مذكرة توقيف.. لماذا يتجنب سياسيو لبنان تسليم رياض سلامة للمحاكمة الدولية؟

لندن - الاستقلال | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

وضع القضاء الفرنسي السلطات في بيروت أمام مسؤولياتها بعد تسلم نظيره اللبناني مذكرة توقيف دولية أصدرتها قاضية فرنسية بحق حاكم المصرف المركزي رياض سلامة قبل أن تتحول إلى منظمة الشرطة الدولية "الإنتربول".

وسلامة (73 عاما) يعتلي قمة هرم السلطة السياسية الفاسدة في لبنان كونه يدير المصرف المركزي منذ 28 عاما، ويحمي أموال المسؤولين في هذا البلد الغارق في أزمة اقتصادية طاحنة ألقت بـ 90 بالمئة من المواطنين في براثن الفقر.

ورياض سلامة الذي تحقق دول أوروبية بشأن ثروته ويشتبه المحققون في أنه راكم أصولا عقارية ومصرفية عبر مخطط مالي معقد، فضلا عن إساءة استخدامه أموالا عامة لبنانية على نطاق واسع، يبدو أنه "وقع في الفخ" أخيرا.

مذكرة توقيف دولية

إذ قال وزير الداخلية اللبناني في حكومة تصريف الأعمال بسام مولوي لوكالة "رويترز" البريطانية إن لبنان تلقى مذكرة من "الإنتربول" بحق سلامة، قائلا إنه سينفذ الإشعار إذا أمر القضاء بذلك.

وأوضح مولوي في 19 مايو/أيار 2023، أن النشرة الحمراء للإنتربول صدرت قبلها بيوم، مضيفا أن القضاء اللبناني تلقى الإشعار في صباح اليوم التالي.

والنشرة الحمراء هي طلب يقدم إلى أجهزة إنفاذ القانون في أرجاء العالم لتحديد مكان شخص واعتقاله مؤقتا بانتظار تسليمه أو اتخاذ إجراء قانوني مماثل.

وتسلم القضاء اللبناني بالتزامن مذكرة توقيف دولية أصدرتها قاضية فرنسية بحق حاكم المصرف المركزي بعد تخلفه عن المثول أمامها في إطار تحقيقها فيما إذا كان قد اختلس مئات الملايين من الدولارات من الأموال العامة، وهو اتهام ينفيه سلامة.

وتستند النشرة الحمراء إلى مذكرة اعتقال أو أمر محكمة صادر عن السلطات القضائية في البلد مقدم الطلب (فرنسا)، في حالة رياض سلامة الذي يحمل جنسيتها.

ولا يستطيع الإنتربول إلزام أجهزة إنفاذ القانون في أي بلد باعتقال شخص صدرت بحقه مذكرة توقيف.

وهذه أول مذكرة اعتقال يُعلن عنها تصدر فيما يتعلق بتحقيقات تجريها خمس دول أوروبية بشأن حاكم مصرف لبنان الذي كان يتكرر ظهوره في المحافل الاقتصادية والمطاعم الراقية في أوروبا، قبل أن يصبح من النادر رؤيته في الأماكن العامة، باستثناء المقابلات التلفزيونية التي يجريها على نحو شبه منتظم للدفاع عن تاريخه.

وحظي سلامة لفترة طويلة بدعم شخصيات رئيسة في النخبة السياسية اللبنانية، لكن يبدو أن هذا الدعم بدأ يتلاشى بسرعة كبيرة بعد أن صرح رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بأنه يجب عليه ترك منصبه.

وتغيب سلامة في 17 مايو، عن جلسة استجواب كانت محددة في باريس، فعمدت القاضية الفرنسية أود بوريزي إثرها إلى إصدار مذكرة توقيف دولية بحقه.

وفي ذلك الوقت كان رياض سلامة يتابع أعماله في مكتبه ببيروت دون أي تعديل على برامجه مكتبه في المصرف المركزي.

حتى أنه أبلغ الحاضرين أن مذكرة التوقيف لا أساس قانونيا لها، وأنه سيواجهها بحسب المقتضيات القانونية، وفق ما نقلت صحيفة "الأخبار" اللبنانية.

تهم فساد

ووجه القضاء الفرنسي في 21 أبريل/نيسان 2023 اتهامات مبدئية له بالتزوير وغسل الأموال تستند جزئيا إلى مزاعم عن تزوير كشوف حسابات مصرفية لإخفاء ثروته.

ويقف خلف سلامة سياسيون ورجال أعمال من مختلف الأحزاب والطوائف اللبنانية، وأسهمت مصالح هؤلاء مجتمعة في تثبيته في مكانه منذ عقود متتالية، وذلك لضمان عدم انهيار "منظومة الفساد المالية" التي تذوب تحتها الشعارات الحزبية في هذا البلد القائم على التركيبة الطائفية.

وكان النائب العام في لبنان غسان عويدات قد ادعى في فبراير/شباط 2023 على سلامة بتهم الإثراء غير المشروع وتبييض الأموال، علما بأن القوانين اللبنانية تمنع تسليم المواطنين لأي دولة أجنبية وتنص على محاكمتهم داخل البلاد.

