الدين والدولة في إسرائيل.. علاقة جدلية منذ نشأة الصهيونية

12

طباعة

مشاركة

تمهيد

العلاقة بين الصهيونية والدين

الدين والدولة في إسرائيل

الالتزام الديني والطقسي كعرف من أعراف الحكومات المتتابعة

الأحزاب الدينية وتأثيرها في الحكومات واتخاذ القرار السياسي

خاتمة.. هل إسرائيل دولة علمانية؟


تمهيد

إذا كان المفهوم الموجز للعلمانية الذي يكاد يتفق عليه الجميع هو فصل الدين عن الدولة، فإن النموذج الإسرائيلي للعلمانية له خصوصية تجعله مختلفا، وتحاول هذه الورقة تتبع مفهوم العلمانية في إسرائيل، وطبيعتها، وإن كان ثمة فصل حقيقي للدين عن الدولة في إسرائيل أم لا، والأدوار التي يلعبها الدين ومؤسساته منذ نشأة الصهيونية وبعد إعلان الدولة وحتى يومنا الحالي. 

الجدال الدائر في إسرائيل حول العلاقة بين الدين والدولة يمكن رده إلى عدد من الفلاسفة اليهود، كل منهم يمثل توجها تبنته لاحقا إحدى الاتجاهات الصهيونية الحديثة: يأتي على رأس هؤلاء الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون (1138 – 1204م).

لقد كان ابن ميمون معنيا بفهم التوراة على أنها التعبير الحقيقي عن الفلسفة السياسية، وأن تطبيق وصايا التوراة هو السبيل للوصول للسعادة الحقيقية، وأن من وظائف الملك أو الحاكم – الذي يعد في الشريعة ممثلا لفكرة استقلال الدولة – أن يأخذ على عاتقه تنفيذ تعاليم التوراة، أو يفرضها عند الضرورة. 

هذه الرؤية التي كان ابن ميمون متأثرا فيها بعلماء الكلام المسلمين في عصره، تتعارض مع الواقع الحديث في إسرائيل، فهي تعرض لواقع بعيد جدا عن الصورة المثالية التي تصورها الشريعة، كما أن دولة إسرائيل القائمة حاليا هي حقيقة جديدة لم تكن متوقعة في التراث الديني في عصر ابن ميمون.

وعلى هذا الأساس لا ينبغي أن نتفاجأ بأن اليهودي المتدين سوف يواجه صعوبة كبيرة في أن يحدد بدقة علاقة الدولة ومؤسساتها بالقانون التوراتي.

لذلك يذهب فريق من المتشددين اليهود (الحريديم) إلى أن الدولة اليهودية الحالية بطابعها العلماني ليست شرعية طبقا للتعاليم الدينية، هذا الموقف المتشدد هو استمرار لاعتراض قديم من قبل أوساط أرثوذكسية على الحركة الصهيونية السياسية.

لكن في مقابل هذا الموقف السلبي، تقف الصهيونية الدينية موقفا إيجابيا من الصهيونية ومن الدولة، وترى أن جمع شتات اليهود وتحقيق الاستقلال السياسي هي علامة من علامات الخلاص.

السؤال المطروح هنا هو كيف يمكن التوفيق بين التعاليم الشرعية والواقع الحديث؟ تكمن المشكلة في كيفية تكييف المفهوم الديني حول طبيعة الدولة اليهودية ووظائفها مع الواقع الاجتماعي الذي لا يحافظ فيه غالبية الجمهور اليهودي على التوراة والتعاليم.

ثمة إشكالية سيكولوجية عند كثير من المتدينين، إذ إنهم يلتزمون بمبادئ الديمقراطية الحديثة، كحكم الأغلبية والحرية الدينية، وهي مبادئ تستند إلى مفهوم عن طبيعة الدولة يختلف عن ذلك المفهوم في اليهودية التقليدية.

في كتابه "رسالة في اللاهوت والسياسة" وضع باروخ سبينوزا (1632 – 1677) ردا نقديا على منهج موسى بن ميمون الفلسفي، وقدم تحليلا موسعا عن العلاقة بين الدولة والدين، وقدم موقفا مختلفا عنه، وهو موقف علماني في الأساس بناء على فهمه لأسس اليهودية.

ارتبطت صورة سبينوزا بالتاريخ الفكري للصهيونية الحديثة، حيث انجذب بعض القادة الصهاينة إلى فكره مثل دافيد بن جوريون في صراعهم مع التراث الأرثوذكسي. 

ثمة مسألة أخرى مهمة لهذه العلاقة القوية بين سبينوزا والصهيونية، إذ وضع سبينوزا ملاحظة عن قيام الدولة اليهودية من جديد في كتابه بقوله "فإذا لم تضعف مبادئ دينهم قلوبهم، فإني أعتقد بلا أدنى تحفظ.. بأن اليهود سيعيدون بناء مملكتهم في وقت ما، وأن الله سيختارهم من جديد".

وسواء كانت هذه العبارة قصدها سبينوزا بمعناها الظاهري أو كانت على سبيل السخرية – مثلما أشار د. حسن حنفي – فإن قادة الصهيونية الأوائل عدوها نبوءة حقيقية، لكنهم فسروها في إطار فلسفة سبينوزا من خلال نقطتين، أولهما: أن هناك مبادئا في الدين اليهودي التقليدي يجب التغلب عليها من أجل إعادة تأسيس دولة يهودية، ويظهر أن سبينوزا كان يقصد الموقف السلبي للأرثوذكسية اليهودية التي كانت ترى أن تحقق الخلاص السياسي أمر سماوي، لا ينبغي لليد البشرية التدخل فيه.

مقابل ذلك يرى سبينوزا أن إعادة تأسيس الدولة اليهودية هي حدث يتطلب تضامنا فعالا من الشعب اليهودي، وهذا يتطلب تغييرا جوهريا في الرؤية الأساسية عند اليهود تجمع بين الجانب الشرعي وضرورة وجود مبادرة إنسانية لتحقيق الهدف السياسي.

