لماذا تنفق تركيا كل هذه الأموال على الدراما؟

وصال طنطانا | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

تكلفة إنتاج الساعة الواحدة من أي مسلسل تركي قد تصل إلى 100 ألف دولار، وفي حين كانت صادرات تركيا من الدراما في 2008 لا تتجاوز 10 ملايين دولار، وصلت لأكثر من 350 مليون دولار في 2018. المؤكد أن تركيا لا تنفق كل هذا المال حتى توفر فقط متعة للمشاهد، لكن الأمر يتعلق أيضا بسياسة الدولة وتوجهها.

ولعل زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لمواقع تصوير مسلسل "أرطغرل" الشهير، واصطحاب أبطاله إلى بعض دول الخليج، يؤكد رغبة الدولة التركية في إبراز ملاحم تاريخ الحضارة العثمانية للعالم أجمع.

تحقيق الانتشار

أردوغان أشاد بقطاع صناعة الأفلام والمسلسلات التركي وتحقيقه إيرادات بملايين الدولارات قائلا: إن "صادراتنا من الأفلام والمسلسلات بلغت 350 مليون دولار، وتركيا في هذا القطاع بالمرتبة الثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة".

 

 

نسبة مشاهدات المسلسلات التركية زادت بشكل لافت مؤخرا، إذ أصبح يتابعها أكثر من نصف مليار شخص في أكثر من 140 بلدا حول العالم، وفق تقارير ودراسات رسمية، الأمر الذي جعل تركيا لا تكتفي بهذا القدر، بل عملت على التخطيط من أجل رفع أرباحها من الدراما إلى مليار دولار بحلول عام 2023.

ويصل معدل الإنتاج السنوي من المسلسلات في تركيا إلى أكثر من 70 مسلسلاً، فيما يتم تصدير ما بين 10 إلى 15 مسلسلا من بقية المسلسلات التي تحقق نجاحاً كبيراً إلى خارج تركيا. وتتم دبلجتها إلى عدد من اللغات، ومن بينها العربية، بحسب، مدير شركة "كالينوس هولدينج" المصدرة للمسلسلات، بشير تاتلي.

تحتل الدرامية التركية المرتبة الثانية بعد الأمريكية، حسب تقارير تركية رسمية. وأفاد موقع "فاريتي" الأمريكي المتخصص في التلفزيون والسينما، أن قطاع الدراما تطور بشكل كبير في آخر 10 سنوات، وأصبحت الدراما التركية تلاقي قبولا خارج البلاد.

واحتلت 4 مسلسلات تركية مكاناً بين أفضل 15 برنامجاً تلفزيونياً في أمريكا اللاتينية، مشيرا إلى أنها تسعى للوصول إلى حجم تصدير يبلغ 750 مليون دولار، بحلول العام 2023.

سلسلة مترابطة

يجر هذا النجاح الذي تحقق تركيا في قطاع الصناعة الدرامية مجموعة من النجاحات في قطاعات أخرى، فبفضله يتزايد عدد السياح وبالتالي الاقتصاد المحرك الأساسي لتقدم الدولة ونجاحها.

خلال خطاب له الأسبوع الماضي، وقف أردوغان عند قطاع السياحة، قائلاً إن بلاده أصبحت تستقبل السياح خلال المواسم الـ4 من العام، متوقعاً أن يصل عدد السياح الأجانب الذين تستقبلهم تركيا خلال العام الجاري إلى 50 مليون سائح.

وأضاف أن حكومته تسعى إلى جعل الاقتصاد التركي ضمن الاقتصادات التي تحقق فائضاً في الحساب التجاري، مشيراً إلى أنها تستهدف صادرات عند 182 مليار دولار خلال 2019، ونصف تريليون دولار في 2023.

تروج المسلسلات التي تنتجها تركيا لأماكن سياحية تركز فيها على ما يجذب الزوار من طبيعة خلابة ومناظر جميلة. ومع نجاح الأعمال الدرامية ووصولها إلى العالمية، أصبحت الإنتاجات تركز على مناطق أخرى غير إسطنبول، إذ يظهر مسلسل "احكي أيها البحر الأسود" مثلا، تقاليد وعادات ومناظر منطقة البحر الأسود التي تتواجد بها مدينة طرابزون. وقد بلغ حجم استثمارات السعوديين بالمدينة في 2016 قرابة 5 مليارات دولارات.

 

 

بعد دبلجة المسلسل التركي "ما ذنب فاطمة؟"، في 2015، إلى اللغتين الإسبانية والبرتغالية، أحدث صدى واسعاً في أمريكا الجنوبية. وفي الأرجنتين وحدها، شاهد حلقات المسلسل أكثر من 12 مليون شخص.

"ما ذنب فاطمة؟" لم يكن المسلسل التركي الوحيد من بين الأكثر مشاهدة في قارة أمريكا الجنوبية. ففي تشيلي على سبيل المثال، حاز المسلسل التركي "ألف ليلة وليلة" على لقب أكثر البرامج التلفزيونية مشاهدة في عام 2014.

