بيد مليشيا أبو ظبي.. ماذا يعني سقوط الفاشر آخر معاقل جيش السودان في دارفور؟

يشكل سقوط مدينة الفاشر آخر معاقل الجيش السوداني في إقليم دارفور
يشكل سقوط مدينة الفاشر، آخر معاقل الجيش السوداني في إقليم دارفور، وسيطرة مليشيا الدعم السريع المتمردة عليها بعد حصار استمر قرابة عامين، نقطة تحول في الصراع الدائر في السودان منذ أبريل/نيسان 2023، وسيكون له آثار إقليمية ودولية.
يشير سقوط المدينة إلى انقسام السودان فعليًا بين شمال تسيطر عليه الحكومة والجيش السوداني وحركات مقاومة شعبية، غالبيتها إسلامية، وشرق وجنوب تسيطر عليهما قوات "الدعم السريع". هذا الانقسام يثير تساؤلات حول مستقبل السودان: هل يسرّع ذلك اقتراب الانفصال الثاني بعد انفصال دولة جنوب السودان عام 2011؟ أم يزيد من شهية الدعم السريع وداعميه للتمدد والسيطرة على كل السودان؟ أم يفسح المجال لتسوية سياسية بعد تفاوض الطرفين؟
بعدما كانت الفاشر، عاصمة سلطنة دارفور، مملكة إفريقية ازدهرت قبل قرون من وجود الخرطوم، امتلأت شوارعها الآن بالمركبات والجثث المتفحمة، وتصاعد الدخان فوق الأحياء المدمرة نتيجة انتقام مليشيا أبو ظبي من سكانها.
دلالات السقوط
رغم استمرار جيوب المقاومة الشعبية في الفاشر، سقطت المدينة في يد مليشيا حميدتي والمرتزقة الأجانب من كولومبيا وإفريقيا، ما يعني سيطرة الدعم السريع على جميع ولايات دارفور الخمسة.
تبرير رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان بانسحاب الجيش لحماية المدنيين لم يمنع وقوع مجازر واتهام المقاومة الشعبية للجيش بخذلان الأهالي.
يُعد هذا الحدث نقطة تحول في الصراع السوداني منذ أبريل 2023، ويحمل دلالات خطيرة على مستقبل السودان والدول المجاورة، خاصة مصر، وسط تساؤلات حول زيادة تمدد الدعم السريع أو فتح الباب لتسوية سياسية.
يمكن تلخيص دلالات وما سيترتب على سقوط الفاشر في النقاط التالية:
- احتلال الفاشر يعني سيطرة الدعم السريع على كل ولايات إقليم دارفور الخمس وتقسيم السودان بين (شرق) يسيطر عليه الجيش و(غرب) تحت سيطرة الدعم السريع والمرتزقة.
- السيطرة على الفاشر تمثل نقطة تحول جيوسياسية تمنح قوات الدعم السريع سيطرة إستراتيجية كاملة على غرب السودان بحدوده وثرواته، مما يعزز إدارتها الموازية في نيالا، عاصمة جنوب دارفور.
فيما أصبح الجيش محصورا الآن في شمال وشرق ووسط السودان ومستبعدا من ثلث الأراضي السودانية، وهو التطور الذي يقول الخبراء إنه يثير احتمال أن تواجه البلاد التقسيم.
- بسبب تشكيل حميدتي مجلس رئاسي وبرلمان وحكومة ودستور مؤقت، سوف تسمح السيطرة العسكرية على غرب البلاد وجنوبها لحميدتي بالانفصال به، وإقامة دولة مستقلة، لو أراد.
- سقوط الجيش السوداني وانسحابه غير المفهوم وتأخر تدخل الطائرات لما بعد الانسحاب، يعني أن إقليم دارفور الشاسع الذي يشكّل ربع مساحة البلاد، ومركز ثقله الجغرافي والاقتصادي بات يسيطر عليه المتمردون.
