حقق النهضة وحارب الفساد.. كيف أنقذ مهاتير محمد ماليزيا مرتين؟

محمد سراج الدين | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

لم يخيب رئيس الوزراء الماليزي العجوز مهاتير محمد، ظن الشعب، عندما منحه صوته في انتخابات حاسمة شهدتها البلاد قبل عامين، في رهان واضح أن قائد النهضة الماليزية، سيكون الوحيد القادر على مواجهة الفساد الذي خلفه حكم رئيس الوزراء السابق نجيب عبد الرزاق.

وخرج مهاتير، البالغ من العمر 94 عاما والذي حكم البلاد 22 عاما حتى عام 2003، من التقاعد السياسي وانضم إلى المعارضة بعد أن ثار غضبه بسبب فضيحة فساد كبيرة تورَّط فيها رئيس الوزراء السابق نجيب عبد الرزاق، في حين اعتبرت المعارضة أنه هو القادر على توحيد المخالفين له للخلاص من فساد الأخير.

آخر إنجازات مهاتير في هذا الاتجاه، تمثلت في بدء محاكمة روزما منصور، السيدة الأقوى في عهد عبد الرزاق، ليس لكونها زوجته فقط، وإنما لتمتعها بشبكة علاقات عملاقة في مختلف المجالات الاقتصادية، ما جعلها لا تقل فسادا عن زوجها الذي يحاكم في أكثر من 42 قضية مرتبطة بالرشوة والتهرب الضريبي واستغلال النفوذ.

قضايا الفساد التي تورط فيها وزراء سابقون، ومسؤولون اقتصاديون، كشفت جانبا آخر، لعلاقة ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد وإخوته في تدمير التجربة الماليزية، وهو ما جعلهم بالوثائق في مرمى النيران القضائية الماليزية.

السيد والسيدة

التقارير التي نشرتها وسائل الإعلام الماليزية، عن جلسات محاكمة روزما منصور زوجة رئيس الوزراء السابق نجيب عبد الرزاق، التي بدأت يوم الخميس 6 فبراير/ شباط الجاري، كشفت عن جوانب عدة من الفساد العائلي الذي انتشر في ماليزيا.

كما أنها كشفت عن الآليات الصارمة التي تتعامل بها الدولة الواقعة في جنوب شرق أسيا مع أخطر ملف يهدد استقرارها المتمثل بالفساد، الذي أصبحت ماليزيا مؤخرا، واحدة من دول عديدة تعاني منه.

وتنقل تقارير بثتها هيئة الإذاعة البريطانية عن أولى جلسات روزما منصور، بأنها استغلت سلطاتها وأنشأت ما يمكن تسميته بالجسر المباشر لأموال الرشوة بين حساباتها البنكية وبين الشركات التي استغلت منصب زوجها للحصول على امتيازات خاصة على حساب الشعب الماليزي.

وحسب موقع "ذا ستار أون لاين" الإخباري الماليزي، فإن قضية واحدة متهم فيها رئيس الوزراء السابق، كانت بتهمة اختلاس وغسيل أموال بلغت 42 مليون "رينغيت" ماليزي (العملة المحلية)، بينما تشير اتهامات أخرى إلى أن عبد الرزاق اختلس مليارات الدولارات من خلال الصندوق السيادي الماليزي العالمي الذي أنشأه خلال رئاسته للحكومة باسم (1MDB).

42 اتهاما

رصد تقرير نشرته صحيفة الجارديان البريطانية أن رئيس الحكومة الماليزية السابق نجيب عبد الرزاق، أنفق خلال فترة حكمه مليارات الدولارات بشكل غير مشروع في جميع أنحاء العالم على كل شيء، من العقارات والفنادق في مانهاتن، إلى اليخوت ولوحات بيكاسو وألماس وأفلام هوليود.