النائب العام التمييزي غسان عويدات الذي تسلم المذكرة، يُرجح أن يستدعى سلامة إلى جلسة تحقيق "على أن يطلب بعدها من القضاء الفرنسي إيداعه ملفه القضائي ويقرر ما إذا كانت الأدلة المتوافرة فيه كافية لاتهامه ومحاكمته".

وإذا ثبتت الاتهامات التي تتنوع بين تبييض أموال وإثراء غير مشروع، "سيصار إلى محاكمة سلامة في لبنان"، وفق ما نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن مصدر قضائي بتاريخ 19 مايو.

وفي مقابلة بثتها قناة الحدث السعودية بتاريخ 18 مايو، قال سلامة "ضميري مرتاح، والتهم الموجّهة إليّ غير صحيحة، وإذا صدر حكم ضدي، سأتنحى عن حاكمية المصرف".

 ويشغل سلامة منصبه منذ العام 1993، وتنتهي ولايته في يوليو/تموز 2023، لكنه قال أخيرا إنه لن يبقى في منصبه بعدها.

ومنذ مطلع عام 2023 حضر محققون أوروبيون من فرنسا ولوكسمبورغ وألمانيا وبلجيكا ثلاث مرات إلى لبنان، واستمعوا إلى سلامة وشهود آخرين في قضيته بينهم شقيقه "رجا" وموظفون سابقون في مصرف لبنان ومسؤولو مصارف تجارية.

وتركزت التحقيقات الأوروبية على العلاقة بين مصرف لبنان وشركة "فوري أسوشييتس" المسجّلة في الجزر العذراء ولها مكتب في بيروت والمستفيد الاقتصادي منها شقيق سلامة.

ويُعتقد أن الشركة أدت دور الوسيط لشراء سندات خزينة ويوروبوند من مصرف لبنان عبر تلقي عمولة اكتتاب، جرى تحويلها إلى حسابات رجا سلامة في الخارج.

وتقدم وكلاء سلامة في 16 مايو، بطلبات أمام القضاء اللبناني لتعليق التعاون مع التحقيقات الأوروبية والاكتفاء بالتحقيق المحلي الذي يجرى أساسا على خلفية التحرك الغربي في قضايا غسل أموال واختلاس.

وتوجهت لأربعة أيام متتالية دورية أمنية إلى مبنى مصرف لبنان لتبليغ سلامة "موعد جلسة استجوابه المقررة أمام القاضية أود بوريزي بتاريخ 17 مايو في باريس، لكنها لم تعثر عليه"، وفي كل مرة كان مسؤول الأمن في المصرف يبلغ الدورية أن الحاكم غير موجود، وفق وكالة الأنباء الفرنسية.

تحقيقات أوروبية

واستجوب المحققون من فرنسا وألمانيا وبلجيكا ولوكسمبورغ "رجا" شقيق سلامة بتاريخ 4 مايو 2023، لمدة ست ساعات حول تحويلات مشبوهة بقيمة تفوق 300 مليون دولار قام بها الشقيقان.

ومع بدء ظهور ملامح الانهيار الاقتصادي وانطلاق تظاهرات شعبية غير مسبوقة في أكتوبر/تشرين الأول 2019 ضد الطبقة السياسية المتهمة بالفساد وبتغليب منطق الصفقات في إدارة البلاد، اتهم محللون ومراقبون زعماء سياسيين ومسؤولين بينهم سلامة، بتحويل مبالغ ضخمة من حساباتهم إلى الخارج.

وكان القضاء اللبناني رفع في 14 أبريل/نيسان 2023، منع السفر المفروض على حاكم المصرف المركزي، ليسمح له بالمثول أمام القضاء الفرنسي، في 16 مايو من العام المذكور، وهو ما لم يحدث.

وفي يناير/كانون الثاني 2022، أصدرت القاضية غادة عون قرارا بمنع سفر سلامة بعد شكوى قدّمها ضده مجموعة ناشطين لبنانيين اتهمته فيها بسوء الإدارة المالية.

ويبدو أنه أمام العجز الاقتصادي ومماطلة لبنان بتنفيذ الإصلاحات التي طالب بها صندوق النقد الدولي من بيروت لإقراضها قرضا ماليا بقيمة 3 مليارات دولار سيكون "سلامة كبش الفداء".

إذ يكفي مغادرة سلامة لمنصبه للبدء بإقرار تشريعات يطالب بها الصندوق تتعلق مثلا بإعادة هيكلة القطاع المصرفي وتعديل قانون السرية المصرفية وتوحيد سعر صرف الليرة أمام الدولار التي هبطت قيمتها نحو قاع تاريخي فاق الـ140 ألف ليرة للدولار الواحد.