- تمثل مدينة الفاشر عمليا بوابة السودان الغربية، وتشكل محورا يربط السودان بشريط حدودي بالغ الحساسية، يلامس حدود أربع دول إفريقية هي: ليبيا، وتشاد، وأفريقيا الوسطى، وجنوب السودان.
- انفتاح الحدود الغربية أمامهم، يعني فتح الطرق أمامهم للتزود بالسلاح من عدة دول مجاورة وتحول دارفور إلى قاعدة ومركز إقليمي لنفوذ هذا التمرد المدعوم من الإمارات لأسباب تتعلق بذهب السودان وموانيه البحرية وموقعه الإستراتيجي.
سقوط كل دارفور واحتمال انفصاله عن السودان بثاني دولة مستقلة (بعد جنوب السودان) بما يضرّ أمن مصر القومي وأمن الأمة العربية كلها.
وحذرت وكالة "اسوشيتدبرس" الأميركية، 29 أكتوبر 2025، من احتمال هذا "الانقسام الثاني" لأكبر دولة في إفريقيا مرة أخرى، بعد نحو 15 عاما من حصول جنوب السودان الغني بالنفط على استقلاله عام 2011.

تمدد إماراتي
من المتوقع أن ينتعش الدور الإماراتي في المنطقة بدعمها مليشيا حميدتي وشراء مرتزقة من كولومبيا وإفريقيا للقتال معهم. كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" في 28 أكتوبر 2025 أن جزءا من انتصارات حميدتي يعود لتكثيف الدعم العسكري الإماراتي له.
بعد سلسلة هزائم فقدت فيها المليشيا السيطرة على الخرطوم في مارس 2025، أعادت الإمارات تسليح الدعم السريع، ما مكنها من الصمود وشن هجوم جديد على الحكومة. صعدت مليشيا أبو ظبي هجومها على شمال دارفور، محاصرة الفاشر ومنعت وصول الغذاء والدواء والسلاح للمقاومة.
تقارير أميركية أكدت أن وكالة استخبارات الدفاع (DIA) ومكتب الاستخبارات التابع للخارجية رصدتا زيادة المعدات العسكرية من أبو ظبي، تشمل طائرات مسيرة صينية وأسلحة متطورة ومدفعية. كشف سودانيون أن الإمارات أرسلت 57 طائرة إمداد بالأسلحة إلى الدعم السريع خلال أكتوبر 2025 فقط، وسط اتهامات بارتكاب جرائم إبادة جماعية.
من خذلهم؟

منذ 10 مايو/أيار 2024، تحاصر قوات الدعم السريع مدينة الفاشر، وكانت فرقة الجيش السادسة التي تحمي المدينة تحاول - بدعم جوي - كسر الحصار الذي يشبه حصار الاحتلال الإسرائيلي لغزة نسبيا.
وبرغم انتصارات الجيش والمقاومة الشعبية وتحريرها الخرطوم وأم درمان وغيرها من المدن في كردفان قرب الفاشر وتوقع رفع الحصار عنها والانتقال لمواقع حميدتي في الأربع ولايات الأخرى التي يسيطر عليها في دارفور، حدثت انتكاسة مفاجئة.
بدأت هذه الانتكاسة بقيام البرهان بالهجوم على فصائل المقاومة الشعبية الإسلامية، التي تساند الجيش وكانت سببا في انتصاراته الأخيرة، وسن قوانين لتحجيمها.
وهو ما اضطر أكبر كتيبة هي "البراء بن مالك" لترك السلاح في مواجهة الدعم السريع.
لذا، يرى مراقبون أن من خذل الفاشر فعليًا هو قيادة الجيش السوداني، بقبولها الشروط الأميركية، وعلى رأسها الابتعاد عن إيران التي دعمت الجيش بطائرات مسيرة في أصعب مراحله، قبل أن تتدخل تركيا لاحقًا.
كما وُجّهت انتقادات حادة لحاكم دارفور، مني أركو مناوي، الذي اتُهم بالتخلي عن المدينة وسكانها، وتركهم يواجهون القتل والمجازر دون حماية أو موقف حاسم.
