هكذا أعاد السيسي هيكلة المؤسسة القضائية في مصر

أحمد مدكور | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"عندما تفقد النظم مشروعيتها تبحث عن ورقة توت تسترها عن طريق قرارات قضائية أو فنية"

المستشار طارق البشري، مفكر ومؤرخ وأحد أبرز القانونين المصريين المعاصرين

يَعرف تاريخ القضاء المصري بكثرة، فترات الصراع بين الاستقلال والاحتواء، وما بين دروس الماضي، ومجاهيل المستقبل، برزت واقعية إحكام السلطة الممثلة في قبضة رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي على السلطة القضائية.

السيسي استخدم في سبيل ذلك مذاهب شتى، بالترغيب والترهيب، ومنح الامتيازات، والإزاحة الكاملة، وتقليص صلاحيات، وإعطاء صلاحيات أخرى للقضاء العسكري، وسنّ تشريعات برلمانية تعطيه اليد الطولى في إعادة هيكلة القضاء المصري، الذي استخدمه كسيف مسلّط على رقاب خصومه ومعارضيه، مانحا لنفسه سلطة أكبر من أي سلطة أخرى.

"القضاء ووأد الديمقراطية"

في الثالث من يوليو/ تموز 2013، قاد وزير الدفاع آنذاك، الفريق أول عبدالفتاح السيسي، انقلابا عسكريا على الرئيس المنتخب، محمد مرسي، وأعلن سلسلة من الإجراءات عرفت بـ "خارطة الطريق"، تمثّلت في عزل الرئيس، وتولي رئيس المحكمة الدستورية العليا، المستشار عدلي منصور، رئاسة البلاد بشكل مؤقت.

شارك في بيان العزل، رئيس مجلس القضاء الأعلى، المستشار حامد عبد الله، وللمفارقة لم يكن عدلي منصور قد تولى رئاسة المحكمة الدستورية العليا بشكل رسمي، فهو لم يؤد اليمين لعدم انعقاد مجلس النواب.

ففي الرابع من يوليو/ تموز 2013، أدّى منصور اليمين أمام المحكمة الدستورية كرئيس لها، وبعدها بدقائق أدى يمينا آخر رئيسا لجمهورية مصر العربية؛ ليحمل صلاحيات السلطات الثلاث: (القضائية) كرئيس للمحكمة الدستورية العليا، و(التشريعية) بعد حلّ مجلس الشورى، و(التنفيذية) كرئيس للبلاد.

وتزامنَ مع تلك المتغيرات الجذرية في بنية النظام الحاكم، ذلك الحكم الذي أصدرته محكمة النقض في 2 يوليو/ تموز 2013، ببطلان تعيين المستشار طلعت إبراهيم عبدالله، نائبا عاما، وعودة سلفه المستشار عبدالمجيد محمود إلى المنصب، من خلال حكم نهائي لا يقبل الطعن.

بعدها دانت المؤسسة القضائية بالكامل للنظام الجديد، الذي يقع تحت قبضة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ووزير الدفاع عبد الفتاح السيسي، وأصبح عدلي منصور صورة مفادها الطاعة وتمرير المرحلة الانتقالية بأقل خسائر ممكنة.

وبالفعل أصدر الرئيس المؤقت حفنة من القرارات، بدأها بتشكيل لجنة خبراء من 10 قانونيين بهدف تعديل الدستور، كما أصدر قرارا جمهوريا بتغيير يمين الطاعة الذي يؤديه أفراد القوات المسلحة مزيلا منه عبارة: "أن أكون مخلصا لرئيس الجمهورية".

وكان أخطر ما صدّق عليه عدلي منصور، هو عملية فضّ اعتصام ميداني رابعة العدوية، والنهضة، في 14 أغسطس/ آب 2013، بقرار من النائب العام الراحل، هشام بركات، مخلّفا أعدادا كبيرة من القتلى والجرحى والمعتقلين، في مذبحة دموية لم يشهدها التاريخ المصري الحديث.

وأصدر منصور، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013 قانونا يتيح لوزير الداخلية منع المظاهرات.