وقد كان التيار الرئيس للصهيونية السياسية الحديثة، والذي قاد في النهاية إلى إنشاء دولة إسرائيل، يسترشد بفكرة الدولة اليهودية ذات الطابع العلماني القومي، وبالتالي تبنى بشكل فعال افتراضات سبينوزا رغم أنه لم يكن معنيا من الأصل بإقامة دولة يهودية، وإنما ذكر ذلك في إطار فلسفته الناقدة لليهودية، حتى يخرج فكرة اختيار إسرائيل ذات الأصل الديني من رؤوس اليهود.

أما الفيلسوف الثالث فهو موشيه مندلسون (1729 - 1786) الذي لم يكن مؤيدا لفكرة الفصل الحاد بين المجتمع المدني والمعبد أو بين الدين والدولة التي ظهرت عند جون لوك، فهي فكرة غير صائبة لا تخدم مصلحة الإنسان، كما أنه في نفس الوقت لم يكن مؤيدا لخضوع الدين للدولة التي ظهرت عند سبينوزا. 

فالمصلحة العامة عند مندلسون والتي يتحد من أجلها الجميع تشمل الأمور الروحية والدنيوية، إلا أن ثمة اختلافا جوهريا بين الدين والدولة في طرق فرض الواجبات، فبينما من صلاحيات الدولة فرض الأعمال النافعة للعامة، فإن الفعل الديني لا يكون تدينا إلا إذا كان نابعا من رغبة حرة ونية صادقة وهذا يعني أنه يطالب بالحرية الدينية الكاملة من الدولة، وأن تكون الحياة الدينية قائمة على الحرية الدينية المطلقة. 

هذا الموقف لم يكن من الممكن أن تتقبله الأوساط الأرثوذكسية، لكن أفكار مندلسون وجدت صداها الأساسي عند اليهودية الليبرالية.

هناك تصور آخر وضعه الفيلسوف اليهودي موشيه هيس (1812 - 1875)، وهو أقرب للنموذج الذي نراه في إسرائيل حاليا في علاقة الدين بالدولة.

فقد رأى هيس أن الشعب اليهودي أمة مزجت بين الدين والتقاليد والعقيدة والأخلاق والسيادة، وهي رؤية تدمج بين الصهيونية السياسية والروحية، أو بين الدين والدولة، وهذه الرؤية صارت إحدى الخصائص الرئيسة للصهيونية في الوقت الحاضر، وحسب تعبير شلومو حسون "كأن الجمهور اليهودي قد عاد بطريقة أو بأخرى إلى فلسفة موشيه هيس". 

يبدو الأمر هنا كأن إسرائيل قد انتقلت من نموذج سبينوزا في بدايات التأسيس، إلى نموذج موشيه هيس في وقتنا الحالي.


العلاقة بين الصهيونية والدين

يمكن القول إنه مع نهاية الوجود السياسي لمملكة يهوذا (586 ق.م) أصبح الرابط الحقيقي الذي يربط بين اليهود هو الكهنوت وممارسة الطقوس، وأصبحت الطقوس الدينية هي الإطار الذي يشكل الهوية اليهودية، وهي التي تحافظ على العلاقات الاجتماعية المتينة في ظل عدم وجود كيان يهودي مستقل.

وهذا بالطبع يعني أن الحاخامات ورجال الدين هم الذين قادوا الأقليات اليهودية في معظم البلدان التي عاشوا فيها، وأصبحت لهم مكانة متقدمة بين اليهود لأنهم كانوا المسؤولين عن فهم الدين وممارسة الشعائر الدينية، وقد نشأ عن ذلك بالطبع قيامهم بأدوار اجتماعية كبيرة، لكن الأهم هو اضطلاعهم بأدوار سياسية نتيجة أنهم كانوا حلقة الوصل بين أبناء طائفتهم وسلطات الدول التي يعيشون فيها.

لقد كان الكاهن الأكبر عند اليهود في عصر الدولة العثمانية يحصل على لقب الحاخام باشا، وهو منصب جعلته الدولة العثمانية من أجل تسيير الشؤون الخاصة باليهود داخل الطوائف اليهودية المنتشرة في أرجاء الدولة، وتدل الشواهد على أن هذا المنصب كان يتعدى الشأن الديني لأعمال غير دينية والتي يأتي على رأسها الدور السياسي.

كذلك كان قرار قبول يهود فرنسا بالاندماج في الدولة أثناء حكم نابليون راجعا إلى مجلس الحاخامات الباريسي (الذي كان يتكون من 112 حاخاما يهوديا)، وقرر هذا المجلس أن يكون لفرنسا "أولوية الولاء الاجتماعي والسياسي"، ونتيجة لذلك كان اليهود يحصلون على دعم مالي من الدولة يدفع للحاخامات، كما أن نابليون جعل اليهودية إحدى الديانات الرسمية في فرنسا في مقابل أن يصبح ولاء اليهود الأول لفرنسا وأن يتم استيعابهم في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية.

كما أن الحاخام الأكبر في فلسطين خلال الانتداب البريطاني كان يلعب دورا سياسيا مهما خاصة في الفترة من 1936 - 1945، حيث شغل هذا المنصب الحاخام إسحاق هاليفي هرتزوج ثم ابن صهيون مائير هاي عوزيئيل. 

وحرص الانتداب البريطاني على إبقاء هذا الدور السياسي للحاخامية غير بارز كي لا تتحول فكرة الوطن القومي إلى كيان سياسي حتى لا يفضي ذلك إلى معارضة عربية، ولذلك فإنهم ركزوا على الدور الديني للحاخامات. 

أي أن البريطانيين أرادوا أن يظهروا الوجود اليهودي في فلسطين على أنه وجود لطائفة يهودية، لأن إظهار الدور السياسي للحاخامية كان من شأنه أن يؤكد على أن اليهود في فلسطين لم يعودوا مجرد طائفة دينية، وأنهم يسعون لإقامة دولة بمساعدة البريطانيين.

