"لا ملوك في أميركا".. حركة احتجاج سلمية تتحدى "طموح" ترامب بلا توقف

داود علي | منذ ٣ ساعات

12

طباعة

مشاركة

تسود توقعات أميركية بإمكانية تطور حركة الاحتجاج السلمية في الولايات المتحدة، المعروفة باسم "لا ملوك" ، من مظاهرة رمزية ليوم واحد إلى حملة مستدامة قادرة على إحداث تغيير جذري في النظام القائم.

في 18 أكتوبر/تشرين الأول 2025، نظم ناشطون ما وصفوه بـ"الانتفاضة السلمية الكبرى"، بمشاركة أكثر من 7 ملايين شخص في 2700 فعالية داخل الولايات الأميركية الخمسين، بحسب تقديرات المنظمين المدعومين من منظمات مثل ACLU وMoveOn وIndivisible.

هذا التحول من احتجاج رمزي إلى حركة وطنية متجذرة جعل المراقبين يشبهونها بحركات مثل "احتلوا وول ستريت" و"مسيرة النساء" عام 2017، لكن بطابع أكثر اتساعا ومحملا بخطاب دستوري يذكر بالمبدأ المؤسس للبلاد، “لا ملوك في أميركا”.

جذور الحركة

ولدت حركة "لا ملوك" من رحم الغضب الشعبي على ما عدّه معارضون نزعة استبدادية متزايدة في الولاية الثانية للرئيس دونالد ترامب.

كانت اللحظة المفصلية في 14 يونيو/ حزيران 2025، وهو اليوم الذي اختار فيه الرئيس تنظيم عرض عسكري ضخم في واشنطن بمناسبة ذكرى ميلاده والذكرى الـ 250 لتأسيس الجيش الأميركي. 

أراد ترامب أن يجعل من ذلك اليوم احتفالا وطنيا بـ"عظمة القيادة"، لكن الآلاف في الشوارع حولوه إلى يوم للرفض الشعبي.

فقد خرج ملايين الأميركيين وقتها باحتجاجات منسقة تحت شعار "لا ملوك"، رافعين لافتات تقول: "أميركا ليست مملكة" و"لا عروش في البيت الأبيض". 

وامتدت المظاهرات إلى أكثر من ألفي مدينة، من نيويورك إلى سياتل، ومن دالاس إلى فيلادلفيا، ليتكرر الأمر في أكتوبر 2025.

ويتوقع الكاتب مايكل شانك أن تتطور حركة الاحتجاج السلمية، مبينا أنها لا تنفصل عن موجة عالمية من التعبئة الشعبية، شملت احتجاجات ضد الفساد في الفلبين ونيبال، وفق ما قال خلال مقال في 28 أكتوبر 2025 في مجلة "نيوزويك" الأميركية.

كذلك مظاهرات بريطانيا المناهضة للإبادة الجماعية في غزة، والانتفاضة ضد الحكم الاستبدادي في موزمبيق والأرجنتين وإندونيسيا والمغرب، ما يجعلها جزءا من مشهد أوسع يعبر عن تململ الشعوب من تغول السلطة وتراجع الديمقراطيات.

وفي اليوم التالي، 29 أكتوبر، دخل دونالد ترامب الابن في مواجهة كلامية مع المتظاهرين الذين رفعوا شعار "لا للملوك" خلال قمة أعمال في الرياض.

وفي كلمته أمام مبادرة الاستثمار المستقبلية، التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وصف ترامب الابن الحركة بأنها “ليست عضوية، بل مصنعة بالكامل وتدفع ثمنها الدمى المعتادة حول العالم”، مضيفا: "لو كان والدي ملكا، لما سمح بحدوث هذه الاحتجاجات أصلا".

وواحدة من أبرز سمات "لا ملوك" هي البنية الشبكية التي ترفض التمركز، وغياب القيادة الهرمية التقليدية. 

فالحركة ليست حزبا ولا تنظيما موحدا، بل ائتلافا شبكيا من منظمات محلية وحقوقية ونقابية تعمل في انسجام عبر شعار واحد.

يضم هذا الائتلاف منظمات مثل 50501 Movement، التي صاغت اسم الحملة للدلالة على "خمسين ولاية، وخمسين احتجاجا، وحركة واحدة"، إضافة إلى تحالفات حقوقية مثل ACLU ونقابات التعليم والعاملين في القطاع العام.

هذا النموذج اللا مركزي سمح للحركة بالتوسع سريعا، لكنه وضعها أمام تحدي غياب الوجه القيادي الذي يمكن أن يمثلها بالنقاش السياسي أو أمام المؤسسات.