وفي 26 فبراير/ شباط 2014 أصدر قرارا جمهوريا يشترط موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة على تعيين وزير الدفاع، وأن يكون هذا التعيين لفترتين رئاسيتين كاملتين.

كما أصدر في 18 مايو/ آيار 2014، قرارا برفع راتب رئيس الجمهورية من 12 ألف جنيه إلى 21 ألف جنيه، ومثّل ذلك لبدل التمثيل، لتصبح مخصصات رئيس الجمهورية 42 ألف جنيه شهريا.

كان هذا مجمل ما لعبته المؤسسة القضائية من دور رئيس خلال المرحلة الانتقالية، بعد عزل الرئيس محمد مرسي، فضلا عن التنكيل بالمعارضين، والمناهضين للنظام، عن طريق القضايا الملفقة، وأحكام الإعدام، والمؤبدات، والإجراءات الانتقامية للنيابة في الإجهاز على المعتقلين، وتجديد الحبس لعشرات الآلاف منهم، وغضّ الطرف عن وقائع التعذيب، والموت في أقبية السجون.

"امتيازات وعقوبات"

في ظل الإجراءات الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها الشعب المصري، وانخفاض قيمة العملة المحلية أمام الدولار الأمريكي، وارتفاع أسعار السلع، والخدمات الأساسية، بقيت طبقات محددة تحافظ على امتيازاتها، ومن ضمنهم القضاة، الذين حرص عبدالفتاح السيسي، لضمان ولاء القسم الأكبر منهم، على منحهم صلاحيات واسعة، ومكافآت كبيرة.

كما حافظ على تخصيص ميزانيات غير مراقبة وغير مفصّلة للجهات القضائية المختلفة، إلى جانب ميزانية وزارة العدل، التي تفيض كل عام عن احتياجاتها الأساسية والإضافية، فتكون الفرصة مواتية لمنح القضاة منحاً وحوافز بمناسبة أو بدون، تحت مسميات مختلفة، كـ"حوافز الجهود غير العادية، وحوافز الإنجاز، ومِنح رمضان والعيدين"، إلى جانب رفع الحد الأدنى للراتب عند التعيين لأول مرة في سلك القضاء إلى نحو 9 آلاف جنيه مصري، وهو ما يضمن منزلة اجتماعية مميزة للقضاة الشباب، وزيادة مطّردة في الأجور للقضاة الأكبر سنا.

وقرر مجلس القضاء الأعلى في 25 يونيو/ حزيران 2015، زيادة رواتب أعضاء النيابة العامة، والقضاة بمختلف درجاتهم بنسبة 30 بالمئة، أما في يوليو/ تموز 2018، فقد أقر وزير المالية محمد معيط، زيادة رواتب قضاة الاستئناف 5 آلاف جنيه تطبّق بأثر رجعي.

وبالترهيب أيضا، استطاع السيسي ونظامه أن يعيدوا هيكلة المؤسسة القضائية، وفق تطلعاتهم المستقبلية، ليضمنوا الولاء الكامل لتلك السلطة النافذة في البلاد. ففي العام 2015، تمت إحالة أكثر من 60 قاضيا إلى المعاش المبكر، لتوجهاتهم المختلفة، والمخالفة للقيادة السياسية، كما تم إنشاء مكتب مختص بوزارة العدل لمتابعة الحسابات الشخصية للقضاة على مواقع التواصل الاجتماعي، ورصد ما فيها من مخالفات؛ تمهيدا لإحالتهم إلى التفتيش أو التقاعد.

وتولى هذه المهمة المستشار حسام عبد الرحيم وزير العدل، الذي فكك ما تبقى من تيار استقلال القضاء داخل المجتمع المصري.

في الوقت الذي حافظ فيه عبد الفتاح السيسي، على امتيازات القضاة بداية من تخصيص ميزانيات غير مراقبة، وغير مفصلة للجهات القضائية، إلى جانب ميزانية وزارة العدل، إضافة إلى منح القضاة حوافز ومكافأت بمناسبة أو بغيرها، تحت مسميات مختلفة.