انطلاقا من هذا الدور السياسي فإنه من نافلة القول أن يكون لرجال الدين دور كبير في دعم الصهيونية ونشر أفكارها، وهناك حالات أكثر من أن تحصى في هذا السياق، منها مثلا أن إحياء مفهوم ما يعرف بأرض الميعاد يعود إلى الحاخام اليهودي إسحاق بن شلومو لوريا المعروف بـ "ها آري" الذي عاش في فلسطين خلال القرن السادس عشر.

وينتسب الحاخام ها آري إلى مدرسة صوفية، وهو صاحب مدرسة فكرية ثورية ثارت على تقاليد الماضي وإليها ينسب الفضل في إدخال فلسطين إلى دائرة الوعي الاجتماعي والديني ليهود الشرق.

وسعى حاخامات اليهود في العالم الإسلامي بربط أبناء طائفتهم بفكر الحاخام ها آري ومثال ذلك ما قام به الحاخام تسدقا حوتسين الذي تولى زعامة الطائفة اليهودية في العراق عام 1740 وقاد حركة نهضة ملموسة لنشر فكر ها آري الذي أولى اهتماما كبيرا بـ "أرض الميعاد".

كذلك قام الحاخام يهودا القلعي (1798 - 1878) بالربط بين الآمال المسيحانية (الخلاص) والمشاريع القومية، وكانت له أنشطة عديدة في أوربا وأثر في فكر باروخ ميتراني 1847 - 1919 الذي كان يدعو لإحياء العبرية وكان من أبرز دعاة الاستيطان في فلسطين، وأسس هيئات للاستيطان في فلسطين وهاجر إليها ومات فيها.

لعب حاخامات الشرق دورا كبيرا في إقرار الصهيونية بين أبناء طوائف اليهود في الشرق، من بين ذلك ما قامت به الطائفة اليهودية في مصر، عندما أجرت استقبالا حافلا للكتيبة 38، التي أسسها البريطانيون عام 1917 أثناء الحرب العالمية الأولى، بعد سعي مستمر من فلاديمير جابوتنسكي زعيم الصهيونية الدينية، بهدف أن تقوم هذه الكتيبة بالدفاع عن فلسطين إذا ما امتدت الحرب إليها، وقد أرسلت هذه الكتيبة إلى مصر لاستكمال تدريبها.

أجري هذا الاحتفال باسم الحاخام الأكبر للطائفة اليهودية في مصر، وحين وصلت هذا الكتيبة إلى القاهرة أقيم لها احتفال رسمي في المعبد اليهودي الرئيس بالقاهرة.

إن كون عامل الدين هو العامل الأهم في انتشار الصهيونية وحصولها على تأييد غالبية اليهود في مصر للصهيونية، لا يعني أن الأمر مختلف في باقي البلدان، فقد كان الدين ورجاله هم العامل الأول في انتشار الصهيونية في كل مكان.

كان الحاخام يوسف باروخ ماركو (1872 - 1899) الذي ولد في القسطنطينية وتعلم في فرنسا من كبار الداعين للصهيونية، حيث زار مصر ودعا فيها إلى القومية اليهودية واحتلال فلسطين، وهو من أسس أول جمعية صهيونية في مصر سميت جمعية "بركوخبا". 

كذلك أيد العديد من الحاخامات في سالونيكا الصهيونية على رأسهم كبير الحاخامات هناك "يوسف ناعور" والحاخام يعقوب مائير.

كما يعود نشر الصهيونية بين يهود جورجيا - طبقا لرأي المؤرخ اليهودي ناتان إيلياشفيلي – إلى الحاخام دافيد بازوف (1883 - 1947) الذي كان شديد الحماس للصهيونية، وهو الذي ينسب إليه إيقاظ الحس القومي بين يهود جورجيا.

بالطبع رفض بعض الحاخامات الصهيونية لأسباب أيديولوجية، ففي بداية نشأة الصهيونية السياسية (نهاية القرن التاسع عشر) نظر إليها بعض الحاخامات والمؤسسات الدينية على أنها تنطوي على خطيئة، فقد وجدوا فيها تحديا غير مرغوب به لزعامتهم وسلطتهم. 

وهذا الاتجاه خف بمرور الوقت لدى الأرثوذكسية اليهودية ولم يظل متمسكا به سوى قلة من رجال الدين اليهود من المنتمين إلى جماعة ناطوري كارتا، وعلى النقيض نشأ فرع من المتدينين ممن ساندوا الصهيونية وجعلوا لها فرعا دينيا ـ الصهيونية الدينية (مزراحي)، إذ قالوا إنه لا تعارض بين الدين والصهيونية.

فالصهيونية يمكن أن تحقق الخلاص المنتظر وليس بالضرورة أن يكون المخلص شخصا واحدا، وهؤلاء لم يعتبروا الصهاينة يد الله التي تنفذ الوعد لإسرائيل بل نادوا إلى الانخراط في الصهيونية، أما الفريق الثالث فرفض الصهيونية عقائديا، لكنه كان يقبل إنجازاتها السياسية والعسكرية وهؤلاء الذين أسسوا حركة "أجودات يسرائيل = اتحاد إسرائيل".

هناك من الحاخامات من رأى في الصهيونية خطوة في طريق تحقيق الوعد الإلهي، إذ تعتقد يشيفا مركز هاراف (وهي بمثابة كلية تلمودية صهيودينية تأسست عام 1921 على يد أفراهام يتسحاق كوك أول حاخام أكبر لإسرائيل وهي تعد صاحبة أكبر لاهوت سياسي في زمننا المعاصر يغطي موضوع دولة إسرائيل والعالم اليهودي بصورة أوسع) أن الصهيونية العلمانية التي تأسست على يد هرتزل عام 1896 ما هي إلا خطوة أولى لإنجاز الوعد بإسرائيل.

ولكي يتسنى تحقيق المرحلة الحاسمة لإنجاز إسرائيل يجب إيجاد تآلف بين المقدس والعلماني، بين الروحي والواقع السياسي، وهذا التآلف سوف يأخذ في الحسبان تميز الشعب اليهودي وأرضه، وسوف تكون إسرائيل قادرة على تحقيق هذا الهدف من خلال تأثير الصهيونية الدينية ويشيفا مركز هاراف.