رغم ذلك، استطاعت أن تحافظ على وحدة رسالتها عبر الانضباط الرمزي، الشعارات الموحدة، الألوان المتكررة، والتدريب على السلمية في كل الفعاليات.

وتشير بيانات صادرة عن ACLU إلى أن لجان التنظيم أعدت دورات سريعة عبر الإنترنت لتدريب المتطوعين على تقنيات المقاومة اللاعنفية، وكيفية توثيق الانتهاكات خلال التظاهرات.

رد فعل الجمهوريين

لم يتأخر رد الرئيس الأميركي على الاحتجاجات لكنه جاء على طريقته الخاصة. ففي 20 أكتوبر 2025، نشر ترامب مقطع فيديو ساخرا على منصته الاجتماعية "تروث سوشيال"، صنع باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، يظهره وهو يقصف المتظاهرين بـ"كرات من البراز" وسط ضحكات تصنعية.

الفيديو الذي حذف لاحقا بعد انتقادات واسعة من الحزب الديمقراطي ومنظمات حقوقية، عدّه مراقبون "تصعيدا غير مسبوق" في استخدام الرئيس للأدوات الرقمية للسخرية من خصومه.

وقالت صحيفة واشنطن بوست: إن الفيديو “يكشف عن عقلية استخفاف متعمدة بالحراك الشعبي”.

في حين وصفت مجلة "ذا أتلانتيك" تصرف ترامب بأنه "مؤشر على ازدياد اعتماده على الهجمات الرقمية بدلا من الخطاب السياسي التقليدي".

لم يكتف ترامب بذلك، بل رد في تصريحات لاحقة قائلا: "أولئك الذين يرفعون شعار لا ملوك لا يفهمون أنني أفضل رئيس في تاريخ الجمهورية، لست ملكا، أنا منقذ الديمقراطية من الانهيار"، وهو تصريح أثار موجة سخرية في وسائل الإعلام الأميركية.

ورد عليه الناشط جوناثان رويز أحد منظمي الحركة، قائلا لشبكة "سي إن إن": "ما فعله الرئيس يثبت جوهر رسالتنا، من يسخر من شعبه عبر فيديوهات مهينة لا يؤمن بالديمقراطية التي يدعي حمايتها".

أما رد الحزب الجمهوري على الحركة فقد جاء متوترا وحادا، إذ وصف رئيس مجلس النواب مايك جونسون المظاهرات بأنها "تجمع كره لأميركا".

وادعى أنها ذات صلة بحركة المقاومة الإسلامية حماس، في إشارة مثيرة للجدل عدّها الديمقراطيون محاولة لتشويه حراك داخلي سلمي.

كما وصفت وسائل إعلام يمينية مثل فوكس نيوز وبريتبارت الحركة بأنها "واجهة يسارية" تمولها شركات تكنولوجية كبرى ومنظمات دولية.

في المقابل، رد منظمو الحركة بأن هذه الاتهامات جزء من "محاولة شيطنة المعارضة الديمقراطية"، مؤكدين أن تمويلها يعتمد على التبرعات الصغيرة الفردية عبر الإنترنت.

ظاهرة اجتماعية

في الولايات المتحدة، تتفاوت قدرة الحركات الاجتماعية على الاستمرار، لكن في حالة "لا ملوك"، بدا أن الحركة تمتلك قدرة سردية استثنائية. 

فهي لم تقدم مطالب اقتصادية أو حزبية ضيقة، بل رفعت شعارا دستوريا جامعا، رفض أي شكل من أشكال التتويج السياسي.

ويرى باحثون في جامعة "جورج تاون" أن هذه القدرة على صياغة سردية بسيطة لكنها مشحونة بالعاطفة السياسية جعلت الحركة تتجاوز الفوارق الأيديولوجية.

حتى في ولايات محافظة مثل أوكلاهوما وتينيسي، خرجت مظاهرات صغيرة دعمت شعار "لا ملوك"، في مشهد نادر الحدوث منذ احتجاجات الحقوق المدنية في الستينيات.

من جهة أخرى، لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورا محوريا في تحويل الحركة من حدث محلي إلى ظاهرة وطنية. 

فخلال 48 ساعة من انطلاق مظاهرات يونيو، تصدر وسم #NoKingsUSA الترند على موقع "إكس" في 30 ولاية، وحقق أكثر من 200 مليون مشاهدة على تيك توك وإنستغرام خلال أسبوع.

وتزامن صعود حركة "لا ملوك" مع تصريحات متكررة من ترامب عن إمكانية الترشح لولاية ثالثة، وهو أمر محظور بموجب التعديل الثاني والعشرين للدستور الأميركي الذي يحدد الرئاسة بولايتين فقط.