ويقول محللون سودانيون: إن البرهان خذل دارفور أيضا حين أزاح عددا من قيادات الجيش بذريعة خلفيتهم الإسلامية، انصياعا أيضا للشروط الأميركية والمصرية، بقرارات 17 أغسطس/آب 2025، تضمنت عزل جنرالات إسلاميين ساندوه في الحرب، وترقية آخرين.
ودعا الصحفي السوداني عزمي عبد الرازق إلى إعلان حالة الطوارئ الوطنية، وإعادة الضباط والجنود المفصولين الذين أثبتوا كفاءة في "معركة الكرامة"، للاستفادة من خبراتهم في مواجهة التحديات الراهنة.
كما طالب بفك القيود عن "لواء البراء" والسماح له بالتحرك الميداني الفوري، وتحديد موقف واضح من “الرباعية الدولية” التي التزمت الصمت إزاء حصار الفاشر والاعتداءات على المدنيين، في وقت تسعى فيه لإعادة تلميع صورة "دقلو" كطرف سياسي.
وعقب انسحاب الجيش، أعلنت المقاومة الشعبية التي تضم فصائل ذات طابع إسلامي، استمرارها في الدفاع عن الفاشر، رغم تراجع سيطرتها إلى جيوب قليلة ما تزال تقاتل. ووجهت اتهامات للبرهان بالتخاذل.
ونشرت "تنسيقية لجان المقاومة في الفاشر" عبر فيسبوك سلسلة منشورات اتهمت فيها قادة الجيش، وعلى رأسهم عبد الفتاح البرهان، بـ"الجبن والتردد"، ورفض دعم المدينة بضربات جوية، وترى أن تخليه عن المقاومة أدى إلى سقوط الفاشر.
قالوا: لا يمكن أن ننتصر في هذه الحرب في ظل وجود هذه القيادة (البرهان) على رأس القوات المسلحة"، فقد قاتل الضباط والجنود واستبسلوا لكن دفاعات الجيش والمدفعية التي تحميهم انسحبت ما سمح لمليشيا حميدتي بالتقدم.
وأكدوا أنه بينما كان المقاتلون يخططون لصدّ المليشيات واستعادة الدفاعات المتقدمة، كانت القيادة تخطط للخروج الآمن وتحتمي بالمدفعية التي أمرتها بالتراجع معها!
وبسبب هذه المقاومة أظهرت مقاطع فيديو ومجازر شبه عسكرية قامت بها قوات الدعم السريع للمقاومين في دارفور بالسودان.
وكشفت صور التقطتها شركة "بلانيت لابز" للأقمار الصناعية الخاصة، وحللتها صحيفة "واشنطن بوست"، 29 أكتوبر 2025، عن أكوام من الجثث ومركبات محترقة ودماء بسبب انتقام قوات حميدتي والمرتزقة الأجانب من سكان المدينة.
كما أكّد مختبر جامعة ييل أن المدينة "تشهد عملية تطهير عرقي ممنهجة ومتعمدة، وتهجير قسري وإعدام.
وقال ناثانيال ريموند، مدير المختبر: إن أدلة الأقمار الصناعية أظهرت وجود جثث على الأرض وتغيرًا في لونها إلى الأحمر. وفق صحيفة "الجارديان" 29 أكتوبر 2025.
مصر وسقوط الفاشر
لأن القاهرة هي المتضرر الأكبر من صعود نجم الدعم السريع في السودان وخسارة الجيش للفاشر، تحركت سريعًا لمطالبة الرباعية الدولية والولايات المتحدة بالتدخل ووقف الحرب وردع حميدتي.
وشدّد وزير الخارجية المصري، خلال اتصال هاتفي مع مستشار الرئيس الأميركي للشؤون الإفريقية على ضرورة الحفاظ على وحدة السودان وسلامة أراضيه، خشية انفصال دارفور.
