المقاومة بالمرصاد.. هل شكل تراجع الأمن في غزة بيئة خصبة للعملاء؟

كل المنظومات المتقدمة لم تغن عن استخدام الاحتلال أداته الرخيصة وهي العملاء
تحظى الأنباء عن إعدام المقاومة الفلسطينية للعملاء المتخابرين مع الاحتلال الإسرائيلي، باحتفاء كبير داخل قطاع غزة، نظرا لمساهمتهم في تزويد آلة الحرب الدموية الإسرائيلية، بمعلومات ينتج عنها مجازر بحق المدنيين.
وقد حصدت قوات الاحتلال أرواح أكثر من 50 ألف فلسطيني، في جرائم لم تُشْبِع حتى الآن شهية إسرائيل التي تواصل حرب الإبادة بحق الشعب الفلسطيني، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وسلط الاحتلال على قطاع غزة، مناطيد تحمل أنظمة مراقبة وتجسس، وملأ الأراضي التي توغل فيها بأجهزة تصنت ورصد، عدا المسيرات الأميركية والبريطانية التي تحلق على مدار الساعة، والطيران الإسرائيلي المسير الذي لا يغادر سماء القطاع.
لكن كل هذه المنظومات لم تغنِ عن استخدام الاحتلال أداته "رخيصة الثمن" وهي العملاء، حسب مراقبين، لتتواصل عمليات مقاومة رغم الظروف الميدانية الصعبة في غزة.

أساليب جديدة
وتجدد بروز ظاهرة العملاء في الشارع الفلسطيني خلال هذه الحرب، رغم نجاح المقاومة الفلسطينية، بضرب شبكات التخابر مع الاحتلال خلال السنوات الأخيرة.
وجففت المقاومة مصادر معلومات الاحتلال داخل القطاع، عبر حملات أمنية متلاحقة، اشتدت وتيرتها منذ عام 2014 وحتى 2023، عدا عن الدور المجتمعي النابذ للمتخابرين وعائلاتهم، ومحيطهم الاجتماعي.
وأثمرت هذه الحملات في عجز الاحتلال عن معرفة أي معلومة عن نية كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس، تنفيذ عملية طوفان الأقصى.
وهو ما أشار إليه تقرير لجيش الاحتلال حول "فشل مواجهة عمليات السابع من أكتوبر" نشر في 27 فبراير/شباط 2025.
وتعليقا على فشل جهاز الأمن العام الإسرائيلي "الشاباك"، في اكتشاف معلومات حول نوايا المقاومة، قال غاي حين، وهو مسؤول سابق في الجهاز: إن الميزة الإضافية لدينا مقارنة بالأجهزة الأمنية الأخرى هي تجنيد المصادر، في إشارة منه إلى العملاء.
وأبدى غاي في حديث للقناة 12 العبرية، 30 ديسمبر/كانون الأول 2024، حسرة كبيرة؛ لأنه لم يكن هناك "ولو عميل واحد بين نحو 3 آلاف عنصر من قوات النخبة التابعة لكتائب القسام، في السابع من أكتوبر".
وكان الشاباك يُمَنّي النفس بأن يتصل أحد العملاء من غزة ويبلغ الجهاز بوجود كارثة وشيكة تستدعي تحرك الجيش إلى السياج الحدودي، حسب غاي حين.
ووفق القناة ذاتها، تدرك إسرائيل صعوبة اختراق حماس بالعملاء؛ نظرا لكونها منظمة مغلقة، لافتة إلى أن عناصر الحركة ينفذون إعدامات فورية بحق من يُشْتَبه في تعاونه مع تل أبيب.
ورأت إسرائيل في الحرب المندلعة فرصة لإنعاش تجنيد وتشغيل العملاء، بعد أعوام من تراجع هذه الظاهرة.
ومنذ بداية الحرب حاولت مخابرات الاحتلال تطوير وسائل تواصل جديدة مع العملاء، بحسب ما نشرته منصة "الحارس" التابعة لجهاز أمن المقاومة الفلسطينية في 6 يناير/كانون الثاني 2024.