سيناريوهات محتملة

وفي هذا السياق، يرى مدير مركز "سيدار" للدراسات القانونية في لبنان محمد صبلوح، "أن هناك حالة غموض بشأن الإجراءات التي يتوقع أن تتخذها الحكومة اللبنانية بحق سلامة لا سيما مع اقتراب انتهاء ولايته، ولن يكون له تمديد وهو ما أكده تصريح ميقاتي أخيرا".

وأضاف صبلوح لـ "الاستقلال" "أننا اليوم أمام عدة سيناريوهات وهي عبارة عن أسئلة حول مصير سلامة وعلى رأسها: هل سيكون حاكم مصرف لبنان هو ضحية السلطة الحاكمة للمجتمع الدولي للقول إن لبنان يكافح الفساد؟ وإنه هو الوحيد الفاسد في هذا البلد".

ومضى يقول متسائلا: "هل سيكون هناك إجراء معين مقابل عدم تنفيذ لبنان مذكرة التوقيف الصادرة بحق سلامة عبر نقله إلى منطقة لا يتعرض فيها لاعتقال مقابل حصول تسوية خلال الشهرين المقبلين".

كما تساءل صبلوح، "هل يمكن أن تذهب الحكومة للتعامل مع سلامة مثلها مثل مذكرة التوقيف الصادرة بحق اللبناني سليم عياش المتهم بقتل (رئيس الوزراء الأسبق) رفيق الحريري عام 2005؟".

وسليم عياش حكمت عليه المحكمة الدولية الخاصة بلبنان عام 2020 بالسجن مدى الحياة خمس مرات بعد ثبوت تورطه باغتيال الحريري عمدا وعن سابق إصرار.

لكن زعيم حزب الله حسن نصر الله رفض تسليم عياش المنتمي للحزب.

وذهب صبلوح للقول: "المعطيات تشير إلى تحميل السلطة اللبنانية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مسؤولية الفساد بالبلد للهروب من مسؤولياتها، خاصة أن سلامة ليس الوحيد في جوقة السياسيين الفاسدين الذين نهبوا هذا البلد ولم تجر محاسبتهم".

وعلق موقع نداء "الوطن" اللبناني على مذكرة توقيف سلامة بقوله: "فريق الممانعة (حزب الله وحركة أمل) يحاول تطييب خاطر سلامة وطمأنته على أمل أن يستقيل من تلقاء نفسه، مع وعد بحمايته لاحقاً لا سيما في محاكمة محلية لا تصل إلى تكبيله وسجنه".

بحماية حزب الله

وأكد حزب القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع المناهض لحزب الله، أنه "لم يعد بالإمكان انتظار انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من أجل تعيين حاكم جديد".

ورأى في 19 مايو أنه "بعد صدور مذكرة دولية بحقه أصبح لِزاما استقالته وإقدام الحكومة على تعيين فوري لأنّه أثر المذكّرة الدولية لن تتعامل معه الهيئات الدولية".

من جهتها أكدت أحزاب ومجموعات من المعارضة اللبنانية في بيان لها بتاريخ 19 مايو، أنه على الحاكم الجديد لمصرف لبنان المركزي أن "يلتزم التدقيق الجنائي بحسابات المصرف لآخر 30 سنة لكشف خفايا المافيا للرأي العام والأجهزة القضائية".

وبحسب الكاتب اللبناني علي الأمين فإن "حزب الله يحمي رياض سلامة بأشفار العيون"، وفق ما كتب في موقع "نداء الوطن" في 18 مايو 2020.

وقال الأمين: رياض سلامة واحد من المنظومة الفاسدة التي يدافع حزب الله عن وجودها، لأنها تبرر وجوده النافر في مسار استعادة الدولة سلطتها ومرجعيتها".

وتابع "إسقاط سلامة أو عزله، سيزيد من كشف المنظومة الحاكمة، لأنها لا تريد أي تغيير حقيقي، وأي حاكم جديد، سيزيد وجوده من عري السلطة الحاكمة ويكشف هشاشتها أكثر".

بدوره أشار أستاذ القانون في الجامعة الأميركية في بيروت أنطوان صفير، في تصريحات تلفزيونية 19 مايو، بأن "الدولة اللبنانية تستطيع تنفيذ مذكرة التوقيف بحق رياض سلامة أو عدم تنفيذها".

ورجح احتمالية عدم تنفيذ مذكرة الاعتقال رغم توقيع لبنان على اتفاقية الإنتربول؛ "لأن جماعة المال السياسي في لبنان لا تحاسب نفسها".

ويرى مراقبون أن تسليم رياض سلامة للقضاء الدولي يعني أن "الحبل على الجرار" لباقي المتهمين بالفساد في لبنان.

ولذلك فإن تخفيه أو لجوءه إلى الضاحية الجنوبية معقل حزب الله في بيروت، هو الخيار المفضل له لكون مثوله أمام القضاء الدولي يعني "تعرية سلسلة الفساد في لبنان بشكل كامل".

وبدأ الشارع اللبناني بالمطالبة من أمام منزل رياض سلامة في الرابية وهي ضاحية على الجانب الشمالي لبيروت، بمصادرة أمواله وممتلكاته التي كشفها التحقيق.