لكن في مقابل ذلك كثيرا ما كانت معارضة الحاخامات للصهيونية من باب التقية – خاصة في البلدان الإسلامية - لأن تأييد الصهيونية كان من شأنه إثارة السلطات الحاكمة في البلدان الإسلامية، وهو ما بدا واضحا في موقف الحاخام حاييم ناحوم كبير حاخامات القسطنطينية الذي عارض الصهيونية لخوفه من إثارة غضب السلطات العثمانية الي كانت تقف موقفا معاديا ضد الصهيونية.

ولذلك كانت مواقف الحاخامات من الصهيونية تتغير عندما تصبح الظروف مواتية مثلما حدث مع الحاخام الأكبر ليهود تركيا الذي حول عداءه للصهيونية لتأييد لها، بل ودعا لعقد مؤتمر صهيوني ليهود تركيا عام 1919، ومثله كذلك الحاخام أهرون ساسون في بغداد، و م. ي. سحيق في البصرة.

قد يصح أيضا في حالة بعض الحاخامات، أصحاب التوجه الديني المحافظ، القول بأن تغير مواقفهم من الصهيونية من المعارضة إلى التفاعل الإيجابي مع أفكارها الأساسية كان من قبيل عدم السباحة ضد التيار، إذ لم يكن بمقدور مواقفهم الرافضة صرف أنظار شباب اليهود عن الحركة الصهيونية.

وهذا يشير إلى أن الصراع بين الصهيونية والدوائر الدينية المحافظة كان عادة ما يحسم لصالح الصهيونية، لكن في المقابل فإن حاخامات اليهود غير التقليديين كانوا يسهمون في دعم الصهيونية واغتصاب فلسطين.

وقد يكون من الأنسب القول بأنه رغم التنوع والتناقضات بين التيارات الصهيونية المختلفة (الصهيونية السياسية والصهيونية الدينية) إلا أنه كان هناك اتفاق واسع بينها حول الأهداف، وهناك أيضا استعداد كبير فيما بينها للتعاون من أجل تحقيق تلك الأهداف، ويقرر الباحثون أن العنصر الديني كان موجودا منذ بداية الصهيونية وبشكل دائم.

إن دور الدين في نشر الحركة الصهيونية أكبر من أن يمكن إنكاره، بل إن الصهيونية العلمانية لم تبتعد يوما عن الدين، وكما تقول "أورلي نوي" فإن الصهيونية حين تحاول توسيع نطاق عملها لتشمل كل اليهود في العالم، فهذا في حد ذاته فعل ديني أكثر منه قومي، وحتى حين تقوم الصهيونية العلمانية بتوظيف الدين وتجعل من اليهودية حارسا للقومية، فإنها تكون بذلك قد دمجت الدوافع الدينية ضمن الصهيونية.

ورغم أن الصهيونية العلمانية، وفق محللين، كانت هي من يدير العجلة دائما في إسرائيل إلا أنها لم ترد أن تنفصل عن الأجنحة الدينية، بل ولم تكن تستطيع أن تفعل ذلك.


الدين والدولة في إسرائيل

إن اختيار الصهيونية العلمانية لفلسطين تحديدا لتكون وطنا لليهود على أساس فكرة الأرض الموعودة التوراتية كان اختيارا دينيا، كما أن بناء وطن قومي على أساس الدين اليهودي، وسن قانون العودة القائم على أساس ديني ليسمح لكل يهودي أو متهود على يد الحاخامات في العالم بالعودة إلى "أرض الميعاد"، وتوظيف العاطفة الدينية لدفع اليهود للهجرة إلى فلسطين هو أيضا فعل ديني، أضف إلى ذلك أيضا أن الدعوة المتجددة ليهودية الدولة هي دعوة دينية عنصرية.

في هذا الإطار يتساءل أحد الكتاب الإسرائيليين: إذا كان العلمانيون قد حرروا أنفسهم من الدين والمعتقد وفرضوا سيادة الفرد ومسؤوليته عن مصيره بديلا عن الدين، فما هي القوة المتعالية التي دفعت لإنشاء جماعة وطنية في فلسطين تحديدا وليس في أوغندا أو غيرها؟ هذا كله يشير إلى أن العامل الديني كان ولازال وسوف يبقى العامل الأهم في نشأة ووجود هذا الكيان.

وهذا بدوره يعني أنه رغم الأصوات التي تنتقد الحاخامات أحيانا أو كثيرا، ورغم تململ قطاع من الصهاينة من تدخل الأحزاب والمؤسسات الدينية في تسيير شؤون الدولة، فإن المميزات التي يحصل عليها المتدينون، واحترام الدولة للتشريعات التوراتية، وزيادة نفوذ الأحزاب والقوى الدينية، والجدل الدائر حول طاعة الجنود هل تكون للأوامر العسكرية أم لأوامر التوراة كلها أمور تشير إلى متانة العلاقة بين الدين والدولة في إسرائيل.

ويصور شلومو حسون العلاقة بين الدين والدولة في إسرائيل بأنها علاقة تكامل (أو تصالح)، وهذا ظاهر في المجال القومي، والسياسي، والاجتماعي، والثقافي.

في المجال القومي: يظهر هذا التكامل منذ قررت الحركة الصهيونية العودة إلى الماضي القومي والرموز الأساسية للشعب اليهودي، هذه الخطوة صوحبت بتوتر ثم تكامل بين الموطن التاريخي والأرض المقدسة التي منحت ضمن وعد ديني، وبين العبرية كلغة حديث، والعبرية كلغة مقدسة، وبين التناخ (أكثر أسماء الكتاب المقدس العبري شيوعاً في الأوساط العلمية) أي كتاب اليهود المقدس (بأعياده وطقوسه) كمصدر للثقافة القومية، والتناخ ببعده الديني.