وقالت المنصة: إن أمن المقاومة اكتشف تقنية جديدة حاول الاحتلال من خلالها التغطية على العميل في أثناء استخدامه لجهاز الاتصال، بحيث لا يسجل الجهاز أي علامات، أو دلائل تواصل سابق مع الضابط، في حال ضبط هذا الجهاز.
وأضافت المنصة نقلا عن مسؤول في جهاز أمن المقاومة، أن التقنية الجديدة عبارة عن شريحة تشبه شريحة الهاتف، تستخدم لمرة واحدة في الجهاز المحمول، ومن ثم يجرى إتلافها بعد برمجتها على الجهاز.
وبذلك يصبح الجهاز جاهزا للاستخدام وتلقي اتصالات الضباط بدون وجود أي شريحة بداخله.
وأوضح أن التقنية الجديدة تتميز بأنها لا تثير الشك، في حال وقوع الهاتف في يد أي شخص غير العميل، مشيرا إلى أن المقاومة توصلت لطريقة تمكنها من اكتشاف ذلك، دون ذكر أي تفاصيل بهذا الخصوص.

طرق مختلفة
ونفذت المقاومة عشرات الإعدامات بحق عملاء، ثبت تعاونهم مع الاحتلال خلال شهور العدوان، وجرت محاكمتهم في المحكمة الثورية التابعة لها.
وكشف جهاز أمن المقاومة عن تفاصيل إعدامه متخابرا مع الاحتلال في شمال قطاع غزة، فجر 21 مارس/آذار 2025.
وبحسب الجهاز، فإن المتخابر البالغ من العمر 48 عاما، قد ارتبط بمخابرات الاحتلال عام 2020 أثناء مروره عبر حاجز "إيريز" (بيت حانون شمال القطاع)؛ إذ ابتز ضابط مخابرات الاحتلال هذا الرجل بتقديم المعلومات مقابل تجديد تصريح العمل له في الداخل الفلسطيني المحتل.
ووفق ضابط في أمن المقاومة، فإن مخابرات الاحتلال كلفت المتخابر بعدة مهام؛ أبرزها تسلم أموال وشرائح اتصال إسرائيلية عبر طائرات مسيرة (كواد كابتر) لضمان استمرار تواصله معهم.
كما كلّفه الاحتلال بتصوير مواقع انتشار عناصر الشرطة والأمن في الأسواق والشوارع، ما سهّل استهدافها، وكذلك تحديد إحداثيات مدارس ومراكز إيواء للنازحين، استهدفتها إسرائيل لاحقا بالقصف، ما أدى إلى ارتقاء عدد كبير من الشهداء.
وبدوره قال (م ج) أحد عناصر أمن المقاومة المختص في مكافحة التخابر مع الاحتلال، والذي طلب عدم ذكر اسمه، إن إسرائيل جندت خلال الحرب أعدادا من العملاء بطرق مختلفة ولغايات متعددة.
وهذه الحرب أحدثت العديد من التطورات في ملف التجنيد على عكس الوضع ما قبل 7 أكتوبر 2023؛ حيث كانت غزة تقريبا مطهرة من العملاء.
وأضاف في حديث لـ "الاستقلال": "دخول قوات الاحتلال إلى قلب قطاع غزة، وإقامة الحواجز، واعتقال الآلاف من مراكز الإيواء، في ظل التهديد بالقتل والتعذيب والتنكيل، أسهم في تجنيد أعداد محدودة من العملاء".
وكذلك عندما بدأت هذه الحرب أُطلق سراح العديد من المساجين ومن بينهم عملاء خطيرون، حكم عليهم بالإعدام، وكانوا ينتظرون تنفيذ الحكم، و"هذا أسهم في عودتهم للتعاون مع الاحتلال".
