عبدالعزيز البدري.. داعية عراقي ثائر قتله صدام حسين وحزن عليه البكر

يوسف العلي | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

خطيب مفوه، وفارس مغوار اعتلى منابر بغداد وهز بشجاعته الفريدة وقدرته على قول الحق عروش رؤساء العراق بداية الحقبة الجمهورية فكلفه ذلك حياته، تاركا حزنا عميقا في قلوب العراقيين الذين عاصروه، وتاريخا زاخرا بمواقف الثبات في مواجهة الظلم والاستبداد.

ارتقى الداعية الشيخ عبد العزيز البدري، شهيدا في 26 يونيو/ حزيران 1969 بعد تعذيب شديد وتنكيل وحشي لقيه على يد الأجهزة الأمنية العراقية في ظل حكم حزب البعث العربي الاشتراكي.

نسب شريف

ولد عبد العزيز بن عبداللطيف في بغداد عام 1929، وأصله يعود إلى مدينة سامراء، ونسبه يرجع إلى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، فهو من قبيلة البدري الذي يلتحق نسبها بالحسين بن علي بن أبي طالب، زوج بنت الرسول الأكرم.

تزوج من ابنة عمه وأنجب منها 4 أولاد و4 بنات، ونشأ البدري على تربية إسلامية رصينة في بيئة علمية، وتلقى دروسه الدينية على يد طائفة من علماء بغداد البارزين، منهم الشيوخ أمجد الزهاوي، ومحمد القزلجي، وعبد القادر الخطيب، والعلامة محمد فؤاد الألوسي وغيرهم.

نال إجازته العلمية، وبعد اكتشاف مواهبه الخطابية ونبوغه في الفكر واللغة والتاريخ رشحه أستاذه لاعتلاء المنبر الإسلامي كخطيب وإمام جامع وهو دون العشرين من العمر آنذاك عام 1949 عندما عين في مسجد السور ببغداد.

في عام 1950 عين خطيبا في جامع الخفافين، واستمر في حمل أمانة المنبر حتى عام 1954، عندما أدركت السلطة في العهد الملكي نشاطه وتأثيره في الناس فعمدت إلى إبعاده إلى قرية نائية من قرى محافظة ديالى شرق بغداد.

خلال عمله في قرية (الحديد) بمدينة ديالى إماما وخطيبا لجامع القرية، كان له دور في تحويل هذه القرية إلى نقطة إشعاع حيث تخرج على يديه عدد كبير من أبناء هذه القرية كدعاة وأئمة وخطباء.

تنقل الشيخ البدري بوظيفة الإمامة في عدد من مساجد بغداد من بينها (جامع الحيدر خانة) بشارع الرشيد التراثي وسط بغداد، وأخيرا في جامع الإسكان غرب العاصمة العراقية.

انتمى الشيخ في شبابه إلى حزب التحرير، لكن سرعان ما انسحب منه عام 1956 وعمره آنذاك حوالي 25 سنة، لكنه لأدبه ووفائه لم يشأ أن يعلن انسحابه، فظل متحملا تبعات حزب التحرير وبياناته إلى أن قامت ثورة عبد الكريم قاسم الدموية، فقدر له الحزب صنيعه، وأعلن بعدها أن الشيخ البدري قد انسحب من الحزب.

مجاهدا في فلسطين

في نكسة يونيو/حزيران 1967، وبعد الهزيمة العربية أمام إسرائيل، قرر الشيخ البدري أن يذهب إلى فلسطين للجهاد ويلتحق مع جماعة الإمام الشهيد عز الدين القسام دون علم أحد من أفراد عائلته حول نية سفره ووضع وصية عند صديقه الدكتور وجيه زين العابدين وأخبره في حالة استشهاده أن يسلم الوصية لأهله.

لكنه عندما ذهب إلى فلسطين المحتلة طلب منه المجاهدون بعد أن شاركهم فترة بالجهاد، أن يعود إلى بلده وينشر القضية الفلسطينية في الدول الإسلامية.

بعد ذلك اتجهت النية إلى تشكيل وفد إسلامي شعبي للطواف في العالم الإسلامي من أجل استنفار المسلمين ونقل القضية إلى النطاق الإسلامي باسم (من أجل فلسطين رحلة الوفد الإسلامي العراقي) من يوليو/تموز 1967 حتى أغسطس/آب 1967، وكان الشيخ البدري ضمن الوفد المكون من 6 شخصيات.

زار الوفد كلا من "إندونيسيا، ماليزيا، الهند، باكستان، أفغانستان، إيران، تركيا، لإيصال القضية الفلسطينية ومعاناة الشعب الفلسطيني واحتلال الأرض العربية في سيناء والجولان والضفة الغربية.

