انتفاضة قضاة تونس ضد سلطوية قيس سعيد.. خلفيات التصعيد وتداعياته

منذ ٨ دقائق

12

طباعة

مشاركة

ما تزال سطوة الرئيس التونسي قيس سعيد على المؤسسات القضائية ببلاده تثير استهجان ورفض سياسيين وفاعلين بالقطاع الحقوقي والقضائي، ومن ذلك ما صدر عن جمعية القضاة التونسيين.

حيث انتقد المكتب التنفيذي للجمعية في بيان بتاريخ 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، التدهور المتفاقم للوضع القضائي، بعد نزع كل ضمانات الاستقلالية الشخصية والمؤسسية على القضاء والقضاة.

وشددت الجمعية أن هذا التدهور أدى إلى خلل فادح وغير مسبوق في أداء القضاء، وقصور في  إنتاج عدالة منصفة وحامية للحقوق والحريات، وصدور أحكام جزائية تتضمن عقوبات قصوى بلغت حد الحكم بالإعدام على خلفية التعبير عن الرأي.

وانتقد البيان ما وصفها بـ"الإخلالات الناجمة عن التدخل المباشر للسلطة التنفيذية في إدارة المسارات المهنية للقضاة".

وعبر القضاة عن "شجبهم واستنكارهم وبالغ استهجانهم ورفضهم لتصريح غريب لوزيرة العدل جاء فيه أنه لا حاجة لنا بالمجلس الأعلى للقضاء".

كما انتقدت الجمعية إنكار الوزيرة لفداحة ما يحصل من إضرار باستقلال القضاء ونزاهته بتدخلها المباشر في نقل القضاة العدليين وترقياتهم وتأديبهم بواسطة مذكرات العمل غير القانونية.

وشدّد القضاة على أنه لا استقلال للقضاء ولا نزاهة للأحكام ولعدالتها في ظل قبضة السلطة التنفيذية على المسارات المهنية للقضاة، وفي غياب مجلس أعلى للقضاء مستقل يشرف على تلك المسارات ويحميهم من الضغط والتدخل السياسي والتنفيذي في أعمالهم.

وأكّدت الجمعية على "ضرورة تركيز مجلس أعلى للقضاء مستقل طبق المعايير الدولية لاستقلال القضاء، يحمي القضاة من انفراد السلطة التنفيذية بمساراتهم المهنية ويحقق التوازن بين السلطات".

وأردف البيان، "خاصة بعد ما كشفت عنه السنوات الأخيرة من غياب هذه المؤسسة الدستورية الهامة من عواقب وخيمة على العدالة وعلى حماية الحقوق والحريات".

قرار الحل

يُذكر أن سعيد أصدر في 6 فبراير/شباط 2022، قرارا يقضي بحل المجلس الأعلى للقضاء، ويرى أن المجلس أصبح من الماضي.

جاء قرار سعيد بحل المجلس بعد انتقاداته اللاذعة على مدى أشهر للقضاة سابقة، حين ردد كثيرا أنه لن يسمح بأن تكون هناك دولة للقضاء بل هناك قضاء الدولة.

وانتقد سعيد كثيرا ما أسماه تأخر القضاء في إصدار الأحكام في قضايا الفساد والإرهاب، قائلا: إن هناك فسادا وإنه مصرّ على إصلاح القضاء.

وقال الرئيس التونسي وقتها: إن القضاء هو وظيفة فقط داخل الدولة وليس سلطة. فيما ألغى كل الامتيازات المالية لأعضاء المجلس الأعلى شهرا قبل حله.

والمجلس الأعلى للقضاء مؤسسة دستورية تتمتع باستقلال، ومن صلاحياتها حسن سير القضاء وضمان استقلاليته، إضافة إلى تأديب القضاة ومنحهم الترقيات المهنية.

ويواجه سعيد انتقادات واسعة بأنه فرض حكما فرديا مستبدا بعد أن جمع كل السلطة في يده ورفض الحوار مع الأحزاب.

ومنذ 25 يوليو/تموز 2021، تشهد تونس أزمة سياسية حين بدأ الرئيس قيس سعيد اتخاذ إجراءات استثنائية، منها تجميد اختصاصات البرلمان، وإلغاء هيئة مراقبة دستورية القوانين، وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية، وإقالة الحكومة، وتعيين أخرى جديدة.