"سلاح الفضائح"

في إطار سعي السيسي إلى الهيمنة الكاملة على المؤسسة القضائية، استخدم سلاحا متداولا في يد السلطة، عبر إثارة العديد من قضايا الفساد التي لاحقت القضاة وأعضاء النيابة، كان أبرزها في يناير/ كانون الثاني  2016، عندما ضبطت الرقابة الإدارية (مصطفى نجل عبد الفتاح السيسي من أبرز قياداتها)، مدير مشتريات مجلس الدولة جمال اللبان، وبحوزته مبالغ مالية كبيرة، قدرت بـ24 مليون جنيه مصري، و4 ملايين دولار، ومليوني يورو، في واحدة من أكبر قضايا الفساد القضائي، التي هددت قيادات السلك القضائي بالكامل، وترتب عليها انتحار الأمين العام لمجلس الدولة المستشار وائل شلبي، داخل محبسه بعد يوم من ضبطه في يناير/ كانون الثاني 2017، وقالت الرواية الرسمية للدولة إنه انتحر مستخدما "كوفيّة"، الأمر الذي لم يقبله الكثير من المتابعين.

ولم يخل الأمر من إجراءات انتقامية من السلطة بحق بعض القضاة، حدث هذا مع القاضي شريف حافظ (من أنصار تيار استقلال القضاء)، وهو الذي خفّف الحكم بحق الفتيات في قضية (حركة 7 الصبح)، عندما أصدر حكما بالحبس سنة مع إيقاف التنفيذ في ديسمبر/ كانون الأول 2013، الأمر الذي أغضب قادة الانقلاب، ووضع تحت النظر، حتى تم اتهامه في قضية رشوة جنسية في يونيو/ حزيران 2016، ورفعت عنه الحصانة القضائية، وأحيل لمجلس التأديب، ولكن تم الحكم ببراءته في يوليو/ تموز 2016، بعد أن أصيب في سمعته.

وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، كانت المنظومة القضائية على موعد مع قضية فساد شغلت الرأي العام، حيث تم القبض على المستشار طارق محمد زكي مصطفى (رئيس محكمة جنح مستأنف ديرب نجم بالشرقية)، بعد أن اكتشفت كميات من الحشيش داخل سيارته، وكان برفقته طالبة وسائق، في أحد أكمنة نفق الشهيد أحمد حمدي بالسويس.

ولعل هذه القضية أثارت حفيظة القضاة، من خطورة تشويه السمعة، والكشف عن قضايا مماثلة، ما جعل معظمهم ينأى عن الدخول في معارك مباشرة مع السلطة، وهو ما حدث في صراع تعديلات قانون السلطة القضائية، والحكم في مصرية جزيرتي تيران، وصنافير.

"تشكيل دوائر الإرهاب"

في ديسمبر/ كانون الأول 2013، قررت محكمة جنايات القاهرة تشكيل 6 دوائر متعلقة بالإرهاب، 4 دوائر منها في القاهرة، و2 في الجيزة، ومع الوقت تم استحداث دائرة جديدة وهي الدائرة (11 إرهاب) برئاسة المستشار محمد شيرين فهمي، ليصبح إجمالي عدد الدوائر 7.

كما أنشأت محكمة الاستئناف بعض دوائر الإرهاب من محاكم الجنح في القاهرة والمحافظات، وتعقد جميع جلسات دوائر الإرهاب في معهد أمناء الشرطة بطرة، وفي أكاديمية الشرطة بالتجمع الخامس، في القاهرة.

تلك الدوائر تحديدا هي التي تنظر معظم القضايا السياسية الكبرى، وكان أشهرها (اغتيال النائب العام – غرفة عمليات رابعة – اقتحام السجون – أحداث كرداسة)، ومن خلالها صدرت أحكام هائلة بالإعدام غير مسبوقة في تاريخ مصر.

وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2014، أعلنت الحكومة المصرية أنها وافقت على تعديلات لقانون القضاء العسكري؛ لتضيف له اختصاصات بينها محاكمة المدنيين في قضايا الإرهاب.

وبحسب الأحكام القانونية المنصوص عليها، فإن القضاء العسكري ينعدم فيه الحياد، حيث ينص القانون المصري على تبعيته بشكل مباشر لوزير الدفاع.