بعد عودة الوفد إلى بغداد، عقد الشيخ البدري مؤتمرا صحفيا، أوضح فيه ما شاهده في العالم الإسلامي، من طاقات مهدورة، كان يجب أن تُوجه لخدمة القضية الفلسطينية، مستنكرا حصرها في النطاق العربي، بدل النطاق الإسلامي الواسع، ومتخوفا من الاستمرار في التضييق عليها، لكي تكون في المستقبل قضية الفلسطينيين فقط.

قبل ذلك ثارت ثائرة الشيخ البدري، وأرسل برقيات إلى جميع رؤساء الدول في العالم الإسلامي، يحملهم فيها المسؤولية ويتهم من وافقوا على وقف إطلاق النار بالخيانة.

عدو الطغاة

مع انتهاء العهد الملكي في العراق، جاء حكم عبد الكريم قاسم بانقلاب عسكري في يوليو/ تموز عام 1958، والذي وصف نفسه بأنه "الزعيم الأوحد".

في إحدى خطبه المشهورة التي ألقاها في جامع "الحاج أمين" في منطقة الكرخ ببغداد حيث كان إماما وخطيبا، رد الشيخ البدري على عبدالكريم قاسم وأطلق عليه الوصف القرآني: ﴿عتل بعد ذلك زنيم﴾.

وبلغ التحدي مداه مع عبد الكريم قاسم عندما أعدم مجموعة من قادة الجيش، ومنهم ناظم الطبقجلي، ورفعت الحاج سري، وآخرين، فأثار الشيخ البدري الجماهير، وقاد المظاهرات التي يقدر عددها في وقتها بأكثر من 40 ألف متظاهر، وكلهم يهتفون بسقوط قاسم.

لم يكتف بذلك، بل أصدر الشيخ البدري فتوى بتكفر الشيوعيين أنصار قاسم ومؤيديه، وطالب بمحاربتهم، فما كان من الحكومة إلا أن تُصدر الأوامر بفرض الإقامة الجبرية عليه في منزله، لمدة عام كامل من ديسمبر/كانون الأول 1959 حتى ديسمبر/كانون الأول 1960.

بعد رفع الحظر عنه، لم يهدأ ولم يتوقف عن الخطابة والتهجم على نظام عبد الكريم قاسم، وتأليب الناس ضده، فصدرت الأوامر بإيقافه عن العمل الوظيفي وحبسه في داره.

ثم تكرر سجنه من سبتمبر/ أيلول عام 1961 حتى ديسمبر/كانون الأول 1961، حيث صدر العفو العام عن السجناء السياسيين، ولقد لقي من البلاء في السجن والتعذيب الكثير، لكنه صبر ورفض كل العروض المغرية التي قُدمت له.

قصة وفاته

في إحدى خطب الجمعة للشيخ البدري بجامع (عادلة خاتون) وحينما كان واقفا على المنبر، دخل الرئيس عبد السلام عارف إلى الجامع، فخاطبه الشيخ البدري من على المنبر، قائلا: "اسمع يا عبد السلام.. إن تقرّبْتَ من الإسلام باعا، تقرّبنا إليك ذراعا.. اسمع يا عبد السلام أدعوك إلى تطبيق شريعة الإسلام.. اسمع يا عبد السلام القومية لا تصلح".

وبدأ الشيخ البدري بجرأته المعهودة يخاطب عبد السلام أمام المصلين وعند انتهاء الخطبة لم يلتفت إليه الشيخ، ثم نهض إليه الرئيس وقال له بالحرف الواحد: "يا شيخ أنا أشكرك على هذه الجرأة".

وبعد فترة وجيزة وإثر هذه المجابهة، نقل الشيخ إماما وخطيبا إلى مسجد الخلفاء الذي كان مغلقا للترميم، سنة 1964 وبقي إلى عام 1966، وبعد ضغوط وتهديد من الشيخ إلى السلطة بأنه سوف يخطب في الشارع أمام مسجد الخلفاء ما جعلهم ينسبونه إماما وخطيبا وواعظا في جامع (إسكان غربي بغداد).

بعد وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1968، كان الشيخ البدري على علاقة طيبة بالرئيس الراحل أحمد حسن البكر، ويلتقي به في الأسبوع مرة واحدة، لكن نائب الرئيس آنذاك صدام حسين كان وراء مقتله دون علم البكر.

في إحدى حلقات برنامج "شاهد على العصر" الذي يعرض على قناة "الجزيرة" والتي عرضت عام 2008، قال حامد الجبوري وزير شؤون الرئاسة العراقية في عهد البكر: "البدري كان يزور الرئيس العراقي على الأقل مرة واحدة في الأسبوع بمكتبه في القصر الجمهوري، وتربطه علاقة حميمة معه".