لم تحافظ الصهيونية على علاقتها بالدين في موضوع العودة لأرض الميعاد فحسب، بل أيضا في تمسكها بطريقة الانضمام للشعب اليهودي، فبعد إقامة الدولة ارتبط الانضمام للشعب اليهودي بعملية التهويد وهي فعل ديني، وكان الجدال يدور حول نوعية الحاخامات المسموح لهم بالتهويد، وليس حول مبدأ التهويد كمبدأ ديني في حد ذاته، فإذا كان من حق كل يهودي الحصول على الجنسية في إسرائيل فإن الطريق للحصول عليها يجب أن يمر أولا عبر عملية التهويد الدينية.

وفي المجال السياسي تتجلى علاقة التكامل بين الدين والدولة بتجنب الأغلبية استخدام سلطتها في حسم المسائل الخلافية، وثمة ترتيبات تجري دائما للتوافق مع الأقلية الدينية من خلال احترام مطالبهم في القضايا الأساسية كالسبت، والزواج، وموافقة أحكام الشريعة في أمور الدولة والتعليم.

فمنذ نشأة النظام في إسرائيل كان ميل ديمقراطيتها هو خلق اتفاقات براجماتية بين الدين والدولة، أو بين الأحزاب على أساس مراعاة القيم اليهودية والمصالح المشتركة.

وفي المجال الاجتماعي تظهر علاقة التكامل في التزام غالبية اليهود العلمانيين في إسرائيل بالرموز والطقوس الدينية، فأغلب الجمهور الإسرائيلي وضمنهم الجمهور العلماني بالطبع يحرص على دمج الطقوس الدينية في أسلوب حياته، كالختان، وطقوس البلوغ، والزواج طبقا للأحكام الدينية، وغيرها من الأمور الدينية.

وطبقا للاستطلاع الاجتماعي الذي أجرته الهيئة المركزية للإحصاء سنة 2009 مستهدفا العلمانيين في إسرائيل فقد أظهر أن نسبة 82 بالمئة يشتركون دائما في طقوس عيد الفصح، وأن 67 بالمئة يوقدون شموع الاحتفال بعيد الحانوكا، وأن 29 بالمئة يحرصون دائما على إيقاد شموع السبت، وأن 26 بالمئة يصومون دائما في يوم الغفران، وأن 22 بالمئة يستمسكون بالطعام الشرعي في عيد الفصح.

تنعكس علاقات التكامل على المستوى الاجتماعي أيضا في الاندماج المتزايد للأرثوذكس المتشددين في الأنظمة السياسة والتطوع والتوظيف وحتى في الجيش، وفي الدور المركزي الذي تلعبه اليهودية القومية الدينية في تشكيل صورة الدولة في الخدمة في الجيش وفي تشكيل الأجندة المدنية.

إن علاقات التكامل، أو علاقات التصالح بين العلمانيين والمتدينين لا تمنع من وجود حالة من التوتر بين التيارين، فقد كشف استطلاع رأي إسرائيلي أجري عام 2012 أن التوتر بين العلمانيين والمتدينين هو ثان أقوى توتر في إسرائيل، حيث اختار 59.7 بالمئة من المستطلعة آراؤهم التوتر بين العلمانيين والمتدينين كأقوى توتر، مقابل 70.6 بالمئة اختاروا التوتر بين اليهود والعرب في إسرائيل.


الالتزام الديني والطقسي كعرف من أعراف الحكومات المتتابعة

كان التزام رؤساء الحكومات الإسرائيلية بالطقوس الدينية اليهودية منذ أول حكومة وحتى يومنا الحالي واحدا من السمات الأساسية التي اتسم بها الكيان الصهيوني.

فمنذ حكومة دافيد بن جوريون الأولى كانت الحكومات تحرص على ذلك وبشكل معلن بغض النظر عن كونها يسارية أو يمينية.

ولم تكن أي من الحكومات لتقف موقفا معاديا للدين على الإطلاق، وهذا يرجع لعدة أسباب أحدها وجوب احترام الدين احتراما شديدا في دولة قامت في الأصل على أساس ديني، إلى جانب ذلك فإن اضطرار الأحزاب العلمانية للدخول في ائتلافات لتشكيل الحكومات المتعاقبة فرض عليها إظهار هذا الالتزام والمبالغة فيه، وتقديم التنازلات للحفاظ على استمرار الائتلافات الحاكمة.

في هذا الصدد هناك مثالان صارخان يتعلقان بموقف اليهود المتدينين من مناحم بيجين ويتسحاق رابين، فبينما كان الموقف إيجابيا من الأول حين علق كثير من أعضاء جماعة جوش إمونيم (وهي جماعة دينية قومية نشأت بعد حرب 73 لتشجيع الاستيطان) بعد فوز مناحيم بيجين في انتخابات 1977 التي فاز فيها الليكود بـ 43 مقعدا بقولهم "لقد جاء عصر المسيح"، وذلك بعد إجابة بيجين عن سؤال: إن كان سيضم الضفة الغربية لنهر الأردن بقوله: "لا يمكن أن نتحدث عن ضم أرض تعد جزءا لا يتجزأ من إسرائيل". 

في مقابل ذلك كان دخول يتسحاق رابين في اتفاق أوسلو السبب الأساس في غضب جمهور المتدينين واتهامه بالخيانة وبيع الأرض، واعتباره عدوا للشعب الإسرائيلي، بل إن بعض رجال الدين صرحوا بأنهم لن يكونوا آسفين إذا ما قتل رابين، وقد قاد ذلك في النهاية إلى اغتياله على يد يجآل عامير الذي تعلم في المدارس الدينية والتحق بجامعة بر إيلان التي تأسست على يد التيار الديني القومي.

تمكنت الأحزاب الدينية من أخذ موافقة الدولة على دعم المدارس الدينية، وبالتالي زاد عددها، كما تمكنت من الحصول على الإعفاء الاختياري من الخدمة العسكرية لطلبة المدارس التلمودية رغم إلزامية الخدمة العسكرية في إسرائيل، يضاف إلى ذلك سيطرة المؤسسات الدينية على كل ما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية.

وحتى في مسألة دفن الموتى والطريقة التي يتم الأمر بها، ومدى مراعاة أحكام الشريعة اليهودية من عدمه، وسيطرة المؤسسة الدينية على جميع المقابر والخدمات الدينية المتعلقة بها فإن اليهود العلمانيين لا يملكون خيارا بهذا الشأن.

