البشير في بداية الانتفاضة الشعبية بالبلاد، تبدد على وقع قيام كبار الضباط بانقلاب عسكري متكامل عليه، وللجيش السوداني حضور بارز على مسرح الحياة السياسية كسائر جيوش الشرق، لا سيما مع قيامه بأربع انقلابات عسكرية ناجحة استولى من خلالها على السلطة، منها انقلاب 30 يونيو/حزيران 1989 بقيادة البشير نفسه.

  • الشرطة:

في العام 1990 تمت إعادة هيكلة جهاز الشرطة حيث تم دمجه، ووحدات وزارة الداخلية وتكونت الشرطة الموحدة، بالإضافة إلى تأسيس الشرطة الشعبية، وفي الاحتجاجات الأخيرة التي شهدها السودان، شاركت فرق من الشرطة في إخماد التظاهرات واستخدمت قنابل الغاز والفرق الخاصة، قبل أن تحجم عن تلك الانتهاكات بعد تدخل الجيش.

  • قوات الدعم السريع

أنشئت في العام 2011، بهدف محاربة أعداء النظام في دارفور والمناطق الحدودية، وحسب إحصائيات غير رسمية، تتألف القوة من نحو 40 ألف عنصر، معظمهم من القبائل العربية بدارفور.

سرعان ما توسعت مهام هذه القوات داخل وخارج الأراضي السودانية، فمن جهة قاموا بضبط الهجرة غير النظامية على الحدود السودانية الليبية، ومن جهة أخرى شاركوا ميدانيا في حرب اليمن، ولكن الأهم هو الدور الذي تقوم به داخل المدن من مواجهة المعارضة والمظاهرات.

عندما يتم تقديم عبارة قوات الدعم السريع في السودان، لابد أن تلحق بكلمة "التابعة للقوات المسلحة"، ويترأسها حاليا الفريق محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي"، وكان لها موقف مختلف عن بن عوف، حيث رفض حميدتي بشكل واضح خطة المجلس العسكري الانتقالي الذي أعلن أنها ستكون سنتين، وطالب بفترة انتقالية قصيرة لا تزيد على 6 شهور، وهي من الأسباب التي دعت بن عوف لإعلان تنحيه سريعا، وتسليم القيادة إلى البرهان.

رفض التهدئة

المتظاهرون بقيادة، تجمع المهنيين السودانيين، ذلك التجمع الذي يقود حركة الاحتجاجات منذ البداية، رفضوا الانصياع إلى خطة الجيش، واللجنة الأمنية العليا، وظهر أمامهم تكرار النموذج المصري المخيف، الذي قضى على مكتسبات ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، بانقلاب عسكري دموي في 3 يوليو/ تموز 2013.

وأطلق التجمع دعوات بالاعتصام أمام مقر القيادة العامة في العاصمة السودانية الخرطوم، وعدم الانصياع لدعوات التهدئة والانصراف.

 

ورغم دعوة الجيش الجماهير إلى الالتزام بحظر التجول يوميا من العاشرة مساء وحتى الرابعة صباحا، محذرا المواطنين من عدم الالتزام بالحظر إلا أن المعتصمين أمام القيادة العامة للجيش أصروا على كسر حظر التجوال، ومجابهة القرارات العسكرية.

وفي 12 أبريل/ نيسان 2019، أصدر التجمع بيانا قال فيه "مطالبنا واضحة وعادلة ومشروعة، إلا أن الانقلابيين بطبيعتهم القديمة الجديدة ليسوا أهلا لصنع التغيير، ولا يراعون في سبيل البقاء في السلطة سلامة البلاد واستقرارها، ناهيك عن تحقيق المطالب السلمية المتمثلة في تسليم السلطة فورا لحكومة مدنية انتقالية كأحد الشروط الواجبة النفاذ".

انقلاب جديد

تحالفات المعارضة والمهنيين والمعتصمين حتى الآن، أجمعوا على أن ما حدث الجمعة 12 أبريل/نيسان، هو انقلاب جديد أيضا، مصرين في مطالبهم على محاكمة رموز النظام السابق، وتسليم السلطة لحكومة مدنية، وحل هيئات وقوات تتبع للنظام السابق، مثل "الدفاع الشعبي، والأمن الشعبي، والأمن الطلابي"، ومحاكمة مرتكبي الجرائم ضد المتظاهرين في الأحداث الأخيرة.

المؤكد أن السيناريوهات في السودان ما زالت مفتوحة على مصراعيها، ومن الوارد جدا حدوث انقلاب آخر من أطراف داخل الجيش لا علاقة لها بالقيادة المحسوبة على نظام البشير السابق، ورافضة لـ "برهان"، لتدخل السودان في دوامة لا تنتهي من انقلابات العسكر على بعضهم البعض.

السؤال الآن في ظل حالة الغموض التي تعيشها الثورة السودانية، هل ينجح الشعب هذه المرة في إزاحة العسكر من الحياة السياسية أم يظل مصيره متعلقا بقادة الجيش مع اختلاف الأسماء ويكونوا بثورتهم قد تخلصوا من نظام البشير، لكنهم في ذات الوقت قدموا الحكم للعسكر مرة أخرى على طبق من ذهب؟