بفائض عملتها ورفض تحويله لدولارات.. هكذا تحارب إسرائيل الاقتصاد الفلسطيني

إسماعيل يوسف | منذ ٧ ساعات

12

طباعة

مشاركة

وصل اقتصاد السلطة الفلسطينية إلى مفترق طرق كارثي غير مسبوق منذ تأسيس السلطة عام 1994، حيث كانت رام الله تطمح إلى الازدهار، على أساس الأمل في الاستقلال وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ عام 1967.

لكن ما يجرى على الأرض يؤدي إلى مسار آخر هو الانهيار التام والدفن الرسمي للحلم الذي شهده العالم عندما دخل الإسرائيليون والفلسطينيون في أول اتفاقية سلام بينهما (أوسلو).

ورغم الخدمات الأمنية التي تقدمها لجيش الاحتلال، لم يقتصر حصار إسرائيل لسلطة رام الله على احتجاز 3 مليارات دولار من أموال الضرائب (المقاصة)، ولكنه امتد لمنعها من تحويل الشيكل إلى دولار، ما أدى لتراكم فائض في الأسواق وجعله بلا قيمة وعطل الاقتصاد.

أزمة الفائض غير المسبوق من الشواكل، أو ما يُطلق عليه "جبل الشواكل"، جعل المنظومة المالية الفلسطينية تواجه إحدى أشد الأزمات في تاريخها، وأدت لتعطل عمل النظام المصرفي وخنق النشاط التجاري، بالتزامن مع منع العمال الفلسطينيين من العمل في السوق الإسرائيلية.

ويقول خبراء وباحثون فلسطينيون إن الأزمة وإن بدت مالية وتقنية في جوهرها، إلا أنها سياسية في عمقها، إذ إن رفض البنوك الإسرائيلية استقبال الشيكل يتزامن مع حجز الاحتلال لعائدات المقاصة الفلسطينية، وتزايد التوترات السياسية.

ويرون أن تصعيد اليمين المتطرف الإسرائيلي الحاكم ضد السلطة خاصة بعد “طوفان الأقصى”، واكبه ضغوط سياسية واقتصادية واستخدام الاقتصاد كأداة لإرباك الفلسطينيين.

جبل الشواكل

وبدأت أزمة العملة الإسرائيلية (الشيكل) في السلطة الفلسطينية تتصاعد بشكل واضح منذ عام 2022، رغم أن جذورها تعود إلى سياسات الاحتلال والخلافات المالية بين الجانبين.

فقد تم الاتفاق منذ اتفاقية أوسلو (عام 1993)، واتفاقية باريس لتنظيم العلاقات الاقتصادية بين تل أبيب ورام الله، أن تستخدم فلسطين الشيكل كعملة رئيسة بجانب الدينار الأردني والدولار.

وأن تجمع إسرائيل الضرائب (المقاصة) نيابة عن السلطة الفلسطينية ثم تحولها لها شهريا، لكن الاحتلال نكث بكل هذه الاتفاقيات.

الشيكل، المفروض كعملة قانونية رئيسة في السوق الفلسطيني بموجب اتفاقية باريس الاقتصادية، يعاني اليوم من اختناق حاد في شرايين النظام المصرفي الفلسطيني.

ويعود ذلك إلى رفض البنوك الإسرائيلية منذ 6 أشهر استقبال الفائض النقدي المتراكم لدى نظيرتها الفلسطينية، في خرق واضح للاتفاقيات الموقعة، وعلى رأسها سقف الاستيعاب المتفق عليه، ربع السنوي بقيمة 4.5 مليارات شيكل.

ومع استمرار التدفق النقدي الهائل من العمال في الداخل المحتل، ومن تجارة التجزئة والأسواق النقدية، تراكم ما يفوق 6.5 مليارات شيكل داخل البنوك، باتت القيم النقدية المتراكمة تشكل خطرا على السلامة المالية وتشل قدرة البنوك على العمل.

ويلخص "المركز الفلسطيني للإعلام" في 24 يونيو/حزيران 2025، طبيعة الأزمة بقوله: "كل يوم يدخل الشيكل ولا يخرج، تحولت البنوك من محرّك للاقتصاد إلى مستودعات عملة خانقة".

ونقل عن أحد مسؤولي البنوك المحلية شكواه: "نحن عاجزون عن تصريف هذه الكميات الهائلة التي أصبحت عديمة الفائدة".

وبسبب أزمة تكدس الشيكل تعطلت العديد من المعاملات المالية وباتت بعض المتاجر ومحطات الوقود ترفض التعامل بالشيكل الذي تحول لأوراق نقدية بلا قيمة بفعل رفض الاحتلال تحويله إلى دولارات.