وخلال السنوات من 2013 حتى 2019، أصدرت المحاكم العسكرية أحكاما بالإعدام بحق 89 شخصا، وزاد من خطورة تلك الأحكام أن جميع القضايا التي عرضت على المحكمة العليا للطعون العسكرية تم التصديق عليها بالكامل لتصير نهائية.

"المسمار الأخير"

في 25 ديسمبر/كانون الأول 2016، تقدم النائب البرلماني أحمد حلمي، ومعه 60 نائبا بمشروع قانون يقضي بتعديل آلية اختيار رؤساء الهيئات القضائية، واقترح أن يكون التعيين من ثلاثة نواب يختار رئيس الجمهورية أحدهم لتعيينه رئيسا لكل هيئة.

وفي 28 ديسمبر/كانون الأول 2016، عبّرت أندية قضاة الهيئات القضائية، ونادي القضاة، والنيابة الإدارية، ومجلس الدولة، وقضايا الدولة، خلال بيان رسمي مشترك عن رفضهم المشروع، واعتباره يمس استقلال القضاء بشكل مباشر.

خاصة وأن التعديلات تخالف نص المادة 83 من قانون مجلس الدولة، التي تقضي بتعيين رؤساء الهيئات القضائية عن طريق جمعية عمومية خاصة بالمجلس، تختار رئيسه، وتخاطب رئيس الجمهورية لإصدار قرار التعيين، وليس لرئيس الجمهورية التدخل، وبالمشروع الجديد تتوسع صلاحيات رئيس الجمهورية على حساب سلطة الجمعية العمومية.

وفي 27 مارس/ آذار 2017، وافقت اللجنة التشريعية على مشروع القانون المقدم من البرلمان، دون الالتفات إلى مشروع قانون نادي القضاة، وفي اليوم نفسه أعلنت أندية القضاة رفضها لتمرير البرلمان المشروع.

ووسط المعركة المحتدمة على القانون، صدّق رئيس الجمهورية على المشروع في 27 أبريل/نيسان 2017، بقرار رئيس الجمهورية رقم 13 لسنة 2017، وبمجرد تصديق عبد الفتاح السيسي على القانون، عدلت تلك الجهات عن اعتراضها، معلنة التزامها بتطبيقه، وهو ما حدث فعليا من ترشيحات تلك الجهات للرئيس؛ ليختار من بينها رؤساء الهيئات القضائية.

وبذلك يكون القانون الخاص بالسلطة القضائية هو آخر مسمار في نعش استقلال القضاء المصري، الذي انسحق أمام توغل السلطة التنفيذية.

"استقلال القضاء"

نصت المادة 184 من الدستور المصري لعام 2014 على أن "السلطة القضائية مستقلة، تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكاما وفقا للقانون، ويبين القانون صلاحياتها، والتدخل في شؤون العدالة أو القضايا جريمة لا تسقط بالتقادم". كما تنص المادة 94 على أن "سيادة القانون أساس الحكم فى الدولة، وتخضع الدولة للقانون، واستقلال القضاء، وحصانته، وحياديته ضمانات أساسية لحماية الحقوق والحريات".

كذلك جاءت المادة 185 لتؤكد أن "تقوم كل جهة، أو هيئة قضائية على شؤونها، ويكون لكل منها موازنة مستقلة، يناقشها مجلس النواب بكامل عناصرها، وتدرج بعد إقرارها فى الموازنة العامة للدولة رقماً واحداً، ويؤخذ رأيها فى مشروعات القوانين المنظمة لشئونها".

وهي المواد التي استند عليها نادي القضاة برئاسة المستشار محمد عبد المحسن، في موقفه الرافض لتعديل المادة (44) من قانون السلطة القضائية.

فسقوط النخب، والتحولات الكبرى التي شهدتها مصر عقب ثورة 25 يناير، والصراعات داخل دوائر السلطة الضيقة، وتداعيتها المفصلية على الأحداث، ساهمت في صناعة وجه جديد لمؤسسات الدولة المصرية، مع وجود رئيس عسكري فرض هيمنة شمولية قلّصت من كل الصلاحيات والسلطات لصالحه.