أحمد بن صالح.. مهندس التجربة الاشتراكية وأول معارضي الاستبداد بتونس

زياد المزغني | 3 years ago

12

طباعة

مشاركة

في 16 أيلول/سبتمبر 2020، وافت المنية المناضل الوطني والزعيم النقابي والوزير السابق وأحد آباء الديمقراطية التونسية، أحمد بن صالح والذي عرف بمهندس التجربة الاشتراكية في عصر الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.

لم يعرف للراحل دور سياسي كبير خلال السنوات القليلة الماضية، إلا أنه احتفظ بعلاقات طيبة مع جل الفاعلين السياسيين، وحفظت له الذاكرة الوطنية أدوارا جليلة قام بها منذ شبابه الباكر في النضال النقابي وصلب الحركة الوطنية، ومن ثم المساهمة في بناء الدولة الوطنية ومقارعة الاستبداد وتأسيس أحد أول الأحزاب المعارضة في تونس.

نضال مبكر

ولد أحمد بن صالح في 13 يناير/كانون الثاني 1926 بمدينة المكنين بالساحل الشرقي، وكغيره من أبناء جيله التحق مبكرا بالكتاب، ليزاول تعليما تقليديا، قبل أن تتخذ العائلة قرار إلحاقه بالمدرسة العربية الفرنسية في المدينة.

أما مرحلة تعليمه الثانوية فكانت بالمدرسة الصادقية التي التحق بها عام 1938، وهي أحد أعرق المعاهد الثانوية التونسية، تخرج منها عدد كبير من الزعماء التونسيين في تلك الفترة، وبمجرد الحصول على شهادتها، انتقل ابن صالح إلى باريس لدراسة الآداب العربية في جامعة السوربون بفرنسا.

لم يكتف ابن صالح خلال فترة شبابه بالتحصيل العلمي فقط، إذ انخرط مبكرا في حركات سياسية ومدنية، حيث انضم خلال فترة الاحتلال الألماني لتونس (1940-1943) إلى جمعية "شباب محمد" التي كان يرأسها عبد المجيد بن جدو، كما ساهم سنة 1945 في إصدار نشرة سرية تحمل عنوان الهلال، وترأس سنة 1944 جمعية الشبيبة المدرسية.

في كتابه "أحمد بن صالح وزمانه" قال الأستاذ سالم المنصوري: "كانت شخصية أحمد بن صالح، في عز شبابه، على درجة مدهشة من الجاذبية: بملامح الوجه، وحركات الشعر، ونبرات الصوت، وما يُلقيه، عند أول اللقاء، من كلمات المداعبة، بالملاطفة أحيانا، وأحيانا كثيرة بالسخرية – مهما كانت منزلة الذي يخاطبه. فأحمد بن صالح لم يكن، في أي لقاء، على حيطة، ولا التزام بالتقاليد، بل كان دوما محررا من كل القيود، مما جعل مخاطبه في شبه الذهول، مفتونا بهذه البراعة المتدفقة".

كان ابن صالح أول من انخرط في شعبة الحزب الدستوري الحر، التي أسسها في  باريس عام 1946، ليكلف بعدها بالاتصال بالملك الوطني المنصف باي الذي عزلته فرنسا عن عرشه بعد الحرب، ونفيه في مدينة بو الفرنسية، لربط الصلة بينه وبين الحزب، في الأمور التي يراد لها أن تبقى في طي الكتمان.

وإثر وفاة والده عام 1948، عاد ابن صالح إلى تونس دون أن يكمل دراسته الجامعية، لينظم ندوة بعنوان "إخوان الأطلس" نسبة إلى سلسلة جبال الأطلس،  دعا فيها إلى التعاون بين سائر المثقفين، في شمال إفريقيا، من أجل بناء المغرب الكبير، حرا مُستقلا. 

بعد ذلك انضم ابن صالح إلى النضال النقابي – إضافة إلى انتمائه الحزبي – فالتحق بصفوف الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي سطع فيه نجمه وظهرت زعامته، ما جعل الزعيم النقابي ومؤسس الاتحاد فرحات حشّاد يقربه.

إثر العودة من فرنسا، التحق ابن صالح بالتدريس في معهد ثانوي بجهة سوسة (شمال شرق)، وتولى تمثيل المنظمة، بطلب من فرحات حشاد، في الجامعة العالمية للنقابات الحرة (السيزل) عام 1951، رغم أن ابن صالح كان يرفض في البداية انضمام اتحاد الشغل لهذه المنظمة النقابية العمالية.

تولى ابن صالح، وهو في سن 28 عاما، الأمانة العامة للاتحاد العام للشغل عام 1954 خلفا لمحمد كريّم، وتزامنت فترة قيادته للمنظمة الشغيلة مع المفاوضات الأخيرة لاستقلال تونس ونشأة الصراع البورقيبي اليوسفي، وانحاز الاتحاد في مؤتمر نوفمبر/تشرين الثاني 1955 الشهير مع الطرح البورقيبي ما شكل علامة فارقة في مسار الصراع الداخلي الناشئ فجر الاستقلال.