ورغم أن الرجل نفى علمه بهذه الأموال، إلا أن حساباته البنكية الخاصة أكدت أنه يمتلك أكثر من 1 مليار دولار. وحسب الجارديان فإن عبد الرزاق يحاكم في 42 تهمة جنائية، منها 27 تهمة بغسل الأموال، وتسعة مخالفات جنائية للثقة، وخمسة لإساءة استخدام السلطة، وواحدة من أجل التلاعب في التدقيق.

وفيما يتعلق بمعاملات (1MDB)، فإن الاتهامات الموجهة له تشمل، ثلاث تهم تتعلق بالخرق الجنائي للثقة، و3 تهم أخرى بغسل الأموال، وتهمة واحدة تتعلق بإساءة استخدام السلطة، تتعلق بمبلغ 10 ملايين دولار من أموال شركة (SRC International)، التابعة لـ(1MDB) انتهت في الحساب المصرفي الشخصي لنجيب.

وتشير الجارديان إلى أن ماليزيا ليست الدولة الوحيدة التي تحقق في مخالفات (1MDB)، حيث أجرت 6 دول من بينها، الولايات المتحدة وسويسرا وسنغافورة، تحقيقات تتعلق بغسيل الأموال في (1MDB)، بالتعاون مع بنك جولدمان ساكس، وهو ما دفع حكومة مهاتير محمد لطلب تعويضات من البنك بقيمة 7.5 مليار دولار ردا على العمليات القذرة التي قام بها.

أبناء زايد

بعيدا عن الاتهامات التي تلاحق نجيب عبد الرزاق، وزوجته وكبار رجال حكومته، ومسؤولي بنوك وشركات ماليزية، فإن التفتيش في فساد الحكومة السابقة، فتح الباب لمعرفة الوجه الآخر لحكام الإمارات، وتحديدا محمد بن زايد وأشقائه، المتورطين في قضايا فساد متنوعة مرتبطة برئيس الوزراء الماليزي السابق.

وينقل تقرير نشرته صحيفة Malay Mail الماليزية، تصريحات لرئيسة لجنة مكافحة الفساد "لطيفة كويا"، أكد فيها أن المعلومات المسربة من المكالمات التي تم تعقبها لهاتف عبد الرزاق، تؤكد وجود مؤامرة داخل أعلى مستويات حكومة عبد الرزاق.

وتشير الصحيفة أن التسجيلات التي عرضتها لجنة مكافحة الفساد، كانت عبارة عن تسعة مقاطع صوتية، تضم محادثات هاتفية لسبعة أفراد، من بينهم عبدالرزاق، ومحادثات أخرى لزوجته روزما منصور، مع محمد بن زايد، ونائب المنظمة القومية الملايوية المتحدة (أمنو) في بالينغ، عبدالعزيز عبد الرحيم، وغيرها من الشخصيات الأجنبية البارزة.

وكشف اتصال أجراه عبد الرزاق بولي عهد أبوظبي، أنه طلب منه بشكل صريح المساعدة في تهم غسل الأموال التي يواجهها ابن زوجته صانع الأفلام في هوليوود رضا عزيز، وذلك في أوج فضيحة الصندوق الماليزي السيادي العالمي، الذي بدأت الولايات المتحدة التحقيق فيها خلال عام 2016.

وبالإضافة لمحمد بن زايد، فإن الاتهامات طالت شقيقه الأصغر أيضا منصور، نائب رئيس الوزراء الإماراتي ووزير شؤون الرئاسة، والذي كان متورِّطا في التسجيلات الصوتية لمساعدة نجيب في التستر على ابن زوجته رضا عزيز، الذي كانت له علاقة بفضيحة الصندوق السيادي الماليزي العالمي.

الثقب الأسود

خلال الانتخابات البرلمانية الماليزية عام 2013، تعهد المعارض الإسلامي أنور إبراهيم وقتها، أنه في حال فوزه بالانتخابات، فإن أول ما سيجريه هو سد الثقب الأسود في الاقتصاد الماليزي في إشارة للصندوق السيادي الماليزي "1MDB"، الذي أنشأه عبد الرزاق عام 2007.