وتابع: "انخرط العملاء في الكشف عن المقاومين، وتبليغ جيش الاحتلال عن مواقعهم وتحصيناتهم، وكذلك أسهموا في إرشاد الطائرات على المنازل المراد قصفها وارتكاب المجازر بحق أهلها، من خلال رمي شرائح إلكترونية في نطاقها".
وهذا "عدا عن مرافقة القوات البرية كدليل أو مرشد داخل المناطق التي يجهل الاحتلال معالمها".
مهام إضافية
وكشف الناشط في المقاومة أن مهام عملاء الاحتلال في غزة، لم تعد تقتصر على الأمور التقليدية كنقل المعلومات عن المقاومين.
بل أوكلت لهم مهام أخرى، وفي مقدمتها كسر الجبهة الداخلية، وإشاعة الفوضى، والفلتان الأمني، وتنفيذ إجراءات تفضى إلى تجويع المواطنين، وذلك بشكل منظم ومخطط له، من ضباط في جيش الاحتلال.
وأضاف: "كشفنا مجموعة من المتخابرين مع الاحتلال، مهمتهم الادعاء بأنهم موظفون في مؤسسة دولية، تقدم المساعدات".
وبيّن أنهم كانوا يتواصلون هاتفيا مع مواطنين ونازحين لجمع معلومات عن أعداد من يسكنون المنازل وأسمائهم ووظائفهم، وغيرها من البيانات التي تصل مباشرة لضباط الاحتلال، وتساعدهم في تنفيذ المجازر.
وحول قضية التجويع، قال الناشط في أمن المقاومة، إنّه ظهرت عصابات مسلحة هدفها قطع الطرق ونهب قوافل المساعدات؛ ما سبب تزايد المجاعة.
كذلك أدخل هؤلاء ووزعوا كميات كبيرة من المخدرات للقطاع، في وقت لم يكن يدخل فيه ذرة طحين، كما شكل الاحتلال مجموعات تسرق المواطنين، عن طريق البلطجة، وفق المصدر ذاته.
وتابع "وفي كل الحوادث التي حققنا فيها وجدنا يد للاحتلال، إما بشكل مباشر أو عن طريق عملاء آخرين".
وتابع: "أحد أفراد العصابات اعترف أن الاحتلال أرشده على مكان استشهاد مقاومين في خانيونس، وأمره أن يأخذ سلاحهم، وأن يستخدمه في سرقة الشاحنات في رفح" جنوب القطاع.
وشدد على أن الاحتلال دعم هذه المجموعات بكل الوسائل؛ حيث نفذ حملة دموية على الأجهزة الأمنية كافة في غزة، وكل فرق تأمين المساعدات.
وكشفت وزارة الداخلية عن تنسيق بين هذه العصابات وقوات الاحتلال في تنفيذ غارات ضد عناصر الشرطة الفلسطينية.
وحذر الناشط في المقاومة من خطر التواصل مع صفحة المنسق على وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث تعد من أبرز منصات الإسقاط والتجنيد.
وعادة تنشر صفحة "المنسق" الناطقة بالعربية على فيسبوك، أخبارا وإعلانات عن النشاطات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، بما يشمل ساعات عمل الحواجز والمعابر، وطرق الحصول على تصاريح الدخول إلى إسرائيل، لغرض العمل أو العلاج.
وتحاول الصفحة استغلال حاجات الفلسطينيين، من ناحية العمل أو العلاج، لـ"تبييض صورة" الاحتلال الإسرائيلي ويصل الأمر إلى التواصل معهم لمحاولة تجنيدهم.
ويستغل الاحتلال حاجة المواطنين للسفر أو العلاج، أو التنسيقات التجارية، وغيرها من الخدمات التي يدعي تقديمها لسكان القطاع، ويستخدمها في سبيل المقايضة للحصول على معلومات.

لصوص مخرّبون
ويوكل الاحتلال للعملاء مهمات جديدة، تتمثل في تنفيذ عمليات تخريبية تهدف للتضييق على حياة السكان ونشر الفوضى.
