بعد قطيعة وإغلاق حدود.. ماذا يجبر تركيا وأرمينيا على الإسراع في تطبيع العلاقات؟

علي صباحي | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

بعد ثلاثة عقود من القطيعة وإغلاق الحدود، يبدو أن تركيا وأرمينيا تتجهان إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات بينهما، وسط ترحيب مثير للانتباه من قبل قوى إقليمية ودولية، وأحاديث عن مكاسب سياسية واقتصادية لهذه الانفراجة.

وأعلنت وزارة الخارجية التركية في 5 يناير/كانون الثاني 2022، عقد اجتماع هو الأول من نوعه بين الممثلين الخاصين التركي والأرميني في 14 من الشهر ذاته بالعاصمة الروسية موسكو، لبحث عملية التطبيع بين البلدين.

وفي 15 ديسمبر/كانون الأول 2021، عينت تركيا سفيرها السابق لدى واشنطن سردار قيليتش ممثلا خاصا لتطبيع العلاقات مع أرمينيا، كما عينت الأخيرة نائب رئيس البرلمان روبن روبينيان ممثلا خاصا لعملية الحوار بين البلدين.

ويرى مراقبون أن فرص تطبيع العلاقات بين أنقرة ويريفان حاليا أكبر من أي وقت مضى، لاسيما بعد انتهاء الاحتلال الأرميني لإقليم قره باغ الأذربيجاني، ودعم باكو وموسكو وواشنطن لمسار المصالحة، لما سيحققه من مكاسب متنوعة لكافة الأطراف.

ماض ثقيل

في خريف 2020، تصاعد التوتر بين تركيا وأرمينيا بسبب الاشتباكات العسكرية بين يريفان وباكو في إقليم قره باغ، حيث تلقت الأخيرة دعما عسكريا استشاريا تركيا، في مقدمته طائرات بيرقدار المسيرة.

وتوقفت المعارك بعد إبرام اتفاق على وقف الأعمال القتالية برعاية روسيا، ليكرس ذلك هزيمة عسكرية لأرمينيا ومكاسب ميدانية كبيرة لأذربيجان التي استعادت أراضيها المحتلة منذ نحو 3 عقود.

وحينذاك اتهمت الحكومة الأرمينية نظيرتها التركية بالمشاركة المباشرة في الحرب التي استمرت 44 يوما، وهو ما نفته أنقرة.

وترجع العلاقات بين الجانبين إلى 16 ديسمبر 1991 عندما اعترفت تركيا باستقلال جارتها أرمينيا عن الاتحاد السوفييتي، كما قدمت لها مساعدات إنسانية عاجلة في ظل المشاكل الاقتصادية الخطيرة التي واجهتها في أولى أيامها، وفق موقع وزارة الخارجية التركية.

وأضاف الموقع أن تركيا بذلت جهودا لدمج دولة أرمينيا الناشئة مع المنظمات الإقليمية والمجتمع الدولي والمؤسسات الغربية، ودعتها للانضمام إلى منظمة التعاون الاقتصادي للبحر الأسود  (BSEC) كعضو مؤسس.

غير أنه بعد احتلال أرمينيا إقليم قره باغ الأذربيجاني في عام 1993، اضطرت تركيا لإنهاء التجارة المباشرة بين البلدين وإغلاق الحدود البرية والجوية.

وهكذا لم يجر تهيئة الظروف، وفق الوزارة التركية، لإقامة علاقات دبلوماسية وتطوير التعاون الثنائي بين البلدين.

ويرجع ذلك، حسب محللين أتراك، إلى إصرار أرمينيا ولوبياتها في مختلف أنحاء العالم على إثارة قضية ما يعرف بـ"الإبادة الأرمينية" إبان عهد الدولة العثمانية وتحديدا في عام 1915، إذ تستغل هذا الملف في إطلاق حملات تستهدف تركيا حكومة وشعبا.