جمع الأسلحة

بعد إعلان المقيم العام الفرنسي منداس فرانس في 31 يوليو/تموز 1954 استعداد بلاده منح الحكم الذاتي لتونس، اشترطت باريس كعلامة لحسن النية أن يقدم المقاومون أسلحتهم في نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول 1954، ويتحصل كل مقاوم يقدم سلاحه على بطاقة تسمى "بطاقة دو لاتور" وهو اسم قائد جيش الاحتلال.

توجهت قيادات من الحزب الحر الدستوري للجهات لجمع الأسلحة، حيث تحفظ عدد من المقاومين على تسليم أسلحتهم وكان على رأسهم صالح بن يوسف، وبعضهم سلم أسلحة فاسدة، فيما بادر آخرون بالتسليم استجابة لطلب الحزب.

وبعد 8 أشهر من المفاوضات، وقع التونسيون والفرنسيون في 3 يونيو/حزيران 1955، اتفاقية الاستقلال الداخلي التي تضمنت اعترافا بالسيادة التونسية لكن بصورة شكلية، إذ تركت مسألة الدفاع والشؤون الخارجية للمحتل الفرنسي.

وبينما اعتبر ابن يوسف اتفاقيات الاستقلال الداخلي "خطوة إلى الوراء" وصفها بورقيبة بـ"إنجاز للتونسيين يمهد للاستقلال التام"، ضمن سياسة المراحل التي قرر أن ينتهجها، وهو ما فجر صراعا مفتوحا ما بين جناحي الحزب "البورقيبيين واليوسفيين".

ورغم تأييد ابن صالح لبورقيبة في هذا الصراع إلا أن الأخير عزله من منصبه في الأمانة العامة للمنظمة النقابية، وهو ما أكده سالم المنصوري في كتابه قائلا: "توجهت إليه الظنون، من الحساد ومن الحاقدين عليه لأسباب مختلفة، فأقنعوا الزعيم بورقيبة بأن ابن صالح يريد دفْع البلاد إلى انتهاج الشيوعية، فسعى إلى عزله من الأمانة العامة، وهو في مهمة خارج البلاد".

تجربة التعاضد

فاز أحمد بن صالح على القائمة المشتركة (الجبهة القومية) بين الحزب الدستوري واتحاد الشغل في انتخابات المجلس القومي التأسيسي عام 1956 واُعيد انتخابه في مجلس الأمة (البرلمان) عام 1959 في أول انتخابات تشريعية بعد الاستقلال.

انضم لحكومة الحبيب بورقيبة منذ عام 1957 بتوليه حقيبة الصحة، وذلك قبل توليه الإشراف على الوزارات الاقتصادية ليقود تجربة التعاضد، ثم أُضيفت إليه وزارة التربية في يوليو/تموز 1968.

وتجربة التعاضد التي عرفتها تونس في الفترة بين 1962 و1969 تقوم على ضرورة اعتماد المجمعات التعاونية أو التعاضدية لوسائل الإنتاج التي تشرف عليها الدولة وتوزع ثمارها على المتعاضدين كل بحسب مساهمته بعد تأميم الدولة كل الأراضي الصالحة للزراعة.

وخلال مدة إقامته لدى المنظمة الدولية للنقابات الحرة في بروكسل، واصل التفكير وكان ابن صالح في أهم أركان العريضة الاقتصادية، التي كان قدمها، وهو على رأس الاتحاد وخاصة فيما يُسرع النهوض الاجتماعي والاقتصادي، دون انزلاق فيما وقعت فيه الشيوعية من شطط.

أفضت به تأملاته إلى الميل إلى سياسة التعاضد كوسيلة لنشر النمو والرفاه، دون تقليد لنماذج أجنبية وعرضها على الرئيس بورقيبة فقبل بها، لكن التجربة فشلت وخلفت مآس اجتماعية وأفقرت الريف وصغار الفلاحين.

وفي مقابلة مع صحيفة "العربي الجديد"، أرجع ابن صالح سبب فشل تجربة التعاضد في تونس، إلى "غياب الوعي الطبقي لدى الفئات الفقيرة وهي الأغلبية الساحقة من الشعب التونسي في الستينيات، إذ عمد كثير منهم مثلا إلى ذبح قطعانهم من المواشي كي لا تتسلمها الدولة".

ومع رفض أحمد بن صالح أن يعتذر علنا عن سياسة التعاضد، مثل أمام المحكمة العليا وصدر حكم بسجنه 10 سنوات مع الأشغال الشاقة، لكنه استطاع أن يهرب من السجن في فبراير/ شباط 1973 وغادر البلاد عبر الحدود مع الجزائر.

بقي ابن صالح في الخارج حتى صدر عفو شامل من الرئيس الراحل زين العابدين بن علي سنة 1987 فرجع إلى تونس وكانت له إسهامات عديدة في أنشطة المجتمع المدني حتى بعد الثورة وخلال الحوار الوطني عام 2013.