"الاستقلال" حاورت بعض سكان المنطقة الوسطى ممن كانوا شهود عيان على ممارسات العملاء خلال الاجتياحات البرية لوسط القطاع.
وقال أسامة إسماعيل: إنّه خلال الاجتياح الإسرائيلي لمخيم المغازي في يناير 2024، شهد بعض ممارسات العملاء، التي “لم تكن تقتصر على الوشاية بالمقاومين، أو مساعدة الاحتلال على ضرب الأهداف”.
بل وصلت لتنفيذ غاية الاحتلال بتخريب ممتلكات عامة الناس، وإتلاف المعدات الطبية في المشافي والمستوصفات التي تقع ضمن دائرة الإخلاء.
وأضاف في حديث لـ "الاستقلال": "بقيت في منزلي في مخيم المغازي، وقبيل دخول قوات الاحتلال بدأ قصف مدفعي عنيف، وحدثت عدة مجازر مروعة، ولكنها لم تفلح في دفع الناس للخروج".
وأردف: "أحد من يشتبه بتعاونهم مع الاحتلال أطلق إشاعة لا أساس لها من الصحة، دفعت سكان عدة أحياء لمغادرة منازلهم، وبالفعل بعدها بـ3 أيام، دخلت القوات بسهولة وعملت خلال تلك المناطق بحرية أكبر".
وخلال وجوده في منزله رأى أسامة أشخاصا بملابس مدنية وغير مسلحين، يدخلون منازل معينة تعود لناشطين في المقاومة، وتبين أنهم يعملون على تفتيشها ويجمعون المعلومات منها.
والكثير من هذه المنازل جرى استهدافها وسكانها داخلها، على مدار أشهر عقب انسحاب الاحتلال. وفق قوله.
وتابع "شخصيا تعرفت على أحدهم رغم أنه كان يرتدي كمامة، وكان معه عربة يجرّها حصان، دخل منزلا مجاورا لمنزلي وحده".
وواصل: "لا أعلم ماذا فعل بالداخل بالتحديد، ولكنه خرج دون أن يأخذ شيئا، والمفارقة أن هذا المنزل استهدف بعد 4 أشهر وسقط فيه 16 شهيدا".
أما محمد عزمي فقد كان شاهدا على جرائم مختلفة للمتخابرين مع الاحتلال؛ حيث شاهد أشخاصا ينفذون عمليات تخريبية.
وقال عزمي: إنه كان مختبئا في منزل بمخيم البريج وسط قطاع غزة، وخلال الأيام الأخيرة من الاجتياح شاهد مجموعة من الملثمين يدخلون عددا من المنازل، ينهبونها، ثم يضرمون النار فيها، وكانوا يمرون من أمام الدبابات رافعين راية بيضاء.
وأضاف في حديث لـ"الاستقلال": "كانوا عملاء ولصوصا في الوقت ذاته، دخلوا العديد من المنازل، فتشوها ونهبوها، وسرقوا مخازن".
وأوضح أنه خلال اجتياح مخيم البريج في فبراير 2024، سمع ضابطا تابعا للاحتلال ينادي على اللصوص من خلال مكبرات صوت مثبتة على طائرات الكواد كابتر.
وكان نص حديثه: "يلا الحرامية خلص وقتكم، اطلعوا من منطقة الحلو وأبو رصاص والمستوصف باتجاه شارع صلاح الدين"، وبالفعل كان الموجودون يغادرون المكان مباشرة.
وذكر أنه "بعد وقف إطلاق النار (هدنة يناير 2025)، ألقت المقاومة القبض على العديد من العملاء، من بينهم أشخاص كانوا يتقدمون قوات الاحتلال الراجلة".
وتابع: "تعرف عليهم سكان المخيم ممن أفرج عنهم من سجون الاحتلال، وكانوا يدلون الجنود على المنازل، والأشخاص الناشطين في الفصائل، وعلى موظفي الشرطة وحكومة غزة".