وكشف البروفيسور التركي خلوق سلفي، مدير مركز أبحاث العلاقات التركية الأرمينية في جامعة سقاريا التركية لوكالة الأناضول في أبريل/ نيسان 2018  أن "نحو 300 لوبي أرميني حول العالم، يعتمدون في معيشتهم على التجارة بمزاعم أن الأتراك ارتكبوا مجازر ضد الأرمن عام 1915، رغم افتقارهم للأدلة والوثائق التاريخية التي تثبت ذلك".

وتزعم أرمينيا إن قرابة مليون ونصف المليون أرميني قتلوا في تلك المجازر، بينما ترفض تركيا الاعتراف بذلك، وتؤكد أن حربا أهلية في الأناضول تزامنت مع مجاعة حينذاك، تسببت بمقتل عشرات الآلاف من الأرمن والأتراك على حد سواء.

كما تقترح تركيا إجراء أبحاث حول أحداث 1915 في الأرشيفات التركية والأرمينية والدولية، وإنشاء لجنة مشتركة تضم مؤرخين أتراكا وأرمن وخبراء دوليين لإظهار الحقيقة.

وهو ما ترفضه أرمينيا خشية إجبارها عبر أي اتفاق على التوقف عن جهودها لنيل اعتراف دولي بوصف ما جرى للأرمن بأنه "إبادة جماعية".

ليست المحاولة الأولى

من جانبها أشارت وكالة الأنباء الفرنسية إلى أن الجهود الأخيرة لتطبيع العلاقات بين تركيا وأرمينيا ليست المحاولة الأولى في هذا الشأن.

وأضافت في تقرير بتاريخ 16 ديسمبر 2021 أن الفترة بين 2008-2009 شهدت تطورات إيجابية بين الجانبين، إذ شاءت صدف التأهل لكأس العالم لكرة القدم وقوع أرمينيا وتركيا في المجموعة ذاتها.

وتابعت: حضر حينذاك الرئيسان التركي عبد الله غل والأرميني سيرج سركسيان مباراتي الذهاب في يريفان والإياب في بورصة التركية، ما مثل نقلة رمزية في العلاقات الثنائية بين البلدين.

وشهد عام 2009 تطورا مهما من أجل تجاوز الأزمة بين البلدين، إذ وقعا بروتوكولين لإقامة علاقات دبلوماسية وإجراء دراسة علمية محايدة للمراجع التاريخية، من أجل بناء الثقة المتبادلة وحل المشاكل.

غير أن المحكمة الدستورية في أرمينيا رفضت البروتوكولين بذريعة أنهما "لا يتماشيان مع نص الدستور وروحه".

ووفق الوكالة الفرنسية، اعتبرت أذربيجان حينذاك أنها استبعدت، ومارست ضغوطا على تركيا مهددة بتعليق إمداداتها الحيوية بالغاز والنفط واستثماراتها الطائلة، "ما اضطر الأتراك إلى التراجع".

ورغم كل ذلك وفي خطوة غير مسبوقة، أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عن تعازيه لمواطني الدولة العثمانية الذين فقدوا حياتهم إبان الحرب العالمية الأولى، وعلى رأسهم الأرمن.

ووجه دعوة من أجل السلام والتصالح، برسالة في 23 أبريل 2014، عندما كان رئيسا للوزراء، لكن هذه المبادرة لم تفض إلى نتيجة أيضا.

وعلى نفس الوتيرة قالت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" إن هذا التقارب ليس وليد اللحظة، فقد سبق ذلك اتصالات غير معلنة، نجحت قبل أشهر، في دفع أرمينيا للإعلان عن موافقتها على فتح أجوائها أمام رحلات الطائرات التركية المتوجهة إلى أذربيجان.

وأشارت خلال تقرير في 16 ديسمبر إلى إعلان وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو بدء تسيير رحلات جوية بين إسطنبول ويريفان قريبا بالتنسيق مع أذربيجان.

بوادر داعمة

وفي إطار البوادر الداعمة لهذه التحركات، لفتت الوكالة الفرنسية إلى دور روسيا الحاسم في وضع حد لحرب قره باغ الأخيرة، مؤكدة أنها تسعى لتطبيع العلاقات بين تركيا وأرمينيا، من أجل فتح خطوط للنقل والطاقة في المنطقة وأن تجري هذه التطورات تحت رعايتها".