ولذلك استخدم عبد الرزاق كل إمكانياته واتصالاته لهزيمة إبراهيم، وبالفعل منحته الأغلبية في البرلمان قبلة النجاة، بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من الذهاب للسجن.

وحسب موقع "ذا إيدج" الماليزي، فإن نجيب لم يهتم باهتزاز موقفه في انتخابات 2013، وبدأ في توسيع نفوذه من أجل دعم مركزه، والحفاظ على المكتسبات التي حصل عليها.

ولذلك وثق علاقاته بالعاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز، الذي أمر بضخ المزيد من الأموال في الصندوق السيادي الماليزي من أجل دعم نجيب، كما التقى الأخير بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب ووصف علاقتهما بالإستراتيجية.

ويشير الموقع أنه في مقابل الفقر والفساد الذي غلف الشعب الماليزي، فإن حكومة نجيب فرضت قبضتها الأمنية على المعارضة، واعتقلت أنور إبراهيم، وجرى ملاحقة كل المسؤولين والمعارضين لسياسات عبد الرزاق، أو الذين شكوا في مصير 1.3 مليار دولار اختفت من الصندوق السيادي، وذهب لحسابات نجيب وزوجته.

إنجاز باكاتان

قال الكاتب الماليزي "جوزيف كاوس جونيور" في مقال نشره بصحيفة "thestar" اليسارية الماليزية: إن أفضل إنجاز لمهاتير محمد، والذي يعرف في اللغة الماليزية باسم "باكاتان هارابان"، هو نجاحه في التصدي للفساد الذي انتشر خلال حكم سلفه عبد الرزاق.

ويشير جونيور، إلى أنه يكفي أن الأجانب لم يعودوا يصفون ماليزيا بأنها دولة لا تحارب الفساد، كما أن قضايا الفساد الكبرى المرتبطة بالصندوق السيادي الماليزي، اختفت، ولم يعد رئيس الوزراء يسرق الأموال من الصندوق، وأصبحت كوالالمبور قبلة لدول أخرى من أجل التعلم من تجربتها الواضحة.

وفي إطار متصل، أكدت "سينثيا غابرييل" المديرة التنفيذية لمركز مكافحة الفساد والمحسوبية (C4) بماليزيا، في مقال نشره موقع "الجزيرة بالإنجليزية"، أن محاربة الفساد في ماليزيا تجاوزت اتهامات نجيب عبد الرزاق.

وقالت: إن شهر أبريل/نيسان 2019، لم يكن عاديا بالنسبة لمناهضي الفساد في ماليزيا، وهو الشهر الذي شهد بداية محاكمة نجيب أمام الشعب باتهامات الفساد التي فاحت رائحتها طوال فترة حكمه، ولذلك قفز ترتيب ماليزيا في مؤشر الفساد السنوي لمنظمة الشفافية الدولية لعام 2018 إلى المرتبة 61 من بين 180 دولة.

وتشير إلى أنه "لسنوات طويلة، اعتاد العديد من الماليزيين على دفع الرشاوى لإنجاز الأمور، والوصول إلى الخدمات الأساسية، مثل المدارس والمستشفيات وحتى المحاكم، وأنه خلال السنوات الأخيرة من حكم نجيب، كان مشغولا بشكل متزايد بمحاولة صد أي شكل من أشكال المساءلة".

واستدلت على ذلك بأن نجيب أقال النائب العام، وتلاعب باللجنة الماليزية لمكافحة الفساد (MACC)، وأطلق نظريات المؤامرة حول التدخل الأجنبي، في ظل وجود شرطة وقضاء ضعفاء وغير فعالين.