السلطة الفلسطينية التي تقدم خدمات لا حصر لها للاحتلال وتقمع شعبها حتى لا يثور ضد الاحتلال، اكتفت بالتوجه بمناشدات للعالم الخارجي من أجل منع انهيارها، وهددت بتقليص الرواتب ودوام الوزارات والموظفين.

وهو ما لن يضر إسرائيل، بل سيضر المواطن الفلسطيني، إذ إن تقليص الدوام أو الرواتب لن يطبق على الأجهزة الأمنية التي تحمي إسرائيل وسيطبق على الموظفين العاديين فقط، “ما يعني أن السلطة تريد حل مشاكلها ومشاكل الاحتلال على حساب المواطن الفلسطيني”.

وتسمح المعاملات بين البنوك الفلسطينية ونظيرتها الإسرائيلية، بتنفيذ حوالي 50 مليار شيكل سنويا من العمليات التجارية والمصرفية، في ظل تبعية الاقتصاد الفلسطيني شبه التامة للإسرائيلي.

وتذهب 85 بالمئة من الصادرات الفلسطينية إلى إسرائيل، وتأتي منها 55 بالمئة من الواردات، وفق تقارير فلسطينية وإسرائيلية.

عجز كبير

وكثيرا ما تخصم إسرائيل من أموال المقاصة، مبالغ بحجج مختلفة (مثل رواتب أسر الأسرى والشهداء أو تعويض إسرائيليين عن هجمات)، بخلاف قطعها بالكامل فترات طويلة.

ففي فبراير/ شباط 2022، قررت إسرائيل خصم 600 مليون شيكل من أموال المقاصة بحجة أنها تذهب لأسر الأسرى الفلسطينيين، ورفضت السلطة تسلم الأموال المخصومة، مما تسبب في عجز مالي كبير.

وقد بدأت البنوك الفلسطينية تعاني من نقص في السيولة بالشيكل، مما أثر على الرواتب والمعاملات اليومية، لكن إسرائيل استمرت في حجب أموال المقاصة أو خصم جزء كبير منها ما زاد تفاقم أزمة الاقتصاد.

وفي 2024، وصل العجز إلى مستويات خطيرة، مما دفع السلطة إلى التعامل بالدينار الأردني والدولار أكثر، لكن المشكلة استمرت بسبب هيمنة الشيكل على الاقتصاد اليومي.

وفقا لسلطة النقد الفلسطينية، من المتوقع أن يبلغ عجز الموازنة حوالي 4.9 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في عام 2025، مع وصول الدين العام إلى حوالي 69 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. 

وبسبب تداعيات الأزمة، مثل تأخر رواتب الموظفين لشهور، ودفع 70 بالمئة منها فقط، وارتفاع الأسعار بسبب صعوبة توفير العملات، وتدهور الثقة في النظام المصرفي الفلسطيني، زادت الضغوط الشعبية على السلطة لإيجاد حلول بديلة.

مثل الاعتماد على عملات أخرى أو إصدار عملة فلسطينية (صعب بسبب سيطرة إسرائيل على المعابر والاقتصاد).

وقد حاولت السلطة التخفيف من الأزمة بدعوة بعض المؤسسات لاستخدام التحويلات الرقمية والعملات البديلة بنسبة 50 بالمئة، مع مطالبات بتعزيز الاقتصاد المحلي لتقليل الاعتماد على الشيكل، لكن الوضع السياسي يعيق ذلك.

ووفق تقديرات إعلامية فلسطينية، ومؤسسات بحث اقتصادية دولية، يقدر فائض الشواكل في النظام المصرفي الفلسطيني بما بين 6 و8 مليارات شيكل.

وتشكو البنوك الفلسطينية أنها غير قادرة على تحويل هذه المبالغ إلى دولارات، أو دنانير أردنية، بسبب القيود التي فرضتها إسرائيل على إخراج الأموال.

شلل الاقتصاد 

ولخص تقرير نشره موقع "كالكالسيت" الاقتصادي الإسرائيلي في 12 يوليو/تموز 2025، خطورة الأزمة التي تواجه المنظومة المالية الفلسطينية بأنها إحدى أشد الأزمات في تاريخها، وتسببت في شلل الاقتصاد.

وأكد أن "جبل الشواكل" الذي تكوّم خلال الأشهر الأخيرة في النظام المصرفي الفلسطيني يعطل عمله، ويخنق النشاط التجاري، ويثير حالة من الغليان الاقتصادي الذي ازداد في أنحاء الضفة الغربية. 

