من يقود البلديات يحكم تركيا.. لماذا؟

ساعات قليلة تفصل الجمهورية التركية عن واحدة من أهم فصولها وتنافساتها وتجاذباتها السياسية، التي ستعكس بصورة كبيرة مستقبل البلاد سياسيا واقتصاديا.
وتعد انتخابات المحليات التي ستجرى 31 مارس/آذار الجاري، الأولى في ظل النظام الرئاسي الجديد، الذي أقره استفتاء أبريل/ نيسان 2017، وجاء بالسيد رجب طيب أردوغان في 25 يونيو/ حزيران 2018، ليصبح أول رئيس لتركيا بالنظام الجديد.أهميتها لماذا؟
بحسب مراقبين، إذا حصل العدالة والتنمية على الأغلبية في هذه الانتخابات، فإن ذلك سيساعد النظام الرئاسي الجديد بقيادة أردوغان على تحقيق خطته وبرنامجه الإصلاحي، وتطلعاته المستقبلية في تشكيل معالم جديدة للدولة.
فتاريخيا، بدأت مسيرة حزب العدالة والتنمية في الحكم، بالنجاح الكبير الذي حققه أردوغان عندما كان رئيسا لبلدية إسطنبول بداية من 27 مارس/آذار 1994 إلى 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 1998، وتغييره لوجه المدينة وتقديمه الخدمات للمواطنين على مستوى النظافة والمياه والكهرباء والطرق والمواصلات سببا مباشرا في فوزه بالانتخابات البرلمانية 2002.
كلمة أردوغان في بداية حكمه، بعد فوزه بالانتخابات البرلمانية 2002
وتمثل هذه الانتخابات أيضا أهمية فاصلة للمعارضة التي أخفقت في جميع الاستحقاقات الانتخابية السابقة أمام "تحالف الشعب" بقيادة العدالة والتنمية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لذلك فإنها تعد فرصة لبناء قواعد جماهيرية جديدة من خلال أعمال البلديات المؤثرة في سائر أنحاء البلاد.
مجموعة عوامل
بشكل عام ترجع أهمية الانتخابات البلدية إلى مجموعة من العوامل، الأولى في حال جرت بعد الانتخابات العامة تكون بمثابة دعم للحزب الفائز في الانتخابات، والثانية حين تجري قبل الانتخابات، وقتها تكون الانتخابات البلدية بمثابة جس نبض الرأي العام، ولا تنفصل بحال عن الانتخابات العامة (السياسية) بل هي تدور معها في المدار نفسه.
ولهذا فالانتخابات البلدية تشكل أهمية بالغة للحزب الحاكم، ولأحزاب المعارضة. وفي الانتخابات البلدية توجد 3 عوامل تلعب دورا مهما، هي: رئيس البلدية، والخدمة والحزب، وينتخب المواطنون مرشحهم وفق هذه العوامل.
ويمكن القول بأن عامل الحزب هو العامل الأضعف تأثيرا في الانتخابات المحلية، وأوضح مثال على هذا المدن التي كان يفوز فيها حزب العدالة والتنمية، ثم انتقلت إلى طرف المعارضة رغم قوة وبروز الحزب الحاكم والرئيس أردوغان، مثل مانيسا، وهاتاي، وفان، وآغري، وماردين، ومنطقتي كارتال، ومالتبه.
قانون البلديات
بحسب إحصائيات اتحاد البلديات التركية للعام 2014، يوجد في تركيا 81 بلدية بعدد مقاطعاتها، ونحو 1397 بلدية تابعة للبلديات الأم، وتكون موزعة على المدن والمناطق والأحياء التركية. ويرجع تاريخ الانتخابات البلدية التركية إلى ما قبل 130 عاما، عندما أجريت للمرة الأولى عام 1877، حيث تعتبر بلديتا إسطنبول وأنقرة من أهم وأكبر البلديات في البلد.
والبلدية في تركيا هي الوحدة التي تمثل الإدارة المحلية، وبحسب المادة 127 من الدستور التركي فإن الإدارات المحلية تنقسم إلى 3 أشكال: إدارات المحافظة، والبلديات والقرى. ومن بين هذه الإدارات برزت البلديات أكثر من غيرها، وقد سهل هذا حركة التمدن والتطور العمراني والاقتصادي الذي شهدته البلاد السنوات الأخيرة.
وبحسب القانون التركي رقم 533 المؤرخ بتاريخ 3 يوليو/ تموز 2005، فإن البلدية هي مؤسسة تقوم على الخدمات التي ينتفع منها المواطنون عموما، وينتخب عمدتها من قبل الناخبين، وتملك ميزانية وإدارة منفصلة وتتكون من مجلس بلدي ومجلس استشاري، ورئيس بلدية.
والبلدية الكبرى جاء تعريفها في القانون رقم 5216 المؤرخ بتاريخ 10 يوليو/ تموز 2004، بأنها مؤسسة تتكون في المناطق التي يتجاوز عدد السكان فيها 750 ألف نسمة، وتقع ضمن حدود المحافظة.