وثمة قصة متداولة تؤكد مدى مبالغة رجال الدين في إظهار ذلك حين مات أحد المهاجرين اليهود ذوي الأصل الروسي في حادث سيارة، وأثناء إجراءات الدفن تبين أنه لم يكن مختونا، فأفتى الحاخامات بوجوب ختنه قبل الدفن حتى يصبح عضوا في جماعة بني إسرائيل.

كما نجحت القوى الدينية كذلك في منع طائرات العال من الطيران أيام السبت، وفي ذلك تقول شولاميت ألوني "سيدخل الدين في مطابخكم وسيتوزع المتدينون عاجلا في شوارعكم وفي سواحل شواطئكم وفي مدارسكم وعلى أسرة نومكم".

ومنذ قيام إسرائيل تأسس داخل الجيش ما يعرف بالحاخامية العسكرية التي تنامى دورها مع مرور الوقت، وأصبحت تقوم بكل ما يتعلق بالطقوس والشعائر الدينية في الجيش، ويتوزع قادة هذه الحاخامية ليكونوا جزءا ضمن قيادة كل كتيبة من كتائب الجيش الإسرائيلي.

ويتناول عملها كل صغيرة وكبيرة يمكن أن تكون ذات علاقة بأمور الشريعة، بداية من مراعاة طقوس السبت، والظروف العسكرية التي يمكن فيها تجاوز هذه الطقوس، وأماكن العبادة داخل الوحدات العسكرية، وكيفية تطهيرها، وإيقاد الشموع في الأعياد، والصلوات والأدعية ومواعيدها المختلفة، واللبس الديني ومتابعة موافقة الإمدادات الغذائية والطعام للتعاليم الدينية، ومراسم الزواج والطلاق للجنود، ومراسم دفن القتلى من العسكريين، ومتابعة علاجهم، والتأكد من سماح الوحدات العسكرية للجنود بأداء صلواتهم.

ومن المهم أن نذكر هنا أيضا أن الحاخامية العسكرية أكثر ميلا لاتباع آراء قياداتها الدينية من اتباعها لقيادتها العسكرية. 

ثمة أمثلة ونماذج كثيرة كلها تؤكد على أن مسألة احترام الطقوس الدينية كانت ولازالت تلقى أهمية كبيرة لدى الحكومات المتعاقبة حتى يومنا الحالي، وسواء كان ذلك عن قناعة الأحزاب العلمانية التي تقود الحكومات، يمينية كانت أو يسارية، أو من باب السلوك البراجماتي فإن ذلك يعني أنهم كانوا يدركون أهمية ذلك عند جمهور اليهود وخاصة المتدينين منهم، الذين أدركوا بدورهم بأن الدين سيد السلطة.


الأحزاب الدينية وتأثيرها في الحكومات واتخاذ القرار السياسي

إن طبيعة الوضع السياسي في إسرائيل والاضطرار الدائم لتشكيل حكومات ائتلافية أعطى أهمية كبيرة للأحزاب الصغيرة لا تتناسب مع حجمها الحقيقي، وجعل هذه الأحزاب تفرض كلمتها على الأحزاب الكبيرة الفائزة بالانتخابات، وأدى لرضوخ الأحزاب الكبيرة لإرادتها في كثير من الأحيان.

شكل بن جوريون حكومته الائتلافية الأولى والثانية التي ضمت 3 وزراء من قائمة الأحزاب الدينية الفائزة حينها بـ 16 مقعدا في انتخابات الكنيست الأولى، وتعهد بن جوريون زعيم حزب المباي اليساري بأنه لن يمس التقاليد الدينية اليهودية إرضاء لهذه الأحزاب.

وفي ظل ذلك الوضع حصلت الأحزاب الدينية منذ وقت مبكر على حرية كاملة للعمل وفق إرادتها، وقد وظفت هذه الأحزاب الدينية كامل طاقتها في إدارة نظام تعليمي ديني خاص بهم.

ومنذ اليوم الأول في إعلان نشأة الكيان الصهيوني حدد يوم السبت عطلة رسمية تعطل فيه كل مؤسسات الدولة العامة، والمؤسسات والمحلات الخاصة باستثناءات محدودة احتراما للشريعة اليهودية، ومنحت الأحزاب الدينية وطلاب التعليم الديني ميزات خاصة وصلت فيما بعد – كما ذكرنا سابقا - إلى حد إعفاء طلاب المدارس الدينية (اليشيفا) من الخدمة العسكرية.

ومع ظهور حزب شاس الديني المتطرف (1984) دخل المتدينون مجال استخدام الإعلام، وكان حاخامات الحزب ينتقدون ما أسموه "فراغ وعفن الحياة الإسرائيلية غير الدينية" وكانوا يحققون نجاحات كبيرة في هذا الإطار.

هذا بالطبع أدى لتعاظم مكاسب الأحزاب الدينية التي شاركت في كثير من الأحيان في الحكومات الإسرائيلية سواء قادها اليسار أو اليمين، وفي أكثر الأحيان كانت تضغط لنيل مزيد من المكاسب.

من ذلك أن قادة حزب شاس الديني المتطرف الذي كان مشاركا في حكومة عام 1992 التي قادها حزب العمل برئاسة يتسحاق رابين ومشاركة حزب ميرتس وكلاهما يساريان، هددوا بالتخلي عن الحكومة بسبب اعتراضهم على تناول وزيرة التعليم حينها – شولاميت ألوني – غداءها في أحد المطاعم التي لا تراعي الأحكام الدينية المتعلقة بإعداد الطعام (الكاشير)، فضلا عن اعتراضهم على بعض تصريحاتها الدينية حتى أرغمها رابين نفسه على الاعتذار لتخطي هذا الأمر.

دفع ذلك الصحفي الإسرائيلي يوئيل ماركوس للقول "إن كل تنازل في هذه الأمور يؤدي فقط إلى التشجيع لطلب المزيد" وفي موضع آخر يقول متهكما "إننا نستطيع أيضا أن نتوقع أن يطلب من كل وزير وكل عضو بالكنيست أن يصطحب مفتشا للطعام الكاشير".