ونقل عن مسؤولين كبار في المنظومة المالية الفلسطينية أن الأمر يتعلق بـ"أزمة سيولة معطلة"، إذ تتحول الأوراق النقدية القانونية فعليا إلى عملة غير قابلة للتداول.

وتقول صحيفة "هآرتس"، إن ما يزيد أزمة السلطة الفلسطينية هو رفض إسرائيل تحويل عائدات الضرائب، وتصفه بأنه من "التحديات الخطيرة غير المسبوقة" التي يفرضها الاحتلال على السلطة بجانب أزمة الشيكلات.

ويُلقي فلسطينيون باللوم على إسرائيل، ويرون أن هذا جزء من سياسة العقاب والحصار الصهيونية التي تصاعدت عقب طوفان الأقصى، ما جعل أصحاب المتاجر والخدمات والأعمال يعجزون عن تحويل الشواكل في البنوك إلى دولارات أو دنانير أردنية، بغرض استيراد المعدات والبضائع، ومن ثم تعطل أعمالهم.

فهم لا يستطيعون شراء البضائع، أو دفع مستحقات الموردين، لأن البنوك لا تقبل الشواكل التي لديهم، وأحيانا، لا تُقبل حتى من جهات تجارية نتيجة لذلك، يضطر أصحاب الأعمال إلى اللجوء إلى السوق السوداء لتحويل الشواكل إلى دولارات أو دنانير، ودفع عمولات مرتفعة تتراوح بين 10 و12 بالمئة.

وبسبب هذه الأزمة، يرفض بعض التجار حتى قبول المدفوعات بالشيكل، خوفا ألا يتمكنوا من إيداعها، حتى إن مسحا أُجري في بيت لحم، أفاد 63 بالمئة من أصحاب الأعمال بتأثير مباشر في نشاطهم التجاري نتيجة للأزمة.

وقد تصاعدت تداعيات هذه الأزمة ووصلت للتأثير على الاقتصاد الكلي، مثل الإضرار بالنمو، لأن الشركات الصغيرة والمتوسطة، التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد الفلسطيني، عاجزة عن تجديد مخزوناتها، أو تشغيل خطوط الائتمان.

وانعكس هذا الوضع أيضا على سوق العمل، حيث اضطرت العديد من الشركات إلى تقليص ساعات العمل، أو تسريح الموظفين، ليس بسبب انخفاض الطلب، بل نتيجة عدم القدرة على دفع أموال لهم أو تغيير الشيكل لعملات أخرى.

كما بدأ يتصاعد التضخم، ويتوسع السوق السوداء، وتنتشر عمليات تزوير الدولارات والدنانير.

وأثر هذا على زيادة إجمالي ديون السلطة الفلسطينية في مايو/أيار 2025، لحوالي 10.2 مليار دولار، تشمل ديونا خارجية وداخلية، منها 3 مليارات دولار لصندوق التقاعد، و1.5 مليار دولار للقطاع الخاص، و1.47 مليار دولار رواتب غير مدفوعة. 

دول التطبيع

وبدأت أصوات في الضفة الغربية تطرح اقتراحات تُسمى "مسارات تلتف على إسرائيل"، مثل التعاون مع دول التطبيع العربية، خاصة الأردن ومصر والإمارات، لإيجاد حلول للتسوية المالية وتمويل تجارة لا تعتمد على إسرائيل، لكن لا توجد بعد استجابة من الدول العربية المُطبعة.

فقد طُرحت أفكار مثل تحويل الشواكل من مناطق السلطة الفلسطينية إلى بنوك في الأردن أو في الإمارات أو في مصر، بحيث تدير هذه البنوك حسابات وسيطة، أو تقوم بتحويل العملة إلى الدولار، وفق سعر صرف متفق عليه.

أيضا اقترح تجار واقتصاديون أن يرسل الموردون من الأردن بضائع إلى مناطق السلطة، ويتلقون ثمنها عبر بنك أردني، بوساطة السلطة، من دون إشراك المنظومة المالية الإسرائيلية.

وهناك أيضا اقتراح بشأن إنشاء صناديق عربية تقدم قروضا، أو ضمانات لتمويل النشاط التجاري، بهدف سد الفجوات في التدفق النقدي بالشيكل، لكن كل هذه الاقتراحات لم يتم بحثها أو تُبدي دول التطبيع العربية اهتماما بها.

وكان أحد الاقتراحات التي طُرحت بقوة هو صك السلطة الفلسطينية، خاصة أنها دولة معترف بها في الأمم المتحدة ومن جانب عدة دول، عملة فلسطينية خاصة بها، تكون بديلة.