وتتولى البلدية الكبرى التنسيق والإدارة بين البلديات، وتقوم بالوظائف والمسؤوليات المبينة في القوانين بميزانية وإدارة منفصلتين، وينتخب رئيسها من قبل الناخبين، وتتكون من مجلس البلدية الكبرى، ومجلس البلدية الكبرى الاستشاري، ورئيس البلدية الكبرى.
البلدية المجتمعية
البلدية المجتمعية في تركيا، تعمل بنظام يجعل الإدارات المحلية تتولى إنشاء خطط تتعلق بالجانب الاجتماعي في حياة المواطنين، وسد الاحتياجات المعيشية للشعب، كإنشاء المساكن والصحة والتعليم وحماية البيئة، ومساعدة العاطلين عن العمل والأيتام، وإنشاء مؤسسات تحقق التكافل بين المواطنين وتقدم الخدمات المجتمعية.
إلى جانب تأسيس البنية التحتية اللازمة لإجراء النشاطات الثقافية، والاجتماعية، وتقوية أواصر الصداقة والأخوة بين فصائل الشعب. ما يعطي زيادة للتنمية المحلية، وفرص العمل، ومكافحة البطالة بتطوير سياسات استثمارية جديدة، ومن جهة أخرى تزيد من كفاءة الخدمات على مستوى الصحة، والتعليم، والمعيشة والتكافل المجتمعي.
بعد قانون البلديات الكبرى أسندت وظائف وصلاحيات كثيرة للبلديات في مجال خدمات البلدية المجتمعية منها ما جاء في المادة السابعة من القانون رقم 5216 والمتعلق بإنشاء المراكز الصحية، والمستشفيات، ومراكز الصحة المتنقلة لتقديم الخدمات إلى النساء والأطفال والبالغين وكبار السن وذوي الإعاقات.
إلى جانب الأنشطة الثقافية والمجتمعية، وتطوير الخدمات على هذا الصعيد، بالإضافة إلى إقامة مؤسسات ومراكز تقام بها هذه الأنشطة، وفتح مراكز التدريب لتنمية ذوي المواهب وإدارتها، والتعاون مع الجامعات والمعاهد والثانويات المهنية والمؤسسات الحكومية ومؤسسات العمل المجتمعي في إقامة هذه الأنشطة والأعمال.
وجاءت المادة 18 من القانون رقم 5216 لتؤكد اختصاصات البلديات في "فتح مراكز لذوي الإحتياجات الخاصة لإقامة الأنشطة الخاصة بهم"، وهذه الخدمات المجتمعية تحديدا تقع تحت مسؤولية إدارة البلديات بشكل مباشر.
مركز لرعاية وتعليم ذوي الاحتياجات الخاصة تحت رعاية بلدية أنقرة
وتشتهر بلديات تركيا بفعالياتها بالمناسبات الدينية وخاصة في شهر رمضان، إذ عادة ما تعد موائد إفطار في الساحات والشوارع العامة والتي غالبًا ما تكون ضخمة بحيث تستوعب أكثر من 15 ألف شخص.
كذلك تنظم البلديات حلقات ذكر وأمسيات شعرية وحكايات شعبية وعروض ثقافية أو تاريخية تقليدية، ولا تتوقف خدماتها عند هذا الحد، بل تنظم مجموعات من المتطوعين الذين يوزعون وجبات الإفطار للمرضى في المستشفيات أو المسنين في بيوتهم.
وفي أوقات الأعياد، تولت بلدية إسطنبول على سبيل المثال تدريب 1000 عامل على ذبح الأضاحي لتفادي الأخطاء أو التأخير، وزيادة الإنتاج، إضافة إلى رفعها لمستوى الرقابة على أماكن الذبح وفحص الأضاحي، ولتحقيق هذا الهدف أنشأت مؤسسات حديثة للذبح لزيادة عدد الأضاحي، كما وزعت منشورات توعوية للمواطنين عن كيفية ذبح الأضحية بالطريقة الصحيحة.
جانب من إفطار تنظمه بلدية إسطنبول بشكل دوري خلال شهر رمضان
اتحاد البلديات
أسست تركيا "اتحاد البلديات"، وهذا المركز له موقع إلكتروني خاص ينشر فيه آخر إنجازات جميع البلديات في تركيا وخططهم المستقبلية، كما يعلن فيه الأنشطة والفعاليات والمؤتمرات التي تنظمها هذه البلديات، ويعرض نفقاتها وتكاليف مشاريعها، كما يملك قناة يبث عليها كل المشاريع التي تمت أو يعد لها، وبحسب تقرير فعاليات 2016، يقول الاتحاد إن مبدأ البلديات في تركيا يقوم على الدعم والتشجيع والتسهيل والموضوعية والتجديد والانفتاح.
ويبدأ التقرير بعرض الخدمات التثقيفية والتدريبية التي يقدمها أولًا للعاملين في هذه البلديات والتي تتم من خلال دعوة عدد من الخبراء وقد يكون بعضهم من الخارج، لمناقشة الخطط التطويرية في دور البلديات ومناقشة كل ما يتعلق بهذه الناحية، أو الذي يتم بالسفر إلى بلدان أخرى بغرض التعلم من الدول الأخرى وتقييم خدماتهم والاستفادة من تجاربهم.