جدير بالذكر هنا أن حزب شاس كان فائزا فقط بستة مقاعد مقابل 44 مقعدا لحزب العمل، و 12 مقعدا لميرتس.

وكان ليشيفاه مركز هاراف في أورشليم دور بارز في التأثير على العديد من الشخصيات الدينية والسياسية الذين كان لهم دور في تأسيس جوش إمونيم، كما كان لها دورها في إقامة العديد من المستوطنات في الضفة الغربية.

كما كان لكثير من أتباع الصهيونية الدينية الذين اندمجوا في يشيفاه مركز هاراف دور رائد في قيادة المعارضة ضد رئيس الوزراء إسحاق رابين بخصوص اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية 1993، وضد رئيس الوزراء شارون عند الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة، وعند إخلاء بعض المستوطنات في الضفة الغربية عام 2005.

كانت جنائز رجال الدين فرصة مهمة لتقرب قيادات الأحزاب العلمانية للأحزاب الدينية ومؤيديها، ففي جنازة مردخاي إلياهو عام 2010 (وهو الحاخام الأكبر الأسبق لإسرائيل، والذي حاز منصبه بترشيح من الحزب الديني القومي) قال رئيس الكنيست رأوفين ريفلين (ليكود) "لقد كان الربي (إلياهو) من أولئك العظماء الذين ستبقى وصاياهم كعمود نار لكل رجال الدين" (لاحظ أن لفظة عمود نار لفظة توراتية جاءت في سياق ظهور الرب لموسى، وهو يشير إلى مدى تغلغل الحس الديني عند قيادات بني إسرائيل).

وفي نفس السياق رثاه نتنياهو (رئيس الوزراء في ذلك الوقت) قائلا: "لقد كان في طليعة قادة الصهيونية الدينية، وكان مخلصا لشعبنا، وكان دائما يعشق أقوال التوراة"، ومما يذكر أن مناحم بيجين كان قد زار هذا الحاخام عشية قصف المفاعل النووي العراقي لينال موافقته. 

وقد تولى إلياهو منصب الحاخام الأكبر لمدة 10 سنوات، وفيها أصدر فتوى بمنع التنازل عن أي جزء من الأرض للفلسطينيين، ورأى أن أراضي جنوب لبنان وأجزاء من سوريا هي جزء من أرض اليهود، وأيد حرب لبنان الأولى، ورأى أنها حرب تستند على الوصايا الدينية.

وفي تشييعه، قال رئيس بلدية القدس "نير بركات" "لقد أتيحت لي فرصة عظيمة لألتقي بالربي (إلياهو) وأخبرته أن كل شعب إسرائيل يحبونه، المتدينون وغير المتدينين، الشرقيون والغربيون، كما أنه أوصاني أن أحافظ على القدس، وهذا بالنسبة لي أمر يجب أن ينفذ"


المؤسسات الدينية والمؤسسات العلمانية، من يتدخل في عمل من؟

إذا انتقلنا للوضع الحالي في العلاقة بين الدين والدولة في إسرائيل، فإن أول ما نلحظه هو أن أطراف الصراع (العلمانيين والمتدينين) لا يحافظون على نقاء أفكارهم الأصلية لأسباب مختلفة أحدها بالطبع النهج البراجماتي المهيمن على الساحة السياسية، لكن الصراع قائم بين الجانبين.

يكفي لتوضيحه أن نشير لمسألة دمج الحاخامية الدينية في إطار الدولة، حيث كان الاتجاه هو دمج الحاخامية الأرثوذكسية (الصهيونية) في نظام الدولة، على أساس أن قانون الدولة هو الذي ينظم انتخاب أو تعيين السلطات الحاخامية المركزية والمحلية وكذلك المؤسسات القضائية والهيئات الإدارية، وجميع هذه المؤسسات ممولة من الدولة، وتخضع لإشراف محكمة العدل العليا. 

لم يؤد دمج الحاخامية في إطار الدولة إلى معارضة كبيرة، لكن القبول المبدئي لفكرة الاندماج كان قائما على أيديولوجيتين متعارضتين.

كانت عملية دمج المؤسسات الحاخامية في إطار الدولة - في نظر الأوساط الدينية الصهيونية - دليلا إيجابيا على ارتباط الدولة باليهودية.

وكانت هذه الأوساط تنكر، من حيث المبدأ، علمانية دولة إسرائيل، وبالتالي اعتبرت الاعتراف الرسمي بالحاخامية إجراء مهما لتعميق الطابع اليهودي للدولة. 

أما من حيث التعاليم السياسية لابن ميمون، فيمكن القول بأن تحقيق الدين من خلال المؤسسات الحاخامية الرسمية هو تحقيق المصير الطبيعي للدولة اليهودية حسب رؤية هذه الأوساط.

في المقابل، كان للمؤسسة السياسية العلمانية وجهة نظر مغايرة تماما، إذ ينقل عن ديفيد بن غوريون الذي يعد مؤسس الترتيب القائم بين الدين والدولة في إسرائيل في رده عن سؤال عن علاقة الدين بالدولة قوله "أنت تطالب بفصل الدين عن الدولة حتى يصبح الدين عنصرا مستقلا يتعين على الحكومة السياسية التعامل معه؟! أنا أرفض هذا الفصل، أنا أريد أن تمسك الدولة الدين بيدها".

لقد كان بن جوريون من أشد المعجبين بسبينوزا، وعلى دراية بتداعيات نظرية سبينوزا، وكان حريصا على أن يكون الدين خاضعا للدولة حرصا على استقرار السلطة السياسية.

كان من الطبيعي أن يؤدي هذا التضارب الأيديولوجي في دمج الحاخامية في الدولة إلى صراعات، خاصة فيما يتعلق بوضع حدود عمل الحاخامية وحريتها. 