قوتها الناعمة

وزير الثقافة التركي السابق عمر جيليك، قال في تصريحات صحفية إن أرباح تركيا من الدراما التلفزيونية المحلية تلعب دوراً رئيسياً في التمكن من "القوة الناعمة" داخل المنطقة.

إلى نهاية التسعينات ظلت العلاقات العربية-التركية متوترة، وظلت تعيش نقصا في الثقة من الطرفين. هذه النظرة ظلت طاغية، ولفترة طويلة، ما جعل التعاون ضئيلا بين تركيا والدول العربية القوية حينها، كمصر وسوريا.

وصول "العدالة والتنمية" إلى الحكم في تركيا عام 2002، أذِن ببداية عصر جديد من التعاون بين القطبين، وتضاعف حجم التبادلات التجارية 6 أضعاف ما بين 2002 و2011، إلى أن أصبح يحسب للقوة التركية في الشرق الأوسط ألف حساب.

من وجهة نظر تركيا فإن الفضل في الشهرة التي تكتسبها المسلسلات، يعود لنظرة المجتمعات العربية إلى تركيا أنها أصبحت بلدا حديثا ومتطورا. ونتيجة ذلك كان إقبال العرب أكثر على معرفة وتعلم اللغة والثقافة التركية وأيضا تزايد عدد السياح العرب.

أما وجهة النظر العربية فتفيد أن هذه المسلسلات خلقت وعيا لدى العرب بتطرقها لمواضيع مجتمعية يمكن مصادفتها في الحياة اليومية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل هذه المسلسلات تؤثر على قوة تركيا على المستوى السياسي؟

المتخصصة في السياسة التركية، الحاصلة على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة بيلكنت في أنقرة، آهو ييت، تجيب عن السؤال في دراسة أنجزتها، بالقول "رغم أنها (الدراما التركية) يمكن أن تكون صورة إيجابية عن البلد، لكن هذا لا يعني دعم المجتمعات العربية لتركيا في المجال السياسي".

الباحثة أضافت أن "المنتجين الأتراك رسخوا من قوتهم ومكانتهم واستغلوا الفرصة في مجال الدراما، على عكس المنتجين العرب الذين فقدوا جمهورهم شيئا فشيئا. لكن الإسلاميين في بعض الدول العربية مثل مصر وتونس، يضعون قيودا على المجال الفني، إلا أنهم يتركون مفهوم الأخلاق مبهما".

ولا يمكن الحديث عن تأثير الدراما التركية في الشرق الأوسط دون الحديث عن مفهوم الأسرة، الذي تبرزه هذه المسلسلات ويعرّف بالثقافة التركية. الدولة سعت أن تنشر هذه الثقافة وتصبح أكثر شهرة وبالتالي أكثر تأثيرا، فهذه المسلسلات تلعب دورا مهما لتسويق صورة تركيا المعاصرة.

وحسب الوزير التركي لشؤون الاتحاد الأوروبي السابق إغجمن باغيش، فإن تركيا تستخدم الدراما كحجر أساس في قوتها الناعمة (وهو مفهوم صاغه جوزيف ناي، الأستاذ في جامعة هارفارد الأمريكية لوصف القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع).

شكل احترافي

ورغم كل هذه الإنجازات التي تحققها عن طريق الدراما، فإن شريحة من الطبقة الحاكمة لا تناصر هذه القوة الناعمة، إذ سبق وصرحت وزيرة الدولة التركية لشؤون الأسرة والطفل السابق، سلمى عليا كفاف، أن "هذه المسلسلات تقدم صورة غير مشرفة عن الثقافة التركية، فالكثير منها يبيح العلاقات الحميمية خارج إطار مؤسسة الزواج".

المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزة، غالبا ما يفرض غرامات على المنتجين بسبب هذا المحتوى غير المحتشم، لذلك يجد المنتجون أنفسهم تحت الضغط، ويجدون أنهم ملزمون بتغيير السيناريو.

الباحث في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جلال سلمي، قال في مقال له إن الإعلام أحد أهم أسلحة القوة الناعمة، إذ أنه مؤثر إلى درجة جعلته يصفه بـ"دين الناس".

وأوضح الباحث أن تركيا عملت على استخدام هذا السلاح بشكل احترافي، إذ أن هذه  المسلسلات لها تأثير قوي في جذب جميع المشاهدين لزيارة تركيا للسياحة واستهلاك البضائع التركية لأن منتجيها أناس جاذبون بالنسبة لهم.

واعتبر سلمي أن تلك الأسلحة الناعمة لها تأثير قوي على مشاعر مواطني الدول الأخرى، ما جعل تركيا أقل انغلاقا من السابق. وعزا الباحث كون تركيا القوة الاقتصادية الـ19 في العالم بعدما كانت في المرتبة الـ30، إلى المردود الذي تحققه من السياحة والتجارة عن طريق الدراما.