وتماشيا مع هذا الطرح، قال نائب المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة، ديميتري بوليانسكي إن إعادة إقامة علاقات الجوار الطبيعية بين تركيا وأرمينيا سيستفيد منها العالم بأسره.

وأضاف خلال مؤتمر صحفي بنيويورك في 28 ديسمبر تزامنا مع نهاية 2021 أننا "نؤيد المشاركة الإقليمية القريبة ونرحب بتطبيع العلاقات التركية الأرمينية، وليس من المستغرب أن يعقد أول اجتماع بينهما في موسكو، فلدينا شراكة جيدة مع البلدين، ونشجع الشبكات الاقتصادية والإقليمية".

كما أعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في تغريدة عبر تويتر في 15 ديسمبر "ترحيب" بلاده بعملية تطبيع العلاقات بين تركيا وأرمينيا، مؤكدا دعمه ذلك بقوة.

ويأتي ترحيب بلينكن متوافقا مع تقارير دولية عن دعوة الرئيس جو بايدن لنظيره التركي أردوغان خلال لقائهما الأخير في روما على هامش قمة دول العشرين، لتطبيع العلاقات مع أرمينيا.

ولا شك أن إيران هي سبب رغبة أميركا في ذلك، إذ كشفت صحيفة النهار اللبنانية في 9 يونيو/ حزيران 2019 أن واشنطن تمارس ضغوطا على يريفان من أجل إغلاق الحدود الأرمينية مع إيران وفتح الحدود مع تركيا.

وأضافت أن العلاقات التجارية والاقتصادية المستمرة بين أرمينيا وإيران أصبحت إلى حد ما شريان حياة بالنسبة إلى يريفان، مع إحاطة تركيا وأذربيجان بجانبين من حدودها.

وهو ما يبقي نافذتين فقط لدى أرمينيا مع العالم الخارجي، هما جورجيا وإيران.

ولفتت إلى أن زيارة مستشار شؤون الأمن القومي الأميركي السابق جون بولتون في أكتوبر 2018 إلى أرمينيا وأذربيجان وجورجيا كانت لتأمين الدعم للخطط الأميركية من أجل عزل إيران أكثر.

وأوضحت أن واشنطن على الرغم من سياستها العدوانية تجاه إيران، فإنها تسامحت دوما بفضل اللوبي الأرميني مع التعاون بين يريفان وطهران.

ويعود هذا التسامح إلى الوعي الأميركي للوضع الجيواقتصادي لأرمينيا، التي من دون روابط موسعة مع إيران ستواجه مشاكل اجتماعية واقتصادية.

من جانبه، أعلن وزير الخارجية الأذربيجاني جيهون بيراموف في 27 ديسمبر أن بلاده تدعم وبشكل كامل تطبيع "تركيا الشقيقة" علاقاتها مع أرمينيا.

وأضاف في مؤتمره الصحفي السنوي في باكو، أن تركيا وأذربيجان تؤيدان تطوير العلاقات مع جميع دول العالم.

وبين أن تطبيع العلاقات بين أنقرة ويريفان سيخدم المصالح المشتركة بين تركيا وأذربيجان أيضا.

مرحلة جديدة

وعن أبعاد عملية التطبيع، رأت وكالة الأناضول التركية أن مخرجات الانتخابات الأرمينية الأخيرة، وموقف الشتات الأرميني، والقرارات السياسية التي اتخذتها الدول الغربية، وعديد من القضايا الأخرى، كشفت مرة أخرى عن ضرورة حل المشاكل التي تواجه العلاقات التركية الأرمينية بالوسائل السلمية في أسرع وقت ممكن.