لكن المشكلة أن إصدار عملة فلسطينية هو إجراء معقد ومُكلف وإشكالي، كما يقول الخبراء، من الناحية الاقتصادية أو السياسية، ويصعب تحقيق ذلك في الوقت الحالي بسبب الحصار الإسرائيلي وافتقار الفلسطينيين إلى احتياطي من العملات الأجنبية يمكنه ضمان قيمة العملة الوطنية الجديدة.

هناك مشكلة أخرى تواجه فكرة الانتقال إلى استخدام الدولار، أو الدينار، بدل الشيكل هي أن إلغاء مكانة الشيكل كعملة قانونية في السوق الفلسطينية ستعده إسرائيل انتهاكا جوهريا لاتفاقية باريس، التي تنظم العلاقات الاقتصادية بين الاحتلال والسلطة، رغم أن إسرائيل دفنت اتفاقية "أوسلو" فعليا.

وحتى لو لجأت السلطة الفلسطينية لهذا الحل، فسيواجه الفلسطينيون مشكلة، إذ إن نحو 60 بالمئة من المعاملات تتم بالشيكل حاليا، والفلسطينيون الذين يتقاضون رواتبهم بالشيكل من إسرائيل سيجدون أنفسهم في مأزق، لأنه لن يتم قبول أموالهم في عمليات الشراء.

ويرى موقع "تيليبوليس" الألماني في تقرير نشره نهاية يونيو 2025، أن محاولة السلطة الفلسطينية الاستقلال عن الشيكل أمر مهم "لتقليص التبعية الاقتصادية لإسرائيل"، لكنه حل صعب.

إذ إن المعاملات الإلكترونية في الأراضي الفلسطينية مرتبطة أيضا بالاحتلال وتحويل الشيكل إلى البنوك الإسرائيلية.

أزمة سياسية

ويشير تقرير لموقع "ميديا لاين" الفرنسي في 27 يونيو 2025، إلى أن أزمة فائض الشيكل، ليست اقتصادية وإنما لها أبعاد سياسية، مشيرا إلى أن السياسة الإسرائيلية والعدوان على غزة تؤثر على الأزمة المالية الحالية للسلطة الفلسطينية.

وأوضح أنه "لدى المسؤولين والاقتصاديين الفلسطينيين العديد من الإستراتيجيات في أذهانهم لتحسين الاقتصاد الفلسطيني، ولكن إسرائيل هي صاحبة الكلمة الأخيرة في نهاية المطاف".

إذ إن الأزمة الحالية ليست نتيجة للأحداث السياسية الأخيرة في الأرض المحتلة فحسب، بل هي نتيجة سنوات طويلة من الإجراءات المتراكمة التي اتخذتها سلطات الاحتلال مما جعل السلطة الفلسطينية غير قادرة على إدارة اقتصادها بشكل مستقل.

وبحسب "ميديا لاين"، قامت السلطة الفلسطينية بتدابير إغاثة مؤقتة لتعزيز وضعها الاقتصادي وقدرتها المالية، لكن وصلت هذه الجهود إلى طريق مسدود مع سلسلة القرارات التي اتخذها وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتشدد بتسلئيل سموتريتش.

ففي أبريل/نيسان 2024، أمر سموتريتش بحجز عائدات الضرائب التي تجمع من كل صفقة تجارية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بدلاً من تحويلها إلى السلطة الفلسطينية كما هو متفق عليه. 

وقد فاقم هذا الإجراء الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية، التي اضطرت لدفع 50 بالمئة فقط من رواتب موظفيها الحكوميين، بدلا من 70 بالمئة كانت تدفعها لهم عندما بدأت إسرائيل بالاستيلاء التدريجي على الأموال الفلسطينية عقب هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

أيضا قامت إسرائيل بتعليق الاتفاقيات المصرفية مع رام الله، ما يعرض النظام المالي الفلسطيني للخطر، فيما يُنذر عدم القدرة على تحويل فائض الشيكل والقيود المفروضة على العمليات المصرفية عبر الحدود بأزمة سيولة خانقة. 

وإذا لم تُعالج هذه المشكلة بجدية، فقد يشهد السوق المحلي أزمة مصرفية تُهدد الاستقرار الاقتصادي للأفراد والشركات على حد سواء، بحسب "ميديا لاين".

وقد رسم آخر تقرير صادر عن البنك الدولي في الربع الأول من 2025، صورة قاتمة للوضع المالي للسلطة الفلسطينية، محذرا من عواقب اقتصادية وخيمة.