فالنهج العلماني كان يميل إلى رؤية الحاخامية كهيئة إدارية عادية، مكلفة بأداء وظائف محددة تحددها الدولة، وبالتالي تكون تحت إشراف محكمة العدل العليا، وأن يكون أي نشاط غير مذكور في القانون انحرافا محظورا.

من جهتها، رأت الحاخامية نفسها هيئة مستقلة، حرة في القيام بجميع المهام والوظائف المنوطة بها في إطار النظام القانوني الديني.

لم يكن من المستغرب في ظل هذه الاختلافات في النهج أن تنشأ صراعات حادة بين الحاخامية والدولة، رغم أن معظمها كان ينتهي بنوع من التسوية.

لقد كان التيار الديني القومي شريكا في المشروع الصهيوني منذ البداية، لكنه رغم ذلك كان يلعب دورا هامشيا في النظام السياسي لفترة طويلة.

وبداية من السبعينيات قام هذا التيار بدور رائد في عملية الاستيطان، ولاحقا أصبح لاعبا مؤثرا في الجيش الصهيوني، وتكشف الإحصائيات أن هذا التيار أصبحت له قوة كبيرة ومؤثرة في المؤسسات الإسرائيلية.

فهذا التيار يشكل نسبة لا تزيد عن عشر إجمالي السكان في إسرائيل لكن نسبته بين الضباط في الجيش الصهيوني - رغم ذلك – تزيد عن 40 بالمئة من إجمالي ضباط الجيش.

علاوة على ذلك، فإن أبناء هذا التيار الديني هم في طليعة معاهد البحوث ذات الطابع القومي، والتي تشارك بقوة في وضع المناهج التعليمية والتشريعات، وفي تحديد السياسات.

ومن أبرز هذه المعاهد مركز شاليم، ومركز القدس للسياسة العامة، ومعهد الإستراتيجية الصهيونية. أضف إلى ذلك أن التيار الديني القومي هو الذي أسس جامعة بار إيلان عام 1950، وهي ثاني أكبر جامعة في إسرائيل، ولا يزال يسيطر عليها، وقد سميت الجامعة باسم الحاخام مائير بار إيلان وهو أحد قادة الصهيونية الدينية، ورئيس حركة مزراحي التي تنتمي للصهيونية الدينية.


خاتمة.. هل إسرائيل دولة علمانية؟

الذي يحدد هوية الدولة إن كانت علمانية أو دينية هو وجود دستور يمكنه حسم هذه المسألة، وبالنسبة لإسرائيل فإنه من المعروف أن القادة الأوائل قد تحاشوا وضع دستور للدولة حتى لا يؤدي ذلك إلى خلاف بين القوى الإسرائيلية الدينية والعلمانية قد يمس حتى تلك النقاط التي يتفق عليها الجميع ما قد يعصف بالمشروع الصهيوني.

ويشير موقع الكنيست الإسرائيلي إلى أن أحد أسباب عدم وضع دستور لإسرائيل هو تحاشي وقوع حرب ثقافية بين المتدينين والعلمانيين حول هوية الدولة. 

هذا يعني أن حديث القادة والمفكرين الإسرائيليين – علمانيين أو دينيين – عن أن هوية الدولة علمانية أو دينية يرتبط بالغاية التي ينشدها كل طرف من الطرفين، وهنا يأتي دور الظرف التاريخي، والواقع السياسي والاجتماعي لحسم هذه المسألة.

لقد فصلت هذه الورقة كيف كانت نشأة إسرائيل نشأة دينية بالعودة (لأرض الميعاد)، وكيف أن الواقع السياسي والاجتماعي شهد صعودا متزايدا في تأثير القوى والأحزاب الدينية في السياسة الإسرائيلية.

وسردت المكاسب الكبرى التي حققتها إسرائيل والتي زادت أكثر بعد انتصارها في حرب 67 حتى أن كل الجمهور المتدين وقطاعات عريضة من العلمانيين اعتبرت هذا الانتصار معجزة إلهية تمت بمساعدة سماوية لليهود، وأصبح القادة العلمانيون أنفسهم يستخدمون الرموز الدينية والأفكار الدينية الغيبية، وازدادت قوة التوجه نحو الخلاص الديني في كل من اليهودية والصهيونية واعتبر الانتصار علامة على الخلاص الآخذ في الاقتراب، وأصبحت العلاقة بين الدين والسياسة أكثر تألقا فالدين لخدمة السياسة القومية، والسياسة القومية لتنفيذ الوصايا الدينية.

وعلق الكاتب الصهيوني يائير أورون على التحول نحو الدين الذي حدث بعد انتصار إسرائيل في حرب 67 بقوله "إن التوجه أصبح يهوديا أولا، وبعد ذلك إسرائيليا".

وكثيرا ما يخطئ الدارسون للعلمانية الإسرائيلية ويتخيلون أنها يجب أن تكون متطابقة مع النموذج الغربي، ويتناسى هؤلاء أن البون شاسع بين الحالة الإسرائيلية والحالة في النموذج الغربي.

يتضح ذلك من موقف البروفيسور الإسرائيلي شاؤول روزنفيلد في حديثه للداعين إلى فصل الدين عن الدولة في إسرائيل، وكيف أنهم يتجاهلون الخصوصية الإسرائيلية وهم يحاولون تقليد النماذج العلمانية الغربية التي، في أكثرها تشددا، لا تفصل بين الدين والدولة فصلا مطلقا، وهم يتجاهلون كذلك أن الوجود اليهودي في إسرائيل تأسس على ماض تاريخي نواته الأساسية دينية بحتة، كما أن الدين اليهودي هو الذي صاغ عبر الأجيال الواقع الثقافي والاجتماعي واللغوي والروحي للمجتمع حتى لأولئك الذين لا يؤمنون بالدين اليهودي.

لقد أراد بن جوريون – واضع تصور العلاقة بين الدين والدولة - ألا يكون هناك فصل بين الدين والدولة، وأراد كذلك أن تكون الدولة هي المتحكمة في الدين والممسكة به، ومما عرضناه في هذه الورقة يبدو أن النجاح في الأولى قد تحقق، لكنه لم يحدث في الثانية