وقبل سقوط الفاشر، ظهر حميدتي في مقطع فيديو يحذر فيه من أي تدخل ضد قواته، مهددًا باستهداف مناطق حيوية، ما عدّه البعض تهديدًا لمصر، خاصة مع الحديث عن دعمها للجيش السوداني.
وتشير تقارير مراكز أبحاث دولية إلى أن سقوط الفاشر لا يؤثر فقط على السودان، بل يمتد تأثيره إلى الأمن القومي المصري عبر أبعاد إستراتيجية وجيوسياسية واقتصادية، ويثير قلقًا من احتمال تكرار سيناريو انفصال جنوب السودان في دارفور.
فقد شكل "حميدتي" حكومة ومجلس رئاسي منفصل في دارفور وأدى اليمين الدستورية في أغسطس 2025، رئيسا للمجلس الرئاسي لحكومة "تأسيس" الموازية، وهو ما وصفت حكومة الخرطوم، بأنه "يدفع البلاد خطوة أقرب نحو تقسيم فعلي".
يشير تحليل لـ"منتدى الدراسات المستقبلية" (29 أكتوبر 2025) إلى أن سقوط الفاشر بيد مليشيات الدعم السريع يؤثر بشكل كبير على الأمن القومي المصري؛ إذ تعد مصر من أكثر الدول تضررا بوجود كيان مسلح قرب حدودها الجنوبية.
رغم أن دارفور ليست ضمن حوض النيل مباشرة، فإن انفصالها يؤثر على مياه النيل والسيادة على منابعها؛ حيث يُضعف تفكك السودان إلى كيانات ضعيفة قدرة مصر على التفاوض مع كيان موحد بشأن مياه النيل، خصوصًا في ظل تعنت إثيوبيا.
تعتمد مصر على التنسيق مع الخرطوم في قضايا مثل سد النهضة، وأي تفكك داخلي سوداني يجعل التنسيق شبه مستحيل، خاصة مع تقارب جنوب السودان مع إثيوبيا في ملف المياه، وقد يتكرّر الأمر مع دارفور إذا استقلت.
سيطرة حميدتي قد تسمح للإمارات بتوسيع نفوذها عند الحدود مع تشاد وإفريقيا الوسطى، مما يقلص المجال الحيوي المصري في القارة ويزيد التوترات مع أبو ظبي.
سقوط الفاشر ودارفور ضربة لمشروع “العمق الإستراتيجي المصري”؛ حيث كان استقرار السودان امتدادًا لأمن مصر القومي، وبهذا تفقد القاهرة شريكا مركزيا وتضطر للتعامل مع دويلات أو مليشيات متصارعة.
يشير البرلماني المصري السابق محمد عماد صابر إلى آثار اقتصادية أخرى على مصر، تتمثل في تضرر الأسواق الزراعية والماشية.
وأوضح أن دارفور تشكل رئة رئيسة للماشية السودانية بنسبة 25%، وسيطرة الدعم السريع عليها قد تؤدي إلى حظر التصدير إلى مصر، مما يسبب انكماشًا بين 25 و50% في الإمدادات السودانية لمصر مقارنة بما قبل الحرب، مع ارتفاع الكلفة والأسعار محليًا.
وينطبق الأمر ذاته على أسواق الحبوب والسمسم والمحاصيل بشكل عام؛ حيث تؤدي الفوضى في دارفور إلى رفع تكلفة وصولها إلى الحدود المصرية.
لذا، سيكون الأثر على مصر أمنيًا (الحدود)، وتجاريًا (التكلفة والكميات)، وماليًا (ضغط على الأسعار والعملات)، حسب البرلماني المصري.
المصادر
- Sudan war takes a turn as paramilitary force captures Darfur, threatening to split the country
- Paramilitary massacres unfolding in Sudan’s Darfur, videos show
- How U.A.E. Arms Bolstered a Sudanese Militia Accused of Genocide
- سقوط مدينة الفاشر في يد ميليشيات الدعم السريع وأثره على الأمن القومي المصري
- 'Trapped and terrified': warnings as Sudanese militia seize Darfur city