وأضافت في مقال بتاريخ 20 ديسمبر أن تطبيع العلاقات التركية الأرمينية سينعكس بشكل إيجابي على جميع أطراف المنطقة وسيلعب دورا مهما في التنمية السياسية والثقافية بالقوقاز، والأهم أنه سيمهد الطريق لتأسيس مشاريع في مجال الطاقة، والنقل، والبنية التحتية.

ولفتت إلى أن إعلان موسكو الذي أنهى حرب قره باغ، ووقع عليه الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف ورئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان يضمن شق ممر لوجستي يحوي طرقا سريعة وخطوط سكك حديدية عبر الأراضي الأرمينية في منطقة "زنغازور" من أجل ربط أذربيجان بإقليم ناخيتشيفان ذاتي الحكم.

وافتتاح هذا الممر سيساهم على المدى الطويل في تأسيس مشاريع مهمة لنقل الطاقة من منطقة بحر قزوين الغنية بالنفط والغاز الطبيعي، كما يعتبر همزة وصل في عالم التجارة بين الشرق والغرب، لا سيما في ظل مشاريع إعادة إحياء طريق الحرير التاريخي.

وأرمينيا التي تواجه ظروفا اقتصادية صعبة، بحاجة إلى المشاركة في هذه المشاريع وتحريك التفاعل الاقتصادي، لذلك يرى باشينيان التطبيع فرصة تاريخية.

لهذا السبب، تمكن من الحصول على غالبية الأصوات في الانتخابات الأخيرة، رغم الاحتجاجات التي شهدتها البلاد بعد حرب قره باغ 2020.

والممر من شأنه أيضا أن يوفر تواصلا بريا بين تركيا من جهة، والجمهوريات التركية في وسط آسيا والقوقاز من جهة أخرى، لذلك يعرف باسم "ممر العالم التركي".

وبينما يقلل الممر من نفوذ إيران في المنطقة التي كانت مستفيدة من الوضع الراهن، فهو سيحقق أيضا تأثيرا اقتصاديا إيجابيا على الدول الشرقية والغربية على حد سواء، وفق الأناضول.

غير أنها أشارت إلى وجود بعض الجماعات القومية الأرمينية التي تسعى إلى تعطيل التطبيع، لكنها قالت إن الدول الغربية ستدعم هذه الانفراجة وفتح ممر "زنغازور" بناءا على حسابات اقتصادية وسياسية.

وعن الاجتماع المرتقب في 14 يناير 2022، يرى تولغا ساقمان رئيس مركز "الشؤون الدبلوماسية والدراسات السياسية" (مقره إسطنبول) أنه سيكون من الخطأ انتظار أن يسفر أول لقاء بين تركيا وأرمينيا عن نتائج كبيرة، ويرجح أن يشهد الاجتماع مناقشات حول تطلعات ورغبات كل طرف من الآخر.

ويضيف لـ"الاستقلال" أن موقف الجانب الأرميني من حرب قره باغ وممر زنغازور، إضافة إلى المزاعم المتعلقة بأحداث 1915 هو ما سيحدد نهج تركيا وقرارها بشأن مواصلة العملية.

ويعتبر الخبير التركي أن أهم شيء خلال هذه المرحلة هو حرص الطرفين على استمرار محادثات التطبيع وقرارهما بشأن مكان انعقاد اللقاءات التالية.

ويلفت إلى أن مكان انعقاد الاجتماعات بين الجانبين سيشير إلى ملامح عن النتائج التي قد تسفر عنها هذه الجهود.

ويستبعد ساقمان أن تتسرع الأطراف المعنية في بداية هذه العملية في تحديد خريطة طريق حول العلاقات الدبلوماسية وفتح الحدود البرية.

كما يشير إلى أن هذا اللقاء يتميز عن الاجتماعات السابقة التي كانت تجري عبر وسطاء بأنه سيعقد وجها لوجه، وهو أمر مهم للغاية للتطبيع.

ويتابع أن "ممثل تركيا السفير قيليتش بحكم عمله في واشنطن يعرف جيدا تأثير وأنشطة اللوبيات الأرمينية، ومن الواضح أنه سيقدم إسهامات كبيرة في هذا الاجتماع.