كفاح مسلح بلا حدود.. كيف أثر الزعيم الصيني "ماو" في المقاومة الفلسطينية؟

"لو كان ماو حيا اليوم، لكان من دواعي سروره أن يرى الشرق الأوسط يعج بهذا القدر من الفوضى"
"لـ(صين ماو) تأثير أيديولوجي عميق ومستمر على الحركة المقاومة الفلسطينية"، هكذا يدعي أستاذ الأمن الداخلي في جامعة فرجينيا كومنولث الأميركية، بنيامين يونغ.
وفي مقال نشرته مجلة "ذا دبلومات" الأميركية حمل عنوان: “هكذا شكلت الماوية الصينية الفكر المقاوم الفلسطيني الحديث”، يقول يونغ: "لم تعد الصين المعاصرة تلتزم بأفكار ماو تسي تونغ المتعلقة بالثورة الدائمة والأممية الاشتراكية".
حرب عصابات
مع ذلك، شكلت الماوية الحركة الوطنية الفلسطينية من خلال إستراتيجية عسكرية لحرب عصابات طويلة الأمد، ولغة مناهضة للاستعمار تجمع بين عناصر القومية الثورية والحماسة المناهضة للغرب والشعبوية.
وعلى الرغم من أن الحكومة الصينية قد نبذت منذ فترة طويلة أسوأ التجاوزات التي حدثت في الحقبة الماوية، إلا أن تأثير الأيديولوجية الماوية لا يزال ملموسا في الحركة المقاومة الفلسطينية في العصر الحديث.
وأوضح يونغ أن "المقاتلين الفلسطينيين أخذوا صفحة من كتاب ماو الأحمر الصغير، عبر تصوير أنفسهم كمدافعين نبلاء عن وطنهم، وثوار شرفاء مناهضين للاستعمار".
وتعود علاقات الصين بالقضية الفلسطينية إلى الأيام الأولى لمنظمة التحرير الفلسطينية.
وأدركت منظمة التحرير الفلسطينية، التي تأسست عام 1964، أن الصين الماوية لعبت دورا مهما في جبهة المقاومة العالمية ضد إمبريالية الغرب واستعماره.
وفي الواقع، كانت الصين الماوية أول دولة غير عربية تعترف رسميا بمنظمة التحرير الفلسطينية.
وفي عام 1965، زار وفد من منظمة التحرير الفلسطينية الصين للمرة الأولى والتقى بـ"الربّان العظيم" نفسه، ماو تسي تونغ.
وتعاطف الزعيم الصيني مع حركة المقاومة الفلسطينية وشبّه إسرائيل بتايوان.
وفي لقاء مع مندوبي منظمة التحرير الفلسطينية في بكين، قال ماو: "الإمبريالية تخاف من الصين ومن العرب، بينما إسرائيل وفورموزا (تايوان) قاعدتان للإمبريالية في آسيا".
وخاطب ماو الفلسطينيين قائلا: "أنتم بوابة القارة العظيمة ونحن عمقها، لقد صنعوا إسرائيل من أجلكم، وفورموزا من أجلنا، وهدفهما واحد".
وتابع المقال أنه "من خلال أوجه التشابه التاريخية الهشة، رسم ماو تماثلات بين نضال التحرير الفلسطيني وبين تجربته الخاصة خلال الحرب الأهلية الصينية".
وأضاف: "خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، أجرت وسائل الإعلام الحكومية الصينية مقارنات غير دقيقة بين الثورة الصينية والوضع الفلسطيني".
على سبيل المثال، حاولت "مجلة بكين" (Peking Review) تصوير فلسطين الحضرية على أنها أرض ناضجة لحرب عصابات على الطراز الماوي.
وكانت الشوارع المزدحمة في غزة والضفة الغربية بمثابة أوجه تشابه غريبة مع الغابات والجبال الوعرة التي حارب فيها ماو خلال الثلاثينيات.
وفُسرت جميع الحركات والأحداث السياسية في الصين من خلال عدسة ماوية خلال الستينيات والسبعينيات، حتى لو لم يكن ذلك مفيدا للحركة المناهضة للاستعمار.