وترفض غالبية القوى السياسية في تونس إجراءات سعيد الاستثنائية، وتعدها "انقلابا على الدستور"، والتي انتظمت في جبهة الخلاص الوطني، برئاسة أحمد نجيب الشابي.

في السياق، نبّهت "الشبكة العربية لاستقلال القضاء" مع إطلاقها في يوليو/تموز 2025، وتضمّ خمس عشرة منظمة حقوقية من ست دول عربية، إلى "التعدّي الممنهج ضد القضاء والقضاة في تونس".

كما انتقدت "تقويض مجمل ضمانات استقلالية القضاء، وإخضاع القضاة لنظام قوامه الهشاشة والخوف".

واستدلّت الشبكة بتعطيل السلطة التنفيذية حركة النقل القضائية أكثر من عام، بسبب إعادة إدماج قضاة أقرّت المحكمة الإدارية بإيقاف إعفائهم، مشددة أن أزمة المجلس الأعلى للقضاء مستمرة إلى اليوم.

استهداف متعمد

وتفاعلا مع المشهد، قال الباحث القانوني التونسي كريم المرزوقي: إن المجلس الأعلى للقضاء يغيب للسنة الثانية على التوالي، بعد أن تم تجميد المجلس المؤقت بعد تعمد السلطة التنفيذية إحداث شغورات به.

وأضاف لـ "الاستقلال"، وبذلك يتواصل الوضع الاستثنائي في البلاد، ويتواصل معه تغييب ضمانة جوهرية لاستقلال القضاة في ظلّ إدارة وزارة العدل لنقلهم مع التعيين والجرد من الخطط القضائية عبر آلية مذكرات العمل.

وشدد أن هذا الوضع أنتج، علاوة على ذلك، ارتباكا في تسيير المحاكم، وأصبح القضاة رهينة لدى مذكرات العمل الوزارية، والتي عبرها يتم إدارة المسار المهني للقضاة.

ونبّه المرزوفي إلى أن القضاة افتقدوا في ظل هذا الوضع الاستثنائي لحقهم في الاعتراض الإداري عند نشر جداول الكفاءة للترقية أو الحركة القضائية السنوية، بما زاد في تعزيز هشاشة وضعهم مع تحكّم وزارة العدل بشكل مباشر في مساراتهم المهنية.

واسترسل، وتعزّز هذه الإدارة في وضع "الوظيفة التنفيذية" يدها على القضاء بما يتعارض مع الخطاب الرسمي الذي يشدّد على احترامه لاستقلال القضاء رغم تغييب ضمانات ذلك.

وأشار المرزوقي إلى أن جمعية القضاة انتقدت في بيان صدر في سبتمبر/أيلول 2025، توظيف آلية مذكرات العمل لإبعاد قضاة من مواقع معينة على خلفية نظرهم في قضايا معيّنة مع تعيين بدلا منهم قضاة مرضي عنهم.

وشدد الباحث القانوني أن ما تقوم به وزارة العدل يشكل سياسة واضحة وممنهجة من السلطة السياسية لترهيب القضاة والمسؤولين القضائيين بغاية تطويعهم وفرض إملاءاتها وتعليماتها وبرامجها وأهدافها عليهم بالقوة.

Capture d’écran 2025-12-01 113109.png

تدخل غير مسبوق

في تحليل نشرته "مجلة الفراتس" التونسية، بتاريخ 26 سبتمبر/ أيلول 2025، أكدت أن أزمة الرئيس التونسي مع القضاء لم تبدأ مع حل المجلس الأعلى للقضاء، بل تعود جذورها إلى الأيام الأولى من انتخابه رئيسا للبلاد.

وأضافت المجلة، وذلك حين شكّك في نزاهة القضاة، وانتقد بطء البتّ في القضايا الكبرى، قبل أن ينطلق في تقليص دور السلطة القضائية تدريجيا، وتحويلها إلى مرفق عمومي تابع للسلطة التنفيذية.

واسترسلت: "منذئذ، غدا سعيّد المشرّع الوحيد في تونس، يصدر المراسيم الرئاسية المتتالية لإعادة تشكيل القضاء بما يناسب رؤيته. ومن ذلك إعفاء عشرات القضاة وسجن آخرين، والتحكّم في التعيينات والمنح والامتيازات".