وأضاف: "في يوم من الأيام وعند لقائي الصباحي بالرئيس البكر، وجدته على غير عادته ويدخن (السجائر) بكثرة، فقلت له ما الموضوع سيادة الرئيس، فقال يوم أمس ليلا طلب مجموعة من مشايخ بغداد لقائي في البيت، وفوجئت أن وضعهم غير طبيعي، وسألوني عن أسباب قتلنا عبدالعزيز البدري، وأنا فوجئت بالموضوع".

وأكد الجبوري أن "البكر عندما أخبرني بالموضوع كان متأثرا ومنزعجا ومنفعلا جدا، لأنه فقد صديقا عزيزا له، وأخبرني بأن أبلغ صدام حسين أنهم حينما يريدون فعل مثل ذلك عليهم إبلاغي بالموضوع".

كان الشيخ البدري قد أخذ من داره في منطقة الداودي بعد تطويق المنطقة بالحرس الخاص، وبعد فترة عرفت عائلته أنه مُعتقل بسجن قصر النهاية (سيئ الصيت) لتعذيبه واستجوابه من قبل صدام حسين (المسؤول عن الملف الأمني للدولة)، وناظم كَزار (مدير الأمن العام الأسبق).

بطولة فريدة

نقل عن بعض من كان معه في الزنازين، قصصا عن مواجهة الشيخ البدري لسجانيه بكل بطولة وثبات، حيث تجسدت في أصعب اللحظات وهو يصارع الموت تحت سياط الجلاد، الذي كان يسأله أثناء التعذيب عن رأيه بحزب البعث؟ فما كان بالشيخ البدري إلا أن يقول بكل قوة: "إن حزب البعث هو حزب كافر وملحد".

ويقول أحد الشهود الذين كانوا معه في الزنزانة: "لم أرَ في حياتي رجلا بشجاعته داخل المعتقل، يُعذب ويفقد الوعي، ثم يعود إلى رشده فيعذب مرة أخرى، وهو يكرر ذكر الله، ثم يفقد الوعي تارة أخرى".

وتابع: "لذلك كان المعتقلون معه يتوسلون إليه أن يلين بعض الشيء وأن يسكت، لكنه لم يعترف لبعثيين بشرعية، ولم يمنحهم تأييدا، بل كان يصر في التحقيق على أنهم عملاء المستعمر".

وحسب ما نقل، فإنه في أحد الأيام وجه ناظم كزار (مدير الأمن العام) الشتيمة للشيخ البدري، فما كان منه إلا أن رفع يده وضرب كزار، فانهال الجنود على "البدري" بالضرب من كل مكان وبمختلف الوسائل حتى أُغمي عليه، واستمروا في تعذيبه وحبسه انفراديا.

ومن كثرة التعذيب، كان يرسل البدري إلى مستشفى الرشيد العسكري لإيقاظه من غيبوبته، ثم يُعاد إلى التعذيب وهكذا، وهو يذكر اسم الله، ويقرأ آيات من الذكر الحكيم، ويدعو الله أن يرزقه الشهادة، حتى نالها في 26 يونيو/ حزيران عام 1969، وهو تحت التعذيب عن عمر لم يتخط الأربعين عاما.

بعد موته، نقل إلى مستشفى الرشيد العسكري وجرى تغسيله وتكفينه لتغطية الجريمة، ووُضِع في تابوت ألقاه الجنود أمام داره وهربوا، وطلب من ذويه عدم فتح التابوت ودفنه في بغداد، وليس في مسقط رأسه جوار قبر والده في مدينة سامراء.

بعدها فرضت القوات الأمنية طوقا على مدينة بغداد والشوارع المحيطة بها لمنع ذويه من الخروج بنعشه إلى سامراء، وجرى دفنه قرب قبر شيخه أمجد الزهاوي في مقبرة الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان في الأعظمية شرق العاصمة بغداد.

قبل دفنه، قام شقيقه محمد توفيق البدري بكشف جثة الشهيد عند القبر أمام المشيّعين، ليرى الجميع آثار التعذيب، فصاح المشيّعون مرددين: "الله أكبر، والموت للكفرة"، ما تسبب في سجن العديد منهم.

ترك الشيخ البدري عددا من الكتب والمؤلفات منها: "الإسلام بين العلماء والحكام"، و"حكم الإسلام في الاشتراكية"، و"الإسلام حرب على الاشتراكية والرأسمالية"، و"الإسلام ضامن للحاجات الأساسية لكل فرد"، و"كتاب الله الخالد القرآن الكريم".

كما ترك الشيخ أيضا، عشرات الخطب والمواعظ الإسلامية التي كانت متداولة بين الناس قبل أن يصادر نظام حزب البعث مكتبته الصوتية بما فيها من تسجيلات، ويمنع تداولها في الأسواق بين الناس.