موارد الدخل
بحسب قانون البلديات التركي الذي ينص على أنه "يجب توفير موارد دخل متناسبة مع الوظائف"، ويكمن تمكن البلديات من القيام بوظائف فعالة، ارتباطا بقوتها من حيث الميزانية. وتقسم إيرادات البلديات إلى 3 أقسام: المخصصات من ميزانية الضريبة العامة، وموارد البلدية الخاصة، وإعانات الدولة. أما المخصصات من ميزانية الضريبة فيوزع قسم منها بحسب عدد السكان وقسم، بحسب وضع البلدية وقسم ثالث يوزع على الإدارات المحلية بحسب أصول وأسس معينة، وتحدد حالة البلدية والمخصصات اللازمة لها من قبل مؤسسات الإدارة المركزية.
وبالنسبة للموارد الخاصة فتتكون من الضرائب والرسوم، وتملك البلديات صلاحية جمع ضرائب، مثل ضرائب الإعلانات ووسائل الترفيه والتواصل والكهرباء والغاز وتأمينات الحرائق وضرائب العقارات ونظافة البيئة. أما الرسوم فتشمل رخص العمل في أيام العطلة واستخدام عقارات البلدية وموارد المياه ومراقبة ذبح الماشية ورخص فتح منشأة. كما أن البلديات لديها صلاحية تحصيل حصص المشاركة في أعمال الطرق وشبكات المياه والصرف الصحي.
أما إعانات الدولة فتتكون من الأموال التي ترسل من قبل الدوائر المختلفة، سواء إعانة عامة أو مخصصة لعمل محدد، وأهم موارد البلدية من بين ذلك مخصصات ميزانية الضريبة العامة وإعانات الدولة.
صلاحيات أوسع
بعد تحول البلاد إلى النظام الرئاسي، اختلفت النظرة العامة إلى أعضاء البرلمان، وباتت أقل أهمية، ومن جهة أخرى فرئاسة البلدية باتت أكثر بروزا على الصعيد الشعبي كما أنها أوسع صلاحيات وأكثر استقلالا بقراراتها، ربما لهذا السبب زادت أهمية الانتخابات المحلية، ويتوقع أن تزداد أهمية في السنوات المقبلة.
وقد جاء في المادة 14 من قانون البلديات بأنه "على البلدية إقامة وتقديم الخدمات الاجتماعية والمعونة والتدريب المهني وتنمية المواهب على أن يكون ذلك بشكل يغطي الاحتياجات المحلية المشتركة".
كما يشجع على فتح مراكز لحماية النساء والأطفال في البلديات التي يتجاوز عدد سكانها 50 ألف مواطن، إضافة إلى ذلك فقد ورد في نفس المادة أنه "يجب أن تكون الخدمات بشكل يراعي ظروف المعاقين وكبار السن، وذوي الدخل المحدود".
وبعد الإصلاحات التي جاءت مع تولي حزب العدالة والتنمية سدة الحكم في عام 2002، بات التركيز أكبر على جمع الصلاحيات في يد رئيس البلدية كما في المؤسسات الأخرى.
لهذا يمكن القول بأن رئيس البلدية صار شخصية معروفة محليا، خصوصا ما نص عليه القانون رقم 6360 حول صلاحيات رئيس البلدية، إذ صار رئيس البلدية يحمل صلاحية تعيين الموظفين في كافة المؤسسات التابعة للبلدية.
كما نص القانون على أن يعرض المجلس البلدي والمجلس الاستشاري قراراته كلها على رئيس البلدية، ومما يدل على توسع صلاحيات رئيس البلدية، ترشح بعض أعضاء البرلمان من النواب في الانتخابات المحلية كما يدل هذا على عدم خلو هذه الانتخابات من التأثير السياسي.
المؤكد أنه بعد انتخابات البلديات، لن تخوض تركيا أي انتخابات أخرى قبل 4 سنوات، وهو ما يمثل استقرارا سيعطي مؤشرات إيجابية مهمة بالنسبة للاقتصاد وخاصة الاستثمار الأجنبي، بالإضافة إلى الحصول على فرصة أمام الشعب التركي في إنفاذ السياسات والإصلاحات المقدمة من جميع أطراف العملية الانتخابية.
المصادر
- القوانين والتشريعات التركية المتعلقة بانتخابات البلديات
- التجربة التركية في إدارة وتطوير البلديات
- إحصائيات اتحاد البلديات التركية لعام 2014
- الإنتخابات البلدية التركية.. التنافس على تغيير أوجه المدن
- قصر الاحتياجات الخاصة بإسطنبول.. بوابة ذوي الإعاقة نحو الاندماج
- كيف أصبحت المحليات عصب الحكم في تركيا
- أهمية الانتخابات المحلية التركية.. ماهي آلية التحالف بين الأحزاب؟