ورأت المجلة أن ما يجرى يمثل "مشهدا غير مسبوق في تاريخ تونس، لم يعرفه القضاء حتى في عهدَي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، اللذين اكتفيا بمعاقبة القضاة المعارضين بالنقل وسحب الامتيازات، وهيمَنا على القضاة دون المساس بالبنية المؤسسية كما فعل الرئيس الحالي".

ونبَّهت إلى أن ثورة 2011 حرصت على ضمان استقلال القضاء، ولذلك اعتمدت الدولة في يناير/كانون الثاني 2014، دستورا جديدا ينصّ على أن القضاء سلطة مستقلة.

وقد عزّز الدستور الجديد الاستقلال المؤسسي للقضاء وأعضائه، وأنشئ على الأثر مجلس أعلى جديد للقضاء مخول بتعيين القضاة والإشراف على أدائهم الوظيفي.

وأوضحت المجلة، أنه مع توسّع الإجراءات الاستثنائية، وجد قيس سعيّد في المراسيم الرئاسية أداة لتركيز سلطته، فحوّلها إلى وسيلة لتغيير قواعد اللعبة داخل الدولة مُصدرا قوانين جديدة لم تخضع لأيّ سلطة تشريعية.

ومن ذلك المرسوم 117 الذي علّق مواد دستور 2014، وخوّل الرئيس صلاحية إصدار مراسيم تشريعية غير قابلة للطعن في جميع المجالات دون الرجوع إلى البرلمان.

كما امتدت هذه المراسيم إلى المجال القضائي، إذ لم تعد تقتصر على تنظيم الشأن الإداري أو المالي، بل نالت موقع القضاء نفسه ودوره، وصولا إلى لحظة حلّ المجلس الأعلى للقضاء وإبداله بمجلس مؤقت يخضع لسلطته.

وحوّل قيس سعيّد القضاء من مؤسسة مستقلة نسبيا إلى جهاز إداري تابعٍ للرئاسة؛ حيث أحكم قبضته الأمنية وأمر باعتقال كلّ قاضٍ معارض، ووجّه لهم تهما سياسية ثقيلة كالمساس بأمن الدولة، والتخطيط للانقلاب، والتخطيط لعمل إرهابي.

وقفة_احتجاجية_للقضاة_دفاعا_عن_استقلالية_القضاء-ومجلسه_الأعلى_18-1-scaled.jpg

تضييق خطير

هذا الوضع الذي أصبح عليه الجسم القضائي التونسي، دفع بالمجلس الوطني للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان إلى إصدار بيان استنكاري في 23 نوفمبر 2025.

وقالت الرابطة: إن الوضع في تونس "يتّسم بالتصعيد الممنهج الذي يستهدف الحقوق والحريات، والتضييق الخطير على العمل المدني والجمعياتي وتصاعد وتيرة المحاكمات السياسية ومحاكمات الرأي الجائرة التي تفتقد لأدنى مقومات المحاكمة العادلة، والتدهور الشامل لأوضاع المواطنين".

وندد البيان بما وصفها بـ "تغول السلطة التنفيذية في ظل استفراد رئاسة الجمهورية بالحكم، وتذييل بقية السلطات التشريعية وقضائية، وتغييب متعمد لمؤسسات الدولة الأساسية، وعلى رأسها المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقضاء".

كما انتقد "توظيف القضاء وذلك باستصدار السلطة التنفيذية لأذون قضائية قاضية بـتعليق نشاط عدد من الجمعيات التي تشتغل على حقوق النساء والأطفال والحقوق الاقتصادية والاجتماعية".

ونددت الرابطة "بتصاعد وتيرة المحاكمات السياسية ومحاكمات الرأي في الأيام الأخيرة، افتقدت لأبسط شروط المحاكمة العادلة"، مؤكدة أن "هذه القرارات والتتبعات والمحاكمات جوهرها سياسي وتندرج ضمن مسار شامل يهدف إلى التضييق على العمل المدني والسياسي والناشطات والناشطين والقضاء على الأجسام الوسيطة وإسكات كل نفس حر ومعارض".

كما توقفت الرابطة عند ما وصفتها بـ "التصريحات الخطيرة وغير المسؤولة" الصادرة عن وزيرة العدل، سواء تلك التي مست من كرامة المضربين عن الطعام بالتشكيك في نضالهم وحقهم في الاحتجاج السلمي أو تلك التي رأت فيها أن إرساء المجلس الأعلى للقضاء "غير ذي جدوى".