وتوضح "غابرييل" أن حكومة مهاتير محمد (باكاتان هارابان) منحت منظمات المجتمع المدني الأمل في استمرار مواجهة الفساد الذي رسخ أقدام رئيس الحكومة السابق، في إطار الوعود والإجراءات التي اتخذها مهاتير من أجل تنظيف ماليزيا، وجعلها بدون كسب غير مشروع بحلول 2023.

لماذا نجح مهاتير؟

بالعودة لصحيفة الجارديان فإنها نظرت لإجراءات مهاتير محمد في مكافحة الفساد بأهمية كبيرة، خاصة وأن إجراءاته، كانت سببا في أول محاكمة لمسؤول ماليزي رفيع بحجم نجيب عبد الرزاق، وهو ما منح الأمل بالنسبة للشعب الماليزي في انتهاء حقيقي لعمليات الفساد التي كانت سببا في تحويلهم من شعب ناهض اقتصاديا، إلى آخر فقير وتعيس.

ويرصد تقرير نشرته صحيفة "العربي الجديد" في 2018، قيام مهاتير محمد، خلال 10 أيام فقط من رئاسته للحكومة، بوقف نزيف الفساد، وغلق الثقب الأسود الذي يمثله الصندوق السيادي الماليزي والذي تقدر حجم الأموال المنهوبة منه بأكثر من 4.5 مليارات دولار.

ويقيم طارق ليساوي، أستاذ العلوم السياسية المختص بالاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، التجربة الماليزية بشكل مختلف، موضحا في مقال نشره بصحيفة "رأي اليوم" اللندنية، أن أهم ركائز التنمية في التجربة الماليزية، قامت على مواجهة الفساد.

وهذا الأمر كان واضحا في تعامل الشعب الماليزي مع فساد رئيس الوزراء السابق، وهو ما دفع أغلبية الشعب إلى استدعاء "مهاتير" والتصويت له بأغلبية ساحقة، حتى يتصدى للفساد و فعلا استطاع الرجل في 10 أيام وضع حد له واسترداد الأموال المنهوبة.

النهضة الماليزية

وكان مهاتير محمد، قد تولى منصب رئيس الوزراء الماليزي، في 16 يوليو/تموز 1981، بعد تقديم "حسين أون" استقالته لأسباب صحية، فبدأ مهاتير بالتعليم وأعطاه اهتمامه، فخصص له ميزانية كبيرة، كما اهتم بمحو أمية المجتمع وتعليمه اللغات، واهتم بالبحث العلمي والتدريب والتأهيل الحرفي والمهني، وأرسل كثير من الطلبة الماليزيين، للدراسة في الجامعات الغربية.

مهاتير أنشأ أكثر من 400 كلية ومعهد خاص، كما قوى العلاقة بين مراكز البحوث والجامعات والقطاع الخاص، وأدخل الحاسب الآلي، ووفر شبكة الإنترنت في أغلب المدارس الماليزية، كما أنشأ مدارس ذكية، تقدم مناهج متخصصة في شبكات الاتصال وأنظمة التصنيع.

وفي مرحلة مبكرة من تسعينيات القرن الماضي، أدخل مهاتير ماليزيا مرحلة التصنيع، فأثبتت وجودها، وأصبحت قادرة على المنافسة بآلاف المشاريع الصناعية، واستقطاب الاستثمارات، وخلال عقدين استطاع أن ينقل ماليزيا إلى مصاف الدول الصاعدة، إذ ارتفع احتياطي بلاده النقدي من 3 مليارات إلى 98 مليارا، كما وصل حجم صادراتها إلى 200 مليار دولار.

وفي 31 أكتوبر/تشرين الأول 2003، أعلن مهاتير محمد طواعية، تنازله عن السلطة واعتزاله السياسة، وكان يبلغ من العمر حينها 76 عاما، وقال مقولته الشهيرة: "انتهى وقتي، لن أتولى أي مسؤوليات رسمية، من المهم أن يتولى قيادة ماليزيا جيل جديد بفكر جديد".