في مقابلات عدة، بينها لقاء مع شبكة "Newsmax" في سبتمبر/ أيلول 2025، قال ترامب: "يقول البعض إنني قد أستحق ولاية ثالثة لأنهم سرقوا مني الأولى، وسنرى ما يمكن فعله".

وفي خطاب آخر بولاية أريزونا، قال: إن "الشعب سيقرر إن كان يريدني لولاية أخرى"، في تصريح أثار قلقا واسعا من إمكانية الطعن في حدود الدستور.

هذه التصريحات كانت بمثابة الوقود الخطابي لحركة “لا ملوك”. فبالنسبة إلى منظميها، فإن فكرة أن رئيسا يلمح إلى ولاية ثالثة تعد تجسيدا حيا لما تحذر منه، وهو تحويل الجمهورية إلى ملكية مقنعة.

وقد حملت كثير من اللافتات في مظاهرات أكتوبر عبارات مثل: "لا لولاية ثالثة.. لا للملك دونالد"، و"من واشنطن إلى ترامب، لا أحد فوق الدستور".

وفي هذا السياق، نشرت صحيفة نيويورك تايمز افتتاحية وصفتها بأنها “أخطر لحظة دستورية منذ ووترغيت (فضيحة سياسية أطاحت بالرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون)، مبينة أن " هذه التحركات الشعبية تعكس محاولة المجتمع الأميركي إنقاذ مبدأ تداول السلطة من الانهيار".

هل تمتلك تأثيرا؟

حتى الآن، لا تشير المعطيات إلى أن "لا ملوك" تحولت إلى حزب سياسي أو كيان انتخابي، لكنها فرضت نفسها على الخطاب الوطني.

في استطلاع للرأي أجرته مجلة "إيكونوميست" البريطانية بعد احتجاجات يونيو، كشفت أن 44 بالمئة من الأميركيين يؤيدون الحركة أو يتعاطفون مع مطالبها، مقابل 40 بالمئة يعارضونها، في حين رأى 56 بالمئة أنها سلمية بالمجمل.

كما أظهرت دراسة أعدها مركز "بيو" الأميركي للأبحاث أن أكثر من 60 بالمئة من الشباب دون 30 عاما يعرفون اسم الحركة، وأن ربعهم شاركوا فعليا أو عبر الإنترنت في فعالياتها.

لكن رغم هذا الزخم الشعبي، لا تزال الحركة تواجه معضلة رئيسية، وهي تحويل الشارع إلى نفوذ سياسي.

ففي حين تنجح في اجتذاب الحشود، إلا أنها لم تؤسس بعد آلية واضحة لتأثير دائم في الكونغرس أو الانتخابات المحلية. 

ويرى باحثون في جامعة هارفارد أن "الاستدامة تحتاج إلى بنية مؤسساتية، لا مجرد رمزية شعاراتية"، مشيرين إلى أن تحدي الحركة في السنوات المقبلة سيكون "الانتقال من المقاومة إلى البديل".

ورأى مركز "آش" للحوكمة والابتكار بجامعة هارفارد أن حركة "لا ملوك" لم تكن مجرد مظاهرة عابرة، بل أصبحت واحدة من أكثر الحركات السلمية انتشارا واستمرارية في التاريخ الأميركي الحديث.

وأوضح في 16 أكتوبر 2025، أن "احتجاجات عام 2025 لم تكن فقط ضخمة، بل أصبحت أكثر انتشارا جغرافيا من أي وقت مضى، إذ وصلت إلى مقاطعات وولايات كانت تعد في السابق من القواعد الانتخابية الصلبة لترامب". 

وهو ما عدّه المركز تحولا نوعيا في الخريطة السياسية الأميركية يعكس تصاعد الغضب الشعبي من النزعة السلطوية المتنامية في البيت الأبيض.

وعلق الباحث في علم الاجتماع السياسي ديفيد غرين من جامعة برينستون أن ما يميز "لا ملوك" عن الحركات السابقة هو قدرتها على دمج الوعي الدستوري بالاحتجاج الشعبي.

فبينما ركزت احتجاجات "حياة السود مهمة" على قضية العدالة العرقية، واحتجاجات "احتلوا وول ستريت" على الاقتصاد، فإن "لا ملوك" تقدم خطابا شاملا حول شكل النظام الأميركي ذاته، مذكرة بأن الخطر هذه المرة ليس قضية واحدة، بل تآكل العقد الاجتماعي نفسه.

ولهذا السبب، تلقت الحركة دعما من فنانين وأكاديميين وشخصيات دينية ترى أن الشعار "يحمل جوهر الفكرة الأميركية الأصلية".