وشدد البيان أن هذه التصريحات "تمثل إنكارا صريحا لمبدأ استقلال القضاء، وتجاوزا لمقتضيات الدستور والنصوص المنظمة للسلطة القضائية".

وعليه، دعت الرابطة إلى "التسريع بتركيز مؤسستي المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقضاء صونا للحقوق والحريات وضمانا لاستقلالية القضاء".

احتجاج المحامين

تحكم السلطة التنفيذية التابعة لقيس سعيد في الجهاز القضائي أثر على الأحكام الصادرة في عدد من القضايا، والتي تستهدف المعارضين والناشطين المناوئين لسلطات سعيد، وهو ما دفع بالمحامين إلى تنظيم وقفة احتجاجية.

وفي هذا الصدد، عبّرت "الهيئة الوطنية للمحامين" عن صدمة ورفض شديدين للأحكام الاستئنافية الصادرة في قضية “التآمر على أمن الدولة”، عادّة إياها عقوبات مسيّسة وقاسية لا تمتّ للعدالة بصلة، وتؤكد عمق الأزمة التي دفع إليها قيس سعيد القضاء التونسي.

وتعود جذور القضية إلى بيان موجز ورد من الشرطة إلى وزارة العدل في 10 فبراير 2023، تحدث عن نية مجموعة من الأشخاص "التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي".

وعلى أساس ذلك أصدر القضاء مذكرات توقيف شملت سياسيين وحقوقيين ورجال أعمال ومسؤولين سابقين، تم اعتقالهم من منازلهم في ساعات متأخرة من الليل دون تلبُّس، وفق محاميهم.

وبين الموقوفين قياديون من حركة النهضة مثل نور الدين البحيري والقيادي السابق بالحركة عبد الحميد الجلاصي، وقياديون من جبهة الخلاص المعارضة مثل جوهر بن مبارك ورضا بالحاج.

كما تشمل أمناء عامين لأحزاب، بينهم الأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي والأمين العام السابق لحزب التيار الديمقراطي غازي الشواشي.

وتتم أيضا محاكمة بعض الرموز السياسية من المعارضة في هذه القضية بحالة سراح، وأبرزهم زعيم جبهة الخلاص المعارضة نجيب الشابي.

وتُلاحق جميع المتهمين تهم تتعلق بتكوين تنظيم إرهابي والتجسس والإضرار بالأمن القومي والغذائي، وهي تهم تنفيها هيئة الدفاع جملة وتفصيلا، وتصفها بأنها وسيلة لإقصاء المعارضة.

وفي هذا السياق، أوضحت الهيئة الوطنية للمحامين في بيان صدر الأحد 30 نوفمبر 2025، أن الدائرة القضائية المتعهدة تعمّدت إصدار الحكم دون أي إرجاء ودون النظر في المطالب الجوهرية التي تقدمت بها هيئة الدفاع، في إشارة واضحة إلى إرادة مسبقة لإغلاق الملف بأي ثمن، حتى على حساب حقوق المتهمين.

كما كشفت هيئة الدفاع أنّها تقدّمت بطلبات تجريح في عدد من أعضاء الدائرة، لكنها لم تحصل على حقها في الاطلاع الكامل على الملف، ولا حتى في التأكد من ظروف استدعاء المتهمين الموقوفين أو نقلهم لجلسة المحاكمة عن بعد في سجن المرناقية.

وأكّدت الهيئة أن هذا المسار تمّ في غياب تام لشروط المحاكمة العادلة: لا استنطاق، لا مكافحات، لا مرافعات، ولا حضور فعليا للمتهمين أمام المحكمة… في انتهاك فجّ للدستور والقانون، يعكس حجم الانهيار الذي بلغه القضاء تحت قبضة السلطة بعد تعطيل استكمال تركيبة المجلس الأعلى المؤقت للقضاء.

وحملت الهيئة المسؤولية المباشرة للسلطة التي تدير القضاء كأداة تصفية سياسية، معلنة تضامنها الكامل مع المحامين الموقوفين ومع جميع من صدرت ضدهم أحكام بسبب مواقفهم السياسية.

ودعت إلى إيقاف هذه الإجراءات فورا وإطلاق سراح الموقوفين، مؤكدة أن هذا المسار القمعي لن ينتج إلا مزيدا من الاختناق الداخلي… وهو تماما المسار الذي يصرّ عليه قيس سعيد لتكميم الأصوات ودفع البلاد نحو مزيد من العزلة.