دعم عسكري
بالإضافة إلى الدعم الخطابي، ساعد ماو أيضا المسلحين الفلسطينيين بعدد كبير من الأسلحة والذخيرة. فخلال الستينيات، أرسلت بكين بنادق وقنابل يدوية وبارودا وألغاما ومتفجرات أخرى إلى منظمة التحرير الفلسطينية.
وفي عام 1970، قال زعيم منظمة التحرير الفلسطينية حينها، ياسر عرفات، إن الصين كانت "صاحبة التأثير الأكبر في دعم ثورتنا وتعزيز صمودنا".
ولعل الأمر الأكثر أهمية من الأسلحة -وفق المقال- هو أن الصين الماوية أعطت منظمة التحرير الفلسطينية إستراتيجية سياسية وعسكرية، عززت السلطة السياسية الداخلية وجعلتها قوة قتالية أكثر فعالية في الصراعات غير المتكافئة.
وبعد الحرب العربية-الإسرائيلية الكارثية عام 1967 (النكسة)، لم تعد القيادة الفلسطينية تشعر بأن حركتها يمكن أن تقودها الدول العربية، بحسب يونغ.
وفي الوقت نفسه، بدأ العديد من المناضلين الفلسطينيين في اعتناق الماركسية اللينينية وأفكار الاشتراكية الثورية.
وأضاف المقال: "لقد اعتقدوا أن الفلسطينيين بحاجة إلى أن يكونوا حاملي شعلة نضالهم التحرري بأنفسهم، وأن الاشتراكية الثورية، وخاصة الاشتراكية غير الأوروبية، تملأ فراغا في أيديولوجيتهم المتمثلة في الدولة الفلسطينية ومعاداة الصهيونية".
وأردف: "مثلما حدث مع ماو نفسه، اعتقد البعض داخل منظمة التحرير الفلسطينية أن الكفاح المسلح هو السبيل الوحيد للتحرير".
وفي عام 1968، روجع الميثاق الوطني الفلسطيني وأُدرج مع بيان على الطراز الماوي، مفاده أن "الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين وهو بذلك إستراتيجية وليس تكتيكا".
وبعد الهزيمة العربية عام 1967، ظهرت المنظمات الماركسية اللينينية، مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وارتدت عباءة الاشتراكية الفلسطينية.
وتبنت هذه المجموعات -وفق المقال- إستراتيجية ماو المتمثلة في "الحرب الشعبية".
وسبق أن قال جورج حبش، القائد المؤسس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إن أفضل صديق لنا في الواقع هو الصين.

وأوضح المقال أن "هذا الإيمان بإستراتيجية ماو، المتمثلة في "الحرب الشعبية" و"الخط الجماهيري" أدى في السبعينيات إلى انقسام داخل أكبر فصيل في منظمة التحرير الفلسطينية، حركة فتح".
وأضاف أن "أنصار فتح ذوي التوجه الماوي، والمتمركزين إلى حد كبير في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، كانوا يعتقدون أن الصين أصبحت الآن الداعم الرئيس لشعوب العالم المضطهدة وأن بكين أصبحت عاصمة الثورة العالمية".
وألمح إلى أنه "بوصفها دولة كبيرة غير بيضاء ذات قيادة مناهضة للإمبريالية بشدة، فقد حظيت نسخة ماو الفريدة من الشيوعية بقبول كثيرين في عالم إنهاء الاستعمار".
وتابع أن "مع نهاية الناصرية في مصر، وصلت القومية العربية إلى نهايتها وتراجعت إلى مؤخرة الأيديولوجيات في الشرق الأوسط".
وعلى هذا، "خلال السبعينيات، أصبحت الماوية إطارا أيديولوجيا رائدا للقضية الفلسطينية المنقسمة، وباتت جزءا مهما من الوسط السياسي الفلسطيني".
لكن بعد ذلك شهدت الماوية تراجعا داخل الحركة الوطنية الفلسطينية، ولم تكن وفاة ماو عام 1976 وحدها هي التي تسببت في هذا التراجع، بحسب يونغ.
"وبدلا من ذلك، أصبحت الثورة الإيرانية عام 1979 مصدرا جديدا للإلهام، وغرست شعورا متجددا بالتمرد الإسلامي في الشرق الأوسط".
وقد حدد روح الله الخميني، الإسلام كأداة ثورية، وقال إن المسلمين لا يحتاجون إلى النظر إلى الأيديولوجيات الأجنبية، مثل الماوية، من أجل الأمل والتوجيه.
ويرى يونغ أن "على الرغم من أن الجمهورية الإيرانية الإسلامية ذات أغلبية شيعية، إلا أنها أصبحت النجم الأيديولوجي للكثيرين في الحركة الوطنية الفلسطينية".
"علاوة على ذلك، أعادت الثورة الإيرانية إدخال مفهوم الجهاد في الحركة الوطنية الفلسطينية"، وفق المقال.
ويرى المقال أن "هذه الفكرة الجهادية للحرب المقدسة دُمجت جيدا مع الأفكار الماوية حول الكفاح المسلح والعدالة".
وأوضح أن "تأطير معركة كونية بين المؤمنين والكفار، والذي يعد جزءا لا يتجزأ من العقلية الجهادية، يحمل أوجه تشابه غريبة مع العقلية المانوية (Manichaean) "الثورية مقابل الرجعية" التي تغلغلت في صين ماو".
"علاوة على ذلك، كان إصرار الماوية على الشعبوية سببا في تسهيل هذا التحول إلى الأصولية الإسلامية بالنسبة لبعض المناضلين الفلسطينيين والمتعاطفين معهم".
وكما قال الكاتب المسرحي اللبناني الداعم للفلسطينيين، روجيه عساف: "كان العبور إلى الإسلام بمثابة تطبيق للمبادئ الماوية".
وأردف: "بدلا من الاعتماد على أيديولوجية من دولة غير إسلامية على الجانب الآخر من آسيا، يمكن العثور على أداة الإسلام الثورية أمامهم مباشرة في مساجد الشرق الأوسط".
وكما أوضح المؤرخ مانفريد سينغ، ففي كل من فلسطين ولبنان "أصبح عدد من القوميين العرب في الستينيات جهاديين بحلول الثمانينيات، إما عن طريق الإسلاموية أو الماوية".
حماس والماوية
وفي السياق، يقول المقال إنه "رغم أن حماس ظهرت بعد فترة طويلة من عصر الماوية في الصين، إلا أن التأثيرات الماوية لا تزال ملموسة في أيديولوجية الجماعة المسلحة".
على سبيل المثال، فإن التزام حماس الكامل بالكفاح المسلح والقضاء على إسرائيل كدولة يحمل تشابها صارخا مع الماوية.
فبوصفه من الأصوليين الثوريين، كان ماو يعتقد أن التسوية غير مجدية وأن النصر المطلق هو فقط الهدف المنشود.
فضلا عن ذلك، فإن المراقبة واليقظة المستمرة للعملاء الأجانب والمخربين هي السمة المميزة لكل من الصين الماوية وغزة التي تسيطر عليها حماس.
لقد أدرك ماو أن حرب المعلومات والدعاية كانت حاسمة لتحقيق النصر الإستراتيجي.
ولا تستطيع العصابات الأضعف هزيمة خصم تقليدي أكثر قوة في ساحة المعركة، ومع ذلك، يمكن للثوار تحقيق نصر سياسي من خلال الإعلام والمعلومات.
وأكد المقال أن "حماس انتبهت لهذا الدرس"؛ ذلك أن "الرد العسكري الإسرائيلي على هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 أدى إلى تحول واضح في الرأي العام العالمي ضد إسرائيل".
وقد لعبت حملة القصف التي نفذها رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، في غزة دورا في إستراتيجية حماس الرامية إلى لفت الانتباه الدولي مرة أخرى إلى القضية الفلسطينية.
وادعى أنه “بينما تتدهور القدرات العسكرية لحماس، فإن المنظمة لا تزال نشطة علمياتيا”، مشيرا إلى أنه "من خلال ضرب المناطق المدنية في غزة، فقدت إدارة نتنياهو الميزة الإستراتيجية الأوسع".
وبحسب تقييم المقال: "على الرغم من هزيمتها التكتيكية إلى حد كبير في ساحة المعركة، إلا أن حماس نجحت في مناورة إسرائيل ودفعها إلى مأزق إستراتيجي لا يحقق نصرا".
وختم بالقول: "لو كان ماو حيا اليوم، لكان من دواعي سروره أن يرى الشرق الأوسط يعج بهذا القدر